الإثنين  02 كانون الأول 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

ناصر القدوة: أوسلو.. الاعترافات المتبادلة غير المتكافئة بين "إسرائيل" والمنظمة

2018-09-25 03:13:20 PM
ناصر القدوة: أوسلو.. الاعترافات المتبادلة غير المتكافئة بين
د. ناصر القدوة

 

الحدث الفلسطيني

بعد مرور 25 عاما على اتفاقية أوسلو، ما زالت الاتفاقية محلا للجدل والمراجعات والنقد بين مكونات الشعب الفلسطيني ونخبه السياسية والثقافية والشعبية. وبمناسبة ذكرى التوقيع على الاتفاقية؛ ألقى وزير الشؤون الخارجية السابق د. ناصر القدوة كلمة له في الجامعة الأمريكية في القاهرة، جاء نصها على النحو التالي:

كانت الفكرة المركزية في اتفاقات أوسلو أو اتفاق إعلان المبادئ للعام 1993، وما تلاها من اتفاقيات بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة إسرائيل هي إقامة ترتيبات حكم ذاتي انتقالي للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة لمدة خمس سنوات، يتخللها مفاوضات بما لا يتجاوز السنة الثالثة على الوضع النهائي أو الحل الدائم.

لم تكن هذه المرة الأولى التي طرحت فيها هذه الفكرة، حيث ظهرت أولاً في العام 1978 باعتبارها الفكرة المركزية لإطار السلام في الشرق الأوسط بين مصر وإسرائيل الذي توصل له أنور السادات ومناحيم بيغن برعاية جيمي كارتر في كامب دايفيد بالولايات المتحدة الأمريكية. ومنذ ذلك الوقت مثلت حجر الزاوية والفكرة المركزية لأية سياسات أو مبادرات إسرائيلية أو أمريكية مع بعض الزيادات أو النواقص حسب الظروف السائدة حينها.

عوار الفكرة أنها لا تقر بحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف بما فيها حق تقرير المصير والاستقلال الوطني، ولا تقر بوجود الاحتلال الإسرائيلي وإنهاء هذا الاحتلال، إضافة إلى أن عدم الاتفاق مقدماً على الشكل النهائي للحل يخضع الأمر برمته لرغبات الطرف الأقوى وهو هنا إسرائيل.

إذا ما وضعنا العوار المشار له أعلاه جانباً، ونظرنا لإطار السلام في الشرق الأوسط، سنجد أن اللغة كانت واضحة تتحدث عن حكم ذاتي كامل للسكان وعن التفاوض على الوضع النهائي للضفة الغربية وقطاع غزة على أساس القرار 242 بكل أجزائه. الضعف الأساسي كان في الأمور المتعلقة بالشعب الفلسطيني: الاعتراف، التمثيل السياسي والمشاركة. كان هناك ذكر للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ومتطلباته العادلة ولكن الاتفاقية (الإطار) ككل تحدثت عن سكان الضفة الغربية والقطاع، وعملياً أوكلت التفاوض في مرحلتيه إلى مصر والأردن بمشاركة فلسطينية. إطار السلام رُفض فلسطينياً بشكل قاطع ولم يُحقق أي تقدم بسبب الوضع العربي عندها.

في العام 1982 إثر حرب لبنان وربما بسببها طرح الرئيس الأمريكي ريغان مبادرة للسلام في الشرق الأوسط، تضمنت الحكم الذاتي الكامل والانتقالي لسكان الضفة والقطاع لمدة خمسة سنوات، ثم التفاوض حول الوضع النهائي على أساس 242. استخدم ريغان هنا نفس اللغة الواردة في إطار السلام في الشرق الأوسط وأقر بالتزام إدارته بما جاء فيه. وأضاف ريغان للفكرة المركزية انطباق القرار 242 على الضفة والقطاع، ودعا الى تجميد المستعمرات، وأكد أن الولايات المتحدة لن تدعم سيطرة إسرائيل الدائمة على الضفة والقطاع، وأنها ستدعم كيان فلسطيني بالتعاون مع الأردن (عارض الدولة الفلسطينية). بالنسبة للقدس قال ريغان إنها يجب أن لا تقسم ولكن وضعها يجب أن يخضع للتفاوض بين الجانبين. لم يقبل الجانب الفلسطيني والعربي مبادرة ريغان لكن إسرائيل رفضتها بقوة بسبب الإضافات التي طرحها ريغان على الفكرة المركزية.

