الخميس  02 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"إشكالية الوعي العربي ". بقلم: رائد دحبور.

2014-11-25 01:29:46 AM
صورة ارشيفية

 روىً في الفكر والسياسة

تتمثَّلُ إشكاليَّة الوعي العربي في أحدى أهم جوانبها في طبيعة التَّصوُراتِ الذِّهنيَّةِ الأساسيَّة المسبقة التي يمتلكها ذلك العقل وبكونه أسيراً لها في ذات الوقت؛ وكذلك في مسألة النَّظرةِ غير الصحيحة الى الذَّات، والقصور عن فهمها، وفهم دوافعها الحقيقية، وفهم محددات سلوكها؛ ومحاولة تحقيقها وتأكيدها والدفاع عنها باستخدام وسائل الدِّفاع عن الذَّات سيكولوجيَّاً وسلوكيَّاً.

 فعلى صعيد التَّصَوُّرات الذِّهنيَّة؛ يمكننا القول: إنَّها بمثابة الخرائط الَّتي نرسمها في أذهاننا للواقع الَّذي نعيش فيه؛ أو نستهدف الوصول إليه؛ وهي في جزءٍ منها تتضمن صورة عن ذواتنا، وكيف نراها من الداخل؛ وعندما تكونُ هذه الخرائط غير صحيحة أو غير دقيقة أو مُشَوَّهة؛ أو تحمل أسماءً وعناوينَ غير صحيحة؛ فإنَّها تَعْكِسُ صورةً مُضَلِّلَة وغير مُطابقة للواقع الخارجي أو لواقع الذات ومكوناتها الداخلية؛ وبالتَّالي تؤدِي الى سلوك طرقٍ غير صحيحة لا تُوصلُ الى الأهدافِ المَرْجُوَّة والى العناوين الصحيحة.

إنَّ الوعي العربي؛ والعقليَّة العربيَّة قدْ تمَّ صياغتهما وعبر حِقَبٍ تاريخيَّة مُتَّصِلة؛ ضمن بنيانٍ عاطفيٍ ووجدانيٍّ إنفعاليْ دِفاعي؛ وليس على أساسٍ عقلاني منطقي، إدراكي، بالمعنى الصحيح بحيث يراعي العناصر الأساسية والفاعلةِ لمكونات الواقع ؛ وفي ذات الوقت فقد تمَّ صياغتهما في بيئةِ الإغترابِ عن سياق التَّطوُّرات والتَّحوُّلات المنهجيَّة الكبرى الَّتي اعتَرَت العالم على صعيد المعرفة والعلوم والثقافات الإنسانيَّة والمسارات الحضاريَّة والمدنيَّة الَّتي واصلت تحوُّلاتها ونموّها منذ أواسط القرن السَّادس عشر الميلادي وحتَّى الآن؛ مِمَّا أدَّى الى أنْ تعيش الشخصيَّة العربيَّة على مستوى الثقافة والوجدان والسلوك حالة انفصام؛ تَتَبدَّى آثارها في أزمة الهويَّة والإنتماء والتَّخلُّف والإغتراب الحضاري؛ وضعف الإرادة؛ وفقدان التوازن والضعف في مواجهة التحدِّيات الدَّاخليَّة المُتَّصِلة بواقع التجزئة المُزْمِنْ وبحاجات النُّمو والتنمية الشَّاملة؛ وبالعجز عن استثمار موارد وثروات الوطن العربي وتوزيعها بشكل عادلٍ؛ ووضعها ضمن الإرادة العربية الحرة والمستقلَّة وضمن صيغ من التعاون الحقيقي والتكامل الفعَّال.

وكذلك الحال فيما يتعلَّق بالتحديات الخارجية المتمثِّلة بواقع الهيمنة والسيطرة الأجنبيَّة؛ وبفقدان الدَّور الفاعل والإفتقار الى أي فاعليَّةٍ حقيقيَّة في مجريات السياسات الإقليميَّة والدوليَّة؛ التي تُلقي في الغالب بآثارها وتفاعلاتها على امتداد مساحات الوطن العربي؛ الَّذي هو ملعبها وهدفها في آنٍ معاً.

حتَّى الآن لم يتم تناول إشكاليَّة الوعي العربي بجرأة وبموضوعيَّة وضمن سياقها التاريخي، كسببٍ وكنتيجةٍ في آنٍ معاً، وذلك بكل ما يتصل بمكونات الثقافة الدينيَّة والإجتماعيَّة أو بما يتَّصل منها بالمشاعر القوميَّة حيث تعوم تلك المفاهيم في فضاء الشعارات والأطر النظرية غير محددة المعالم بدقة، فحتَّى الآن لم يتم تناول كثيراً من المفاهيم وضمن هيكليتها وسياقها السيكولوجي والإدراكي، وتحديداً تناول الموروث الثقافي الديني في سياقه التاريخي بشكل سليم، بعيداً عن منهج الإعتقاد بالصِّحة المطلقة لكثير من جوانب ذلك الموروث من جهة وعدم محاولة التمييز الجريء والعقلاني بين ما هو إنساني أو ما هو إلهي؛ أو مهاجمة ذلك الموروث بتطرُّف كردَّةِ فعلٍ على ما يُعتَقَد أنَّه يمثِّلُ السبب الأساسي للتخلُّف.

