الحدث- نغم عيسى
من كان يظنُ أنّ عبورَ مسلكٍ خاطئ عن غير قصد قد يقودك إلى أسوأ تجارِب حياتك.
(كنت ملخومة.. والقيود تضغط على يدي وقدمي وتربطها بالسرير) حروفٌ جسدت حالة الذعر التي أصابت رغد نصر الله (18 عاما) عندما انهالت عليها صرخات جنود الاحتلال لتتبعها رصاصةٌ اخترقت قدمها من الجهة اليمنى لتغادرها من الجهة الثانية.
وجُلّ ما فعلته أنها ضلّت السبيلَ على حاجز قلنديا.
"أنا انحبست أربعة أشهر بس الأسبوع اللي قضيته في المستشفى كان عن الحبسة كلها"، تقول رغد.
وتضيف أنه وبعد أن استقرت الرصاصة في قدمها تركوها وحيدةً تنزف على الأرض لمدة ساعة كاملة، ودون أي مساعدةٍ طبية، ليصل إسعاف نجمة داوود بعدها ليتم نقلها إلى المستشفى، حيث اقتصر دور المستشفى على لف قدم رغد بشاشٍ أبيض فقط، ليبدأ المحققون في التناوب على التحقيق مع الطفلة المُصابة، ليدخل المحقق الأول بوجهه الحاقد صارخاً: أنتِ مخربة... أنتِ إرهابية. وأخذ يُلقي سيلاً من الاتهامات الباطلة بلا توقف.
وبعد ساعة يُطل عليها المحقق الثاني بصوته المخيف قائلاً: "ماذا كانت تفعل السكين معك يا رغد" فنظرت له رغد باستغرابٍ، فهي لم تكن تحمل سكيناً ولا تملك أدنى فكرةٍ عمّا يتحدث.
وتستمر الجولات بنفس الأسلوب و اختلاف الوجوه، ثم يدخل المحقق الثالث ويبدأ ابتزاز رغد بشقيقتها الصغرى وعائلتها، مُخبراً إياها أن جنود الاحتلال قد اقتحموا بيتها واعتقلوا أفراداً من عائلتها.
ولم يقف العذاب عند التحقيق؛ فقد حاول المستوطنون اقتحام غرفة رغد والتهجم عليها وقذفوها بشتائم لا تفهم معناها! لتنهي رغد أخيراً أسبوعها الأولَ والأطول، من رحلة الاعتقال.
كان أسبوعاً صعباً، إذ لم تنم رغد طيلة هذه المدة، فكيفَ تستسلم للنوم والقيود تضغط على يديها وقدميها وتربطها بالسرير!
والجنود يقفون على يمين سريرها ويساره يُراقبونها.. طوال الوقت!
عند وصول رغد السجن، كان موعد آذان المغرب وكانت الأسيرات في هشارون منهمكاتٍ بتحضير مائدة الإفطار.
لينظرنَ إلى الباب فإذا بفتاةٍ في الثامنة عشر من عمرها، تسيرُ بصعوبةٍ بسبب قدمها التي تنزف إثر إصابتها، فقامت عميدة الأسيرات لينا الجربوني وأحضرت لها كرسياً، فجلست رغد عليه والدموع تنهمر من عينيها قائلةً: "بدي أمي".
احتضنتها لينا وقالت لها: "أنتِ صرتي بالسجن أهلك مش هون".
ثم جلست مع الأسيرات تشاركهن وجبة الإفطار التي كانت غريبة بالنسبة لها (معكرونة باللبن) فتذكرت طعام أمها وغرفتها، وبكت مجدداً.
وفي منتصف الليل تستيقظ رغد على صوت سجانةٍ تقول: (رغد قومي بوسطة)، فكلبشت السجانة يد رغد في يد زميلتها، وقدم رغد في قدم زميلتها التي كانت تسير على مهلٍ محاولةً مواكبة رغد في مشيتها البطيئة بسبب الإصابة.
حتى وصلن الأقفاص، فسمعت رغد صوت صراخ وبكاء دون أن تعلم ماذا يحصل، وحين جاء دورها دخلت رغد إلى كابينة التفتيش فصرخت السجانة "رغد اخلعي ملابسك!" فرفضت رغد وكررت السجانة الصراخ والضرب لتُجبرها أخيراً على أن تخضع للتفتيش العاري.
خرجت رغد من كابينة التفتيش إلى البوسطة الباردة، وجلست على مقعدٍ حديدي وقد باغتتها الدورة الشهرية، وطلبت من السجانة فوطة صحية، وبعد غياب ثلاث ساعات أحضرت السجانة لرغد قصاصة محارم لا يتجاوز طولها 5 سم!!
فقامت إحدى الأسيرات بقطع جزءٍ من ملابسها وأعطته لرغد، لعلها تساعدها.
وبعد مرور ساعات ونزيف قدم رغد لا يتوقف من الثانية مساءً حتى السابعة صباحاً، سألت رغد السجانة: "ليش ما ناديتوا على اسمي أطلع للمحكمة؟"
ردت السجانة وبكل برود أحضرناكِ بالخطأ.
ثم عادت رغد إلى سجن هشارون وكان يوم الإثنين أي يوم الزيارة عند الأسيرات، فجلست رغد تنظر إلى زميلاتها اللواتي يعدن بأخبار من عائلاتهن، متأملةً أن يأتي أحد لزيارتها لكن الاحتلال وضع أهلها تحت الرفض الأمني ومنعهم من الزيارة .
وبعد مرور أربعة أشهر على الاعتقال، وفي آخر ليلة لها في السجن، جلست رغد وعيونها تهرب من النظر إلى صديقتها أنسام، التي ساندتها طيلة فترة الأسر.
فقالت أنسام وهي تدير وجهها إلى الجهة الأخرى: "رغد خديني معك"، فبكت رغد بحرقة ولم تقل شيئاً.
ومع شروق الشمس بدأت أصوات الفرح والزغاريد احتفالاً بخروج رغد من الأسر.
"أول مرة بشوف الشمس مش مشبكة وبشم هوا نظيف ما في كلمات بتوصف اللحظة".
يوم الجمعة 11-11-2016 على حاجز جبارة في طولكرم، وبعد غياب أربعة أشهر، عانقت رغد أسرتها بحرارة الشوق والحرية، لتكمل حياتها الجامعية مع جهاز طبي لازم قدمها نتيجة الإهمال الطبي الذي تعرضت له في الأسر .