إثر حرب الخليج في العام 1991 تمت الدعوة لمؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط من قبل الرئيس بوش والرئيس جورباتشوف، وذلك للتفاوض بين إسرائيل والدول العربية، والتفاوض بين إسرائيل والفلسطينيين، الذين سيكونون ضمن وفد أردني- فلسطيني مشترك، على أن تكون المفاوضات على مسارين: ثنائي ومتعدد بمشاركة عربية ودولية واسعة. كررت دعوة مؤتمر مدريد للسلام نفس الفكرة وإن بلغة أضعف حول إقامة ترتيبات حكم ذاتي مؤقت لمدة خمس سنوات والتفاوض حول الوضع النهائي بما لا يتجاوز السنة الثالثة. وأعطت فترة عام للتوصل إلى الاتفاق حول السنوات الخمس. المشاركة الفلسطينية في الوفد المشترك تجاوزت التمثيل الرسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية واقتصرت على سكان الضفة الغربية والقطاع مع استثناء سكان القدس. لم يرد شيء عن الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة أو السياسية. قبلت م.ت.ف. بما سبق، أي بالصيغة الأسوأ للفكرة المركزية، وأعطت غطاءً سياسياً للوفد الفلسطيني في الوفد الأردني- الفلسطيني المشترك. ويبدو أن هذا الموقف مرده انهيار النظام العربي إثر حرب الخليج والعزلة الفلسطينية عربياً إضافة إلى انهيار المعسكر الاشتراكي وتهاوي الاتحاد السوفييتي، وكلا الأمرين يعني تغييراً جدياً في ميزان القوى.

في العام 1993 تمت إقامة قناة حوار سرية بين حكومة إسرائيل و م.ت.ف. في أوسلو. قادت هذه الحوارات إلى الاعتراف المتبادل والذي بمقتضاه اعترفت م.ت.ف. "بحق دولة إسرائيل في العيش بسلام وأمن" واعترفت حكومة إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها "الممثل للشعب الفلسطيني". جوهر اتفاقية إعلان المبادئ هو نفس فكرة ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي لفترة خمسة سنوات يليها مفاوضات بما لا يتجاوز السنة الثالثة حول الوضع النهائي أو الحل الدائم. تم الاتفاق أيضاً على إضافة فكرة البدء بغزة وأريحا بشكل سريع وقبل انتخاب السلطة.

العوار في جوهر اتفاق إعلان المبادئ هو نفس العوار المتعلق بفكرة المرحلة الانتقالية وترتيبات الحكم الذاتي الوارد أعلاه. إذا وضعنا هذا جانباً فإن إعلان المبادئ جاء متقدماً عن ترتيبات مدريد بما في ذلك اعتراف إسرائيل الواضح بالحقوق المشروعة والسياسية، للشعب الفلسطيني ومتطلباته العادلة واعترافها بمنظمة التحرير كممثل لهذا الشعب واستعدادها للتفاوض معها. كذلك أقرت إسرائيل بقضايا محددة تخضع للتفاوض على الحل الدائم من بينها القدس واللاجئين، هذا إلى جانب قبولها بمشاركة سكان القدس الفلسطينيين في انتخابات مجلس السلطة، وكلاهما يعني أن وضع القدس النهائي سيخضع للتفاوض (بالإضافة إلى تعهدات إسرائيل في المحافظة على المؤسسات الفلسطينية في القدس الواردة في رسالة شمعون بيريز لوزير خارجية النرويج). وبشكل عام فإن المنطق الداخلي للاتفاقية كان يشير إلى آفاق إيجابية لاحقة تنتهي بالاعتراف بالكيانية الفلسطينية وغالباً بدولة فلسطينية بافتراض حسن نية الجانب الإسرائيلي.

بالمقابل جاءت نصوص الاتفاق بشكل عام قاصرة، حتى بالمقارنة مع إطار السلام في الشرق الأوسط، الذي تحدث عن حكم ذاتي كامل وليس ترتيبات حكم ذاتي. النصوص جاءت مشوشة وغير واضحة في كثير من الأحيان خاصة فيما يتعلق بالانسحابات أو إعادة التموضع وفيما يتعلق بنقل الصلاحيات. الخلل الأبرز كان عدم النص على وقف المستعمرات وهو ما كان قد ورد في مبادرة ريغان.