وعلى كل حال لم يتم إلى الآن الإشارة وبكل صراحة إلى أنَّ تلك الإشكالية تتعلَّق وبشكل أساسي بطبيعة تكوين العقل العربي وبعدم قدرته على التمييز بين ما هو أساسي وبين ما هو ثانوي في الثقافة الموروثة؛ وبين ما هو ضروري ورئيسي واستراتيجي من أهداف وعلاقات في البيئة الإقليمية والدولية بحيث تحفظ شخصية وأهمية ودور الأمة العربية؛ وبين ما هو ثانوي من أهداف وطارىء من علاقات في البيئة المحيطة دولياً وإقليمياً، وذلك يتصل، وفي الأساس، بأنماط الإدراك التي يفرزها ذلك العقل فيما يخص رؤيته الإنتقائية المحكومة لما يراهُ من ضرورات المصالح الطارئة؛ والتي هي أساس ومُحَدِد لطبيعة تفاعله مع الواقع. كما أنَّ أنماط الإدراك تلك هي التي تحكم على مقدارِ فاعلية وجدوى وأهمية محاولاته التصدي لتحديات النمو والتطور والتفاعل الصحيح مع الأمم والثقافات ومفرزاتها، ومع العلوم والمعارف التي تنتمي للحضاراتِ المتعددة والمتنوعة ومنتجاتها.

 لا يزال العقل العربي أسيراً لعوامل ولمفاعيل ولنتائج التجارب التاريخية الفاشلة، وما زال أسيراً لمنهج التبرير ولمنهج إجترار الماضي دون تمييز بين غثِّه وسمينه، وما زال يغرق في تفاصيل تبرير دوافع وسلوك الشخصيَّة العربيَّة التي عانت وما زالت تُعاني من الإنفصام بين وجدانها وثقافتها الفردية والجَمْعيَّة وسمَاتها الحضاريَّة ومنظومة القيم المستقرة في وجدانها، وعقلها الواعي والّلاواعي، على حد سواء؛ وبين سلوكها العملي ومقتضيات الرَّاهن، وضرورات المستقبل، وعلى هذه القاعدة شاهدنا الشعارات العائمة تطفو على سطح الوعي والعقل والسلوك العربي طيلة عقود طويلة من الزَّمن، ومنذ أن ظهرت حركة النهضة العربية مع نهايات العهد التركي بما له وما عليه، وبداية عهد الإستعمار والسيطرة الأجنبيَّة الغربيَّة، فكانت شعارات الحركة القومية في الحرية والوحدة والإشتراكيَّة، وشعارات الحركات والأحزاب اليسارية والماركسيَّة فيما يتصل نَظَرِيَّاً بمفاهيم النُّظم الشُّموليَّة وبمفاهيم العدالة الإجتماعيَّة وبمفاهيم الإشتراكيَّة، وبالمفاهيم المُتَّصِلة بمنهج الفكر المادي كوسيلةٍ نَظَرِيَّة من وسائل علاج وتجاوز عمق مستوى العجز والتَّخلُّف لدى المجتمعات العربية.

وكانت كذلك شعارات الحركات الإسلامية العائمة في فضاءِات العواطف الوجدانية، كشعار العودة الى الأصول وكشعارِ الإسلام هو الحل دون امتلاك الرؤية الواقعية لذلك؛ ودون صياغة المنهج الذي يوافق الرَّاهن وتبدلاته المتسارعة.

كل هذه الشعارات تم إطلاقها على ضفافِ الحركات القومية واليسارية والإسلامية دون برامج تفصيلية حقيقية؛ وبغير إطارٍ منهجي فلسفي وواقِعي وعملي يتصدَّى لحل المسألة الأساسية المتصلة بكيفية إدراك الواقع على أسس صحيحة، وبكيفية صياغة الوعي، وصياغة التَّصَوُّرات الذِّهنيَّة بعيداً عن منطق التحيُّز الأعمى والمطلق المتَّصِلُ بالمبالغة في تقدير وتعظيم الذَّات على أسس مُبْهمة، ودون إمتلاك المقومات الحقيقية لذلك التقدير المبالغ فيه؛ وغير المُسْتَنِد الى أسباب ومقوِّمات الفاعليَّة والكفاءَة والقوة؛ مِمَّا كان يفضي في أغلب الأحيان إلى خيبات أملٍ متكررة، عزّزَت في النهاية من مفاهيم ومشاعر فقدان الثقة بالنفس، وأدت الى الإخفاق وتعميق الأزمات؛ بدلاَ من أن تؤدِّي الى معالجتها ومعالجة آثارها؛ كما كان مُفْتَرَض !!.