”لا وجود للقانون إلا بين قوتين متساويتين بالقوة، أو متساويتين بالضعف. فإذا اختلت موازين القوى، فالقوة هي القانون“- عبد الرزاق السنهوري.
بينما تتهاوى عمليًا كل مرتكزات «حلّ الدولتين» على الأرض، وتتمدّد الوقائع الاستيطانية والقانونية التي تُقنّن التفوّق القومي، يبرز في الحيّز الفلسطيني–العربي والعالمي طرحٌ يعود بجذوره إلى ما قبل أوسلو، لكنه يعود اليوم بثوبٍ تنظيمي أكثر تماسكًا وتطورا، «حملة الدولة الديمقراطية الواحدة». هذه المبادرة، التي تضمّ فاعلين فلسطينيين وشركاء من اعراق مختلفة معارضين للأبرتهايد، تطرح تصورًا واضحًا لدولة ديمقراطية دستورية واحدة بين النهر والبحر، «دولة لكلّ مواطنيها» بما يشمل اللاجئين وحقّ عودتهم، ومواطنة متساوية بلا امتيازات إثنية ولا امتيازات دينية. الوثيقة التأسيسية بالعربية تحدّد المبادئ والآليات، ونظامٍ يضمن العدالة الانتقالية وجبر الضرر.
على خلاف ما يبدو مفارقا في ظل المقتلة الصهيونية المتواصلة في غزة، وخطة التطهير العرقي في الضفة الغربية، والتمييز البنيوي داخل الخط الأخضر، أن تُطرح حلولٌ سياسية مثل إقامة الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين التاريخية، ليس ترفا سياسيا، بل هو تعبير عن الإصرار على مواصلة الكفاح التحرري.
يصر المنادون بهذا الحل على مواصلة العمل والتنظيم حوله. ويرى المنخرطون بهذا الجهد جزءا من النضال التحرري الفلسطيني، الممتد على ما يزيد عن قرن من الزمان. على مدار العقدين الماضيين، عُقدت مؤتمرات عدة في دول غربية حول الدولة الواحدة، وصدرت بيانات وأدبيات كثيرة وغنية حول مستقبل فلسطين، كدولة ديمقراطية يعيش فيها الفلسطينيون واليهود الإسرائيليون على أنقاض نظام الاستعمار والفصل العنصري، كما ظهرت حركات تتبنى رسميا هذا الحل. ولكن جميع هذه المحاولات والمبادرات لم تتحول بعد الى حركة سياسية وازنة تكون لاعباً سياسيآ مؤثرا. ولذلك انطلقت من حيفا مبادرة أخرى عام ٢٠١٨، هي "حملة الدولة الديمقراطية الواحدة"، يقودها فلسطينيون من كافة تجمعات الشعب الفلسطيني، وينخرط فيها مثقفون يهود مناهضون للصهيونية، وتطمح الحملة إلى التحول إلى حركة سياسية شعبية.
لماذا الآن؟
ليس ادّعاءً أن الحديث عن «الدولتين» صار أقرب إلى الغطاء الدبلوماسي منه إلى مسارٍ سياسي. فالقانون الأساسي الإسرائيلي لعام ٢٠١٨ («قانون القومية») نصّ صراحةً على أن إسرائيل هي «دولة قومية للشعب اليهودي» وأن «تطوير الاستيطان اليهودي قيمة وطنية»، مع تخفيض مكانة العربي إلى «مكانة خاصة»؛ وهو ما انتقدته حتى مؤسسات قانونية إسرائيلية باعتباره قانونًا يفتقر إلى مبدأ ”المساواة“، فهذا الإطار القانوني يؤطر مواطنة فلسطينيي الداخل ويشرعن تمييزًا بنيويًا.
وتلك ليست مقولات ناشطين فحسب. منظمات حقوقية كبرى — إسرائيلية ودولية — وصفت المنظومة بأنها نظام أبرتهايد يمارس التفوّق الإثني ويُجزّئ الفلسطينيين في أنظمة قانونية متعددة. تقارير «بيتسيلم» و«هيومن رايتس ووتش» و«العفو الدولية» وفّرت إطارًا حقوقيًا صلبًا للاتهام. ومع تفجّر حرب الإبادة ضد غزة منذ تشرين الأول/أكتوبر ٢٠٢٣، أصدرَت محكمة العدل الدولية أوامرَ بالتدابير المؤقتة في قضية الإبادة الجماعية، ما عزّز سردية أنّ المسألة لم تعد «نزاعًا حدوديًا»، بل لم تكن يوما كذلك، بل صراعا كولونياليا استئصاليا. صحيح أنّ المحكمة لم تفصل في الجوهر بعد، لكن أوامرها المتعاقبة تعكس خطورة الوضع وحاجة المجتمع الدولي لضمان الحماية ووقف الأذى.