ظهر هنا أيضاً التفاوت بين الإرادة السياسية للقيادة الفلسطينية التي تصر على الدولة، والقدرات المهنية والفنية الفلسطينية في مجال التفاوض والصياغة. رأينا انتزاع القيادة الفلسطينية لأمور لم تكن أصلاً في الاتفاق مثل اسم السلطة وشكلها، القريب من الدولة، بما في ذلك وجود السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية. ومثل مطار غزة ومثل عودة جميع القيادات بالإضافة لأعداد كبيرة من الفلسطينيين في الخارج ..الخ بينما مهنياً وفنياً كانت الأمور تعود إلى الوراء مع كل اتفاق جديد:

أبرز مثال هنا هو ما ورد في اتفاق إعلان المبادئ حول موضوع ولاية السلطة، ثم ما تم الاتفاق عليه حول تقسيم الضفة إلى أ و ب و ج ، وهو ما يقود عملياً إلى نتيجة معاكسة. في إعلان المبادئ النص هو أن ولاية المجلس تشمل الضفة الغربية والقطاع ماعدا قضايا الحل النهائي ومن بينها المستعمرات ومواقع الجيش الإسرائيلي، بينما في الاتفاقات اللاحقة أصبحت إسرائيل مسؤولة عن كل المنطقة مسؤولية أمنية و مدنية أو مسؤولية أمنية فقط باستثناء المراكز السكانية الفلسطينية. مثال بارز آخر هو بروتوكول باريس الاقتصادي للعام 1994 الذي أقر بهيمنة إسرائيلية كاملة على الحياة الاقتصادية الفلسطينية.

قاد الخلل في النصوص والتفاوت بين المعنى السياسي العام والتفاصيل، والتفاوت بين الإرادة السياسة في الجانبين مع النصوص الواردة؛ إلى مواجهة أو أزمة مستمرة بين الجانبين حتى في فترة وجود نوايا إسرائيلية معقولة بشأن تطبيق الاتفاق. ولكن وبالإضافة لهذا قام معارضو الاتفاق على الجانبين بهجمات مباشرة تهدف إلى تقويضه بدأت بمجزرة الحرم الإبراهيمي التي ارتكبها باروخ جولدشتاين، وبالمقابل جرت هجمات تفجيرية عديدة ضد أهداف إسرائيلية بدت وكأنها مصممة لإنهاء السلطة والاتفاق. ثم أصبح واضحاً أن التيار اليميني الإسرائيلي، الذي ازداد قوة بسبب تلك الهجمات يدفع باتجاه الانقلاب على أوسلو والعودة لفكرة "أرض إسرائيل الكاملة" وإنكار حتى وجود الشعب الفلسطيني، ورأينا تطورات عديدة بدأت باغتيال إسحاق رابين في نوفمبر 95 والذي كان تعبيراً دموياً عن ازدياد المعارضة الجماهيرية والمؤسساتية الإسرائيلية للاتفاق، والذي مثل ضربة قوية لكل العملية السلمية، ثم رأينا انتهاء فترة السنوات الخمس دون أي مراجعة حقيقية أو أي تغيير. بعد ذلك ظهرت التطورات التالية:

- إعادة احتلال مناطق السلطة وتدمير البنية التحتية وأجهزة السلطة بما في ذلك الأجهزة والقدرات الأمنية.

- حصار الرئيس ياسر عرفات ولاحقاً اغتياله.

- مشروع الانسحاب الأحادي الجانب من غزة والتغاضي عن سيطرة حماس على القطاع وهو ما قاد إلى فصل القطاع عن الضفة.

- الإمعان في الاستعمار الاستيطاني وأحياناً بسرعات مذهلة، حتى أصبح عدد المستعمرين الآن ثمانمائة ألف مستعمر مقارنة بحوالي مائتي ألف حين إبرام الاتفاق.

- أسرلة القدس والعمل على فصلها وإنهاء الوجود الرسمي الفلسطيني فيها ومحاربة حتى الوجود الشعبي .

- عودة الحكومة العسكرية وإعادة إنشاء إدارة مدنية ولو بشكل مختلف باسم منسق النشاطات الإسرائيلية.

- الاستئثار كلياً بمعبر الكرامة (مع الأردن).

- مؤخراً حتى محاولة تغيير الإطار القانوني والتشريعي للضفة الغربية ومحاولة فرض القانون الإسرائيلي على المستعمرات.

