الثلاثاء  19 آذار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"أصنام العقل الأربعة" بقلم: رائد دحبور

2019-04-19 10:40:37 PM
رائد دحبور

أصنامُ العقل وهي أربعة: أوهامُ القبيلة، وأوهام الكهف، وأوهام السُّوق، وأوهام المَسْرَحْ.

إنَّ العقلَ – بحسَبِ الفيلسوف فرانسيس بيكون ( 1561 م – 1626 م) هو أداة تجريد وتصنيف ومُمَاثَلة، وإذا تُرِكَ يجري على سليقته انقادَ إلى أوهام طبيعيَّة وأصليَّة فيه، ومضى في جَدَلٍ عقيمٍ يقومُ على تمييزاتٍ لا طائِلَ منها؛ ولأجْلِ تكوين العقل الجديد الذي يتلاءَم مع عصر النَّهضة وفق ما رأى بيكون وهو أحد فلاسفة عصر النَّهضة الأوروبيين البارزين؛ فلا بد من منطق جديد يؤسس الاستكشاف والقناعات العقليَّة على أساس التَّجربة والمشاهدات وتنويع التَّجارب.

هكذا - على الأرجح – يمكننا أنْ نفهم فلسفة فرانسيس بيكون ووجهة نظره تجاه دقَّة الاستكشاف العلمي أو منهج فحص دقة النظريات العلميَّة والمعرفيَّة. وقد انسحب ذلك على منهج نقده للعقل المُفْعَم بأوهام السَّليقة التَّقليديَّة أو القائمة على التَّقليد، وهذا المنهج من النقد الذي يقدِّمه " بيكون " على سبيل المثال، يبرز أمامنا عندما نحاول دراسة تاريخ الفلسفة في عصر النَّهضة. وما أحوجَنا إلى دراسة معمَّقة في ذلك المساق من تاريخ الفلسفة في ذلك العصر تحديداً لنفهم أكثر أسبابَ قُصورِنا وتخلُّفِنا المُزْمِن عن ركبِ الأمم وعن ركبِ النَّهضة والتَّنوير؛ بسبب أوهام وأصنام ما زالت ماثلة في عقولنا.. هذا لا يعني أنْ نتبنَّى بشكلٍ كامل – وعلى نحوٍ مُطْلَق – ما ذهب إليه " فرانسيس بيكون " في نقده للعقل.

بما أنَّ العقل أداة تجريد للأشياء، بمعنى أنَّه يقوم برسم صور ذهنيَّة تجريديَّة ونمطيَّة تتأثَّر بالتَّقليد في الغالب، كما أنَّه يقوم بخلق انطباعات أوليَّة تتحوَّل إلى مفاهيم وأفكار مستقرَّة تأخذ صفة التكرار والاستنساخ تجاه تعريفه للأشياء، وقد تختلط هذه الانطباعات بجملةٍ من الأوهام؛ فلا بد حيال ذلك من حصر هذه الأوهام للاحتراز منها، وقد سمَّاها " بيكون " أصنام العقل، وبحسب ما ينقل " يوسف كرم " في كتابه " تاريخ الفلسفة في عصر النَّهضة " فهي أربعة أنواع، سأحاول هنا اقتباسَ عناوينها ومحاولة تبسيط شرحها ما أمكن:

( 1 ): النَّوع الأوَّل، أوهام القبيلة: وهي ناشئة من طبيعة الإنسان؛ لذا فقد كانت مشتركة بين جميع أفراده؛ فنحنُ ميَّالون بالطَّبع إلى تعميم بعض الحالات دون الالتفات إلى الحالات المُعارِضة لها، وبالتَّالي تحويل المُمَاثَلةِ الجزئيَّة إلى تشابُه وتواطُؤ أو مُطابَقة تامَّة، وهذا يقودُنا إلى الافتراض – على سبيل المثال – أنَّ في الطَّبيعة من النِّظام والاطِّراد أكثر مما هو مُتحقق فيها، كما يقودنا ذلك إلى أن نقيس أفعال الطَّبيعة على مثال الفعل الإنساني الإدراكي أو العصبي أو البيولوجي، أيْ كأنَّها واعية – بمعنى تنميط الظَّواهر الطَّبيعيَّة وفق نمط إدراكِنا لأفعالنا ولردود أفعالِنا ولأحاسيسنا واستجاباتِنا – فنتصور أنَّ أفعال الطَّبيعة لها غايات وعلل غائيَّة؛ قياساً على تصوُّرِنا للدوافع التي تحرِّك سلوكنا، وهذا أحد النَّماذج على استسلام العقل لمنطق التَّعميمات في تفسيره للظواهر وفي حكمه عليها، وهذا بحد ذاته أحد الأوهام التي تقود العقل إلى الوقوع في خطأ إصدار الأحكام وإخفاقه في تحليل سبب وسياقات الظَّواهر المختلفة، طبيعيَّة وإنسانيَّة اجتماعيَّة ثقافيَّة وسياسيَّة.. إنَّ هذا المنطق العقلي بالإجمال ينتمي إلى صيغة تشبه صيغة الانتماء الإدراكي والوجداني والسُّلوكي والانفعالي للقبيلة والالتصاق بما تُمليه القبيلة من وجهات نظر وتصدره من أحكام وتتمسَّك به من تقاليد وأعراف ومواقف، والانصهار في طريقة تفكير العقل الجماعي الكُلِّي للقبيلة.