ما الذي تقترحه الحملة فعلاً؟
في لبّ الوثيقة التأسيسية للحملة: دولة دستورية ديمقراطية واحدة على كامل فلسطين التاريخية، مواطنة متساوية لجميع السكان، عودة اللاجئين وفق القرار ١٩٤ وآليات تنفيذ عملية، فصل للدين عن الدولة مع ضمان الحرّيات الدينية، لغتان رسميتان (العربية والعبرية)، ونظام تمثيل يضمن عدم هيمنة جماعة قومية على أخرى. كما تحدد الوثيقة مسارات العدالة الانتقالية: من الاعتراف بالانتهاكات التاريخية إلى إعادة الممتلكات/التعويض، وإصلاح القطاعين الأمني والقضائي، ومأسسة ذاكرة جمعية متعددة السرديات. هذا الإطار لا «يمحو» الهويات، بل «ينزِّلها» من مرتبة الامتياز السياسي إلى مرتبة الهوية الثقافية المحمية دستوريًا.
المهم هنا أنّ الحملة ليست «بيان نوايا» فحسب، بل برنامج تعبئة؛ بناء جبهة مدنية عابرة للجغرافيا (البلاد / الشتات) لنقل مركز الثقل من «دبلوماسية المانحين» إلى حركة حقوق مدنية – تحررية، وإطلاق أدوات عملية (لوبيات، نقابات، مجالس طلابية، اتحادات مهنية، إنتاج معرفة وسياسات). هذا التحويل في التموضع يسعى لتوحيد ساحاتٍ أفقدها التقطيع الجغرافي والسياسي القدرة على الفعل المشترك.
فالنظام القائم بين النهر والبحر — بوصفه استعمارًا استيطانيًا وفصلًا عنصريًا — لا يهدّد الفلسطينيين وحدهم، بل يضرب استقرار المنطقة ويُبقيها رهينة حروب دائمة. إنّ كسر هذه الحلقة لا يتمّ عبر مساومات مرحلية أثبتت فشلها، إنما عبر تبنّي مشروع تحرري وطني وديمقراطي يفتح أفقًا جديدًا للعدالة، ويعيد صياغة العلاقة بين الشعوب والدول في المشرق.
تُجمع أدبيات الحملة على أنّ التحدّي الحقيقي لا يكمن في رسم «النموذج المثالي» للدولة الواحدة بقدر ما يكمن في بناء القوة الاجتماعية والسياسية القادرة على حمله والدفاع عنه. من هنا، يتحرّك المشروع في مسارات متوازية ومترابطة: أوّلها توحيد الخطاب والبرنامج، عبر نقل النقاش من ثنائية «الكيانين» إلى سؤال «الحقوق المتساوية»، وصياغة وثائق سياسات قطاعية — في الأمن والقضاء والملكية وحقوق اللاجئين والتعليم — تُطرح للنقاش العام والأكاديمي، عربيًا وعالميًا، لتؤسّس لرؤية عملية وليست مجرد شعارات. وثانيها بناء تحالفات شعبية ومؤسسية عابرة للحدود، تشمل النقابات والجامعات واتحادات الطلبة والأطر المهنية، بل وحتى البلديات في العالم العربي والدولي، بحيث تتبنّى مناهضة نظام الأبارتهايد وتدعم رؤية المساواة، عبر أدوات معرفية وقانونية من لوبيات ودعاوى وحملات مقاطعة متخصصة. أما المسار الثالث فهو فضح سياسة فرض الحقائق على الأرض: توثيق الاستيطان والعنف والهدم، واستخدام منصات الأمم المتحدة وتقارير المنظمات الحقوقية الدولية والإسرائيلية لتعزيز مصداقية الخطاب وتحصينه أمام الرأي العام وصانعي القرار.
وعلى هذا الأساس، ترتسم استراتيجيات الحملة في ثلاث دوائر رئيسية: التأطير الفكري والإعلامي الذي يعيد الاعتبار لمشروع الدولة الواحدة كخيار تحرري مرتبط بالعدالة الانتقالية كما حدث في جنوب أفريقيا؛ العمل القانوني الدولي الذي يستند إلى تقارير مجلس حقوق الإنسان ومحكمة العدل الدولية والمنظمات الحقوقية لترسيخ أنّ الوضع القائم ليس «نزاعًا» بل جريمة أبارتهايد؛ وأخيرًا الحشد الشعبي والشراكات العابرة للحدود، من خلال منصات تفتح النقاش بين الفلسطينيين والإسرائيليين المناهضين للصهيونية وحركات التضامن العالمية، بما يسمح بإنتاج برنامج سياسي جامع يتجاوز الانقسامات.
بينما تفشل القيادات الرسمية الفلسطينية والعربية في بلورة أفق، تبدو هذه المبادرة كمشروع بديل يستعيد روح التحرر الوطني، ويضع فلسطين مجددًا في قلب معادلة التحرر الإنساني العالمي. وكما انه ليس شأنًا فلسطينيًا داخليًا فحسب؛ بل هو قضية عربية وإنسانية بامتياز.
