الحدث - محمد عابد
في المكان الذي اشتراه جده سنة 1936؛ يعمل جمال محمد الفاخوري (52 عاما) من بلدة جبع جنوب جنين في تشكيل الفخار، فكان هو الفرد الوحيد الذي تعلمها بالوراثة عن والده من بين ثمانية أخوة، وأبوه تعلمها من أجداده، فعمرها ما يقارب ثلاثمائة عام في بيتهم.
دخلت في هذا المعمل الذي يقدر عمره بمئات السنين، في 21 أيلول 2019، فوجدت الطينة التي تتنقل بين عدة مراحل حتى تصل شكلها النهائي، جاهزة ليستعملها الفاخوري في صناعة المزهريات والأباريق ورؤوس الشيشة.
تبهرك الآلات القديمة كلما التفت يمينا ويسارا، وينتابك الفضول لمعرفة طريقة عملها، وعن ذلك يقول الفاخوري: تعلمتها من بداية عمري كالتعليم بالمدرسة، وكنت دائما ما ألاصق أبي لأساعده، وهو ما دفعني لتقليده، ولأني أحببت هذه الصنعة تعلمتها تلقائيا.
ابنه صائب، ذو العشرة أعوام، تغمره ابتسامة تشعرك بالقدر الذي يحب فيه هذا العمل، يقول: في البداية كانت "تخبيص" ولعب بالعجينة، فكنا أولادا، ولكن بعد ذلك عندما كان والدي يعمل شيئا أقلده، "فكانت تخرب في المرة الأولى والثانية والثالثة ولكن أصمم على أن أعمل نفس القطعة التي صنعها أبي حتى أنجح".
مزهريات وأباريق مصففة بجانب بعضها البعض، وتنتظر المرحلة النهائية لتكون جاهزة للبيع، ويبين الفاخوري: "هذه المهنة فن يدوي لا يمكن العمل به من خلال قوالب، فالدولاب فقط كهربائي ولكن من أجل أن تبقى الطينة تدور وقبل الكهرباء كان يتحرك يدويا".
تدور المروحة التي يقدر قطرها بخمسة وعشرين سم وترتفع عن الأرض بحدود خمسة عشر سم، محدثة بعض الصوت. ويستكمل الفاخوري كلامه: عندما يكون لديك صنعة، تكون بمثابة باب رزق لديك، وهذا لم يكن في ذهني في البداية، ولكن بعد أن كبرت وأصبحت واعيا أدركت ذلك، فحاليا هي ليست فقط من الأجداد وإنما مصدر دخل.
وتابع الفاخوري أنه يستعمل في صناعة الفخار نوعين هما التربة الحمراء (السمقة) وتربة الزمهري (يكون لونها مائل إلى الأزرق)، "ونخلط التربتين مع بعضهما بطريقة التصويل كتصويل الشيد (التذويب في الماء بعد تصفيتهن من الشوائب) وننقعهما في الماء لمدة عام كامل، حتى تصبح قاسية وقابلة للعمل، وهذه هي أول خطوة لإنتاج الفخار، بعد ذلك نعجن التربة، ومن ثم نأخذها على الدولاب لبدء العمل بها وصناعة الأشكال".
ويضيف الفاخوري: "التربة موجودة في أرض لنا من القدم، وما زلنا حتى اللحظة نحصل منها على التربة"
كان جالسا في مكان عمله، مدليا رجليه بحفرة يوجد بها الدولاب، فتارة يضغط برجله على كبسة الكهرباء ليدور وتارة يفصلها، ويوضح: "وقت العمل يختلف من قطعة لأخرى فمثلا الإبريق يحتاج أربعة أيام، أولا القاع ثانيا البدن ثالثا الباب رابعا "الزعبوبة" (المكان الذي يسكب منه الماء في الوعاء) واليد، بينما المزهرية تحتاج لدقائق معدودة تكون جاهزة كتكوين قبل الحرق".
ويوضح الفاخوري: "بعد الانتهاء من عملية التشكيل نصل مرحلة الحرق حيث يوجد فرن خاص لحرقه، وإذا لم يحرق يبقى كأي طينة أخرى أي شيء يخربه، بينما بعد الحرق يعيش آلاف السنين دون أن يحصل له شيء".
توجهنا معه لنرى الفرن الذي حدثنا عنه وسألته عن بعض التفاصيل فيبين الفاخوري: يتكون من بيت النار الذي يعتليه شكل القبة وفيها عدة فتحات لخروج النار ووصولها إلى القطع المشكلة، وتصل النار الموجودة لدرجة حرارة ألف مئوية، فنوقده من الحطب والجفت والكراتين فهو فرن بدائي.
وبعد أن وصلنا للفرن وألقينا عدة نظرات عليه ختم الفاخوري حديثه بأنه علم هذه المهنة لأبنائه لأنها متوارثة عندهم من القدم فلا يريد أن يدثرها وتصبح منسية فهي تراث قديم ومتمسك به.