( 2 ): النَّوع الثَّاني، أوهام الكهف: وهي ناشئة من الطَّبيعة الفرديَّة لكلٍّ مِنَّا، فالفرديَّة – أو الشُّعور العميق بالفردانيَّة والتَّفرُّد أو صيغ التَّوَحُّد مع الذَّات - بمثابة الكهف الأفلاطوني، فمن هذا الكهف ننظر إلى العالم، وعلى جُدرانه الدَّاخليَّة ينعكس نور الطَّبيعة فيتَّخِذُ لوناً خاصَّاً. وهذه الأوهام إذاً صادرة عن الاستعدادات الأصليَّة وعن التربية والعلاقات الاجتماعيَّة والمُطالعات، فهناك بين النَّاس من هم أكثر ميلاً إلى الانتباه إلى ما بين الأشياءِ من تنوُّع وتباين، بينما الآخرون أكثر ميلاً إلى البحث عن أوجه الشَّبه والمُمَاثلة وفق صيغ ومنطق مُطابقة الأشياء مع بعضها، وإلى غير ذلك من الاتِّجاهات التي نُدْرِك بها أوجه الشَّبه والاختلاف بين الأشياء والظَّواهر وما يتبع ذلك من مواقف وأحكام ووجهات نظر.

( 3 ): النَّوع الثَّالث، أوهام السُّوق: وهي النَّاشئة من الألفاظ – أو المصطلحات التَّعبيريَّة المُعبِّرة عن مفاهيمنا للأشياء – فالألفاظ أو التَّعبيرات اللغويَّة والاصطلاحات تتكوَّن في إطار هذه الأوهام – المُريحة والممتعة -  طبقاً للحاجات العمليَّة أو الذَّرائعيَّة والتَّصوُّرات العامِيَّة أو السطحيَّة والتَّسطيحيَّة – بمعنى تسطيح المعاني وإفقادها أي عمق مُفترض وجوهري – وفي هذه الحالة تُسيطر السَّطحيَّة والعاميَّة والتَّعميمات الهلاميَّة والأُخْيُولات على تصوُّراتِنا للأشياء، وتُوضع ألفاظ لأشياء افتراضيَّة غير موجودة أصلاً، أو لأشياءٍ غامضة ومتناقضة، وهذا أصل كثير من المُناقشات التي تدورُ وتتمحور كلها على مجرَّد ألفاظ وتعبيرات عائمة غير محددة المضامين والمعاني.

( 4 ): النَّوع الرَّابع، أوهام المَسْرَحْ: وهذه الأوهام تأتي مِمَّا تتخذه النَّظريات - والفرضيات والثقافات والأعراف - المُتوارثة من مقامٍ ونفوذ، وهنا ربَّما من الصَّعب التمييز بين طبيعة هذه الأوهام وبين ما تتضمنه تلك أوهام المتصلة بأوهام القبيلة والسُّوق – من حيث تفسير الأشياء بصورة نمطيَّة أو بألفاظ مجرَّدة – علماً أنَّ " بيكون " يذكر هنا أنَّ من بين أوهام المسرح وأسبابها هو ما يتصل بتكوين الطَّبيعة الفرديَّة عبر المطالعة والتثقيف، بمعنى المنهج التثقيفي ومواده، إضافة إلى ما تفرضه الأعراف السائدة وما تفرضه مقتضيات السُّلطة.