هذه ليست وصفة فورية، لكنها الطريق الوحيد المعروف في خبرات التحول من أنظمة فصل وهيمنة — من جنوب أفريقيا إلى البوسنة وإن بتجارب متباينة — نحو عقد اجتماعي جديد.
من هنا، تصبح حملة «الدولة الواحدة» دعوةً لكل القوى العربية التقدمية، وللمجتمع المدني والإعلام، للإنخراط في بلورة خطاب بديل، يعيد للقضية مركزيتها بوصفها قضية تحرر إنساني، لا ملفًا تفاوضيًا عالقًا. ففلسطين التي تُطرح اليوم كـ«وطن لكل مواطنيه» ليست فقط استعادة للحق الفلسطيني، بل هي أيضًا مشروع أوسع يقدّم نموذجًا للمنطقة؛ أنّ العدالة هي الطريق الوحيد للأمن والاستقرار لنظام إقليمي مستقر.
قد يبدو الطريق طويلًا، ومحفوفًا بالأسئلة الصعبة، وهذا صحيح ودقيق، لكن البديل هو تكريس نظام فصلٍ إلى ما لا نهاية، وإخضاع فلسطين وشعبها لخطر التهجير والتطهير العرقي، مما يعني خلق مقدمات جديدة لحروب قادمة.
بعد أن أراد الغرب أن يتخلّص من "المسألة اليهودية" بإلقائها في الشرق، فإذا به يخلق مسألة أكبر؛ وجود كيان غريب. وهذه ليست قوة الغرب، بل فضيحته.
إسرائيل التي قامت على جثة التاريخ ودعم الغرب ما زالت، بعد عقود الدم والحديد، كيانًا يبحث عن شرعية لم يحصل عليها، ووجودًا لم يستقر يومًا. الفلسطيني، بضعفه، أسقط أسطورة الاستقرار؛ وبقاؤه وحده إعلان يومي أن المشروع الصهيوني فشل قبل أن يكتمل.
ثم يأتيك الفسطيني بكامل عناده، ويعيد تعريف القوة، ولو بالصبر على استمرار المحاولة لفرض معنى المستقبل، فاستكانتنا أو مقاومتنا هي التي ترسم حدوده ومصيره.
حين نطرح الحل العادل بصوتنا، لا كضحية بل كأصحاب حق، فإننا نضع أمام العالم الخيار الوحيد الممكن: العدل أو الفوضى.
اما عن مستقبل الوجود اليهودي في فلسطين لا يمكن أن يُقاس بالقوة العسكرية ولا بالدعم الغربي وحده، بل بالمنطق العميق الذي يحكم المجتمعات الاستيطانية. التجارب الإنسانية تُثبت أن الهويات القسرية لا تدوم؛ الفرنسيون الكاثوليك لم يبتلعوا البروتستانت، والأفارقة لم يذوبوا في الاستعمار الأبيض، بل العكس هو الذي حصل. القوة المادية وحدها لم تمنح الاستعمار بقاءً دائمًا، لأنه افتقر للشرعية الأخلاقية والسياسية، واليهود عاشوا في هذه الأرض قبل المشروع الصهيوني، كأقلية طبيعية بين المسلمين والمسيحيين، جزءًا من النسيج الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، ولم يكن وجودهم يومًا إشكاليًا. الإشكال وُلد مع ظهور الصهيونية كحركة أوروبية استعمارية، وتحويل يهود أوروبا إلى أداة استعمارية.
ومن يصرّ على التمسك بالكيان الاستعماري، فإن وجوده مشروط بعمر هذا الوهم،المؤقت؛ لأن هذا المشروع يفتقر إلى ما يمنحه التاريخ حق البقاء.
برأيي، إعادة طرح مشروع الدولة الواحدة الديمقراطية ليست طوباوية، بل هي الاستجابة الوحيدة العادلة، والمنطقية لانسداد كل المسارات الأخرى.
الدراسات السوسيولوجية حول "المجتمعات الاستيطانية" (كما عند باتريك وولف وولتر بنيامين وغيرهما) تُظهر أن الاستعمار الاستيطاني ليس حدثًا عابرًا بل "بنية" هدفها الجوهري إلغاء الآخر. ولأن الفلسطيني لم يُمحَ، ولم يُزَح من تاريخه وأرضه، فإن هذه البنية تظل ناقصة، معلقة، محكومة بالانهيار، إذا لم يتحوّل المستوطن، إلى مواطنٍ في دولة شرعية جامعة، فإنه يبقى كيانًا طفيليًا ينهار بزوال منظومة القوة التي تحميه.
ربما، نراها فكرة حالمة، لكن لا نستطيع أن نحلم بوطن مُحرر، إن لم نؤمن أننا قادرون على تحريره.
وفي سياقٍ إقليمي مثقل، فإن تحويل النقاش من «سؤال السيادة المُجزأة» إلى «سؤال الحقوق الجامعة» هو، بذاته، بداية سياسة جديدة، وقوة.
نراها قريبة!