مع كل هذه التطورات انتهت عملياً اتفاقات أوسلو، وفي الحقيقة تتصرف الأطراف المعنية ومنذ فترة وكأن الاتفاقات غير قائمة، ولكن دون الإعلان عن إنهاء الاتفاقات أو إلغائها. إسرائيل لا تحاول حتى ادعاء التوفيق بين سياساتها وإجراءاتها من جهة والاتفاقية من جهة أخرى والكثيرين من مسؤوليها أصبحوا يتحدثون علناً عن إنتهاء اتفاق أوسلو، ونجاح الاستراتيجيات البديلة. فلسطين من ناحيتها عززت تحركها الدولي نحو تعزيز المركز القانوني لدولة فلسطين ورفع مستوى شكواها ضد إسرائيل أمام المحافل الدولية. حتى الولايات المتحدة ومنذ جورج بوش تتحدث عن الدولة الفلسطينية والتسوية النهائية وبالمقابل تقوم مؤخراً إدارة ترمب باتخاذ خطوات حول القدس واللاجئين و م.ت.ف. يبدو منها أن الإدارة تتجاوز اتفاقات أوسلو تماماً.

عدم الإعلان عن إنهاء الاتفاق أو إلغائه مرده في الغالب أن أي من الأطراف لا يريد تحمل المسؤولية القانونية والسياسية الناتجة عن الإجهار الرسمي بمثل هذا الموقف. ومرده أيضاً على الأرجح أنه وبالنسبة لإسرائيل من المعقول المحافظة على ما تبقى عملياً من الاتفاقات وهو سلطة فلسطينية مقلصة الصلاحيات للحد الأدنى، يشكل الجهاز الأمني وتعاونه مع إسرائيل الجزء الأهم فيها. أما بالنسبة للجانب الفلسطيني فيبدو من الصعب التخلي عن هذه السلطة بالرغم من كل سلبياتها لأسباب عديدة أهمها مسؤولية السلطة تجاه الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والقطاع.

ما العمل إذاً، ما هي الدروس المستفادة، وما هي الاستراتيجية الفلسطينية البديلة؟

لعل الدرس الأهم هو ضرورة رفض أي حل انتقالي يجهل الحل النهائي، وضرورة الإصرار على تحديد الحل النهائي أولاً حتى لو تضمن الأمر مرحلية في التنفيذ. والدرس الثاني هو ضرورة رفض احتكار الولايات المتحدة للوساطة، وهي الرافضة للقانون الدولي والشرعية الدولية، وضرورة الإصرار على المسؤولية الدولية والآلية الدولية الواسعة التي تضمن الحد الأدنى من الحيادية والموضوعية. أما الإستراتيجية، فهي أمر معقد وتفصيلي لكن أعتقد أن أية إستراتيجية فلسطينية ناجعة في هذه المرحلة يجب أن تتضمن العناصر التالية:

- التمسك الحازم بوجود دولة فلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وأن الهدف الوطني المشترك هو تحقيق الاستقلال الوطني في دولة فلسطين ( ليس إقامة دولة فلسطين القائمة فعلاً).

- محاربة الاستعمار الاستيطاني في دولة فلسطين باعتباره الخطر المركزي، شعبياً وعلى المستوى الإقليمي والدولي.

-  وضع خطط عمل متعلقة بالقدس تقود إلى تعزيز الوجود الفلسطيني في المدينة ومحاربة الأسرلة، ومتعلقة بموضوع اللاجئين بما في ذلك طرح أملاك اللاجئين، كما ورد في وثائق لجنة التوفيق للأمم المتحدة بشأن فلسطين، بشكل جدي إلى جانب حقوق اللاجئين الثابتة الأخرى.

- إعادة صياغة السلطة مع ترحيل الكثير من المسؤوليات لمنظمة التحرير، وإعادة بناء الأجهزة الأمنية على أساس عقيدة جديدة.

أخيراً، ليس من السهل إذاً تقييم اتفاقيات أوسلو بشكل مبسط، أو إطلاق أحكام مختزلة بشأنها خاصة باستخدام كلمة واحدة على غرار: جيدة، سيئة، مصيبة، لا بد منها، يجب إلغاءها، يجب إبقاءها. المسألة معقدة، وبالتالي التقييم والأحكام يجب أيضاً أن تكون معقدة حتى يمكن لنا أن نتعامل مع الوضع بالشكل اللازم.