الأحد  05 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

مفاجآت العالم الأخضر

فصول من كتاب الزيارة /4

2015-03-10 02:08:12 PM
مفاجآت العالم الأخضر
صورة ارشيفية
سلطان القيسي 
 
المفاجآت في القدس تأتي تباعاً، فتحت الإنبوكس فإذا بطارق البكري يراسلني للمرة الأولى، يطلب رقم موبايلي، أرسلته، اتصل بي: بعد ساعة سآخذك جولةً في القدس، لنذهب غداً إلى يافا، لم أجبه، ربما قلت : ممم ، ففهم موافقتي. لم يعلم طارق البكري حتى الآن أنني رحت في تيار بكاءٍ جديد، حين انتهت المكالمة، بكيت و ضربت المخدة و السرير، ونفسي أيضاً. طارق البكري موثقٌ و مصوّر، متتبعٌ منقطع النظير لتاريخ القدس و فلسطين المحتلة كلها، يخرج كل يوم من بيته، مجهزا بعتادٍ لا يخذله، الكاميرا و الفكرة، ولا شيء آخر..
طوفنا في شوارع القدس، حول المركز، أعني طبعا الحرم، مررنا بفندق الملك داوود الذي شيّدته عائلة مصرية قبل الاحتلال يدلل على ذلك النقش الذي أشار إليه طارق " لوكنده الملك داوود" ، هذا الفندق الذي صار موطئاً رسمياً للرؤساء الذين يزورون كيان العدو على أساس دوبلوماسي، تقابله عمارة الأخوين ديفد، التي تعود لفلسطينيين استطاع محامٍ مقدسي أن يعيدها إليهما، فصار اليهود يكسرون اللافتة التي تحكي قصتها، و يعيد الفلسطينيون تعليق لافتة جديدة، كما يشرح طارق. مررنا أيضاً بمبنى البريد الفلسطيني الذي صار اسمه "مبنى البريد الإسرائيلي"، وكان طارق يشرح لي عن الدور التي تحمل المدينة، الحجر الكبير و القرميد يعني أن هذا البيت عربيٌّ، و اليهود يفخرون بأنهم يسكنون بيتاً عربياً، و يتباهون بالآيات القرآنية المنقوشة على جدرانها لأنها تعدّ دليلا دامغا على عروبة البيت، ما يعني ثماً باهظا. القرميد.. القرميد الذي يتوج الآن المستوطنات اليهودية حديثة البناء أيضاً.
القدس أكبر مما نراها في التلفزيون و البوستر، القدس كل الدوائر المتسعة جدا التي تطوق قبة الصخرة، و ليست القبة فقط، مدينة فخمة جداً، مبانٍ تاريخية، شوارع واسعة جداً، تنظيم فاره، وكما أكدَّ لي طارق بالصور التي جمعها من أرشيف أصدقائه و عائلته فإن دولة الاحتلال لم تُضِف إلا القليل القليل، عماراتٍ زجاجيةٍ مثلاً، وأنفاقاً تمت إضافتها في غير دولةٍ عربية مجاورة، أعني أن ما فعله الاحتلال من تطوير للبلد ليس إلا أمراً كان لا بد من حدوثه، على يد أي سلطة تحكم فلسطين.
صباح اليوم التالي قفزتُ إلى الشارع، وأنّبتُ نفسي كثيراً، قلتُ: ستمشي في القدس كواحد من أبنائها، لن تسأل أحداً عن أي عنوان أو معلم. فعلتُ ذلك، صرت أتتبع اللافتات، وإذ بي في " المصرارة" قرب "باب العمود"، اعتذرت من أصدقاء طيبين كثر، كنتُ أنوي لقاءهم في الصباح، لأن التحدي صار كبيراً، صار علي أن أدمغ صورة القدس في رأسي خلال ساعة واحدة أو اثنتين، قبل أن يصل البكري لنمشي إلى يافا، يبدو الأمر مضحكاً، لم أرَ يافا منذ 66 عاماً رغم أنني في الثلاثين من عمري.
اتصل بي البكري: أين أنت؟
أجبت: في المصرارة.
طارق: دقائق وأكون هناك، أنا الآن بباب الفندق الذي تنزل فيه.
أنا: سآتيك أنا، تلافياً لأزمة السير و الخطى التي تغرق فيها المصرارة.
طارق: حسناً، بانتظارك.
 
وصلت منطقة الفندق، وإذ بطارق يهزُّ رأسه ضاحكاً: "شو يا إبن القدس؟ صرت تعرف مناطق الأزمات كمان ؟! ". في كل مرة أظلم طارق و أقول: "لم يكن يدرك.. لا يدرك.. لن يدرك " ولكن الحقيقة أن هذا الفتى المجنون و المعجون من نحاس التحدي و طين الحفزِ يدرك و يحس كل شيء، فقد شدّني من كتفي مستعجلاً، ربما اختصاراً لموقف الدمعة، و شاغلني عن البكاء بقصة الصور، التي يريد تثبيتها على القبور..
في طريق القدس يافا، أخبرني أنه يريد أن يمرّ باللطرون، ليضع صوراً لشهداء أردنيين قضوا هناك على قبورهم التي اكتَشَفَها مؤخراً، كما يريد أن يصور هذا الفعل. مررنا باللطرون، وضعنا الصور على القبور وإذ به يناولني الكاميرا لأصوّره مع قبوره التي بقلق أمّ كان يتفقدها واحداً واحداً . لم يدرك طارق ارتباكي في تلك اللحظة التاريخية، ليس أمراً عادياً أن أحمل بيديَّ الواهنتين كاميرا طالما حَمَلَت فلسطين حارةً حارةً، و شارعاً شارعاً، ليس أمراً هيّناً أن أصوّر المقاتل في جبهته وأنا لا أعرف زر الكاميرا. مضينا إلى يافا ولم أفصح لطارق بشيء. كذلك لم أرسل له دمعتي التي سقطت في عمّان حين رأيت صورته في الصحف وهو يحرسُ القبورَ والصورَ ..صورته التي أخذتها أنا في لحظةِ إغماءٍ تامّ مثل فاصلةٍ وقعت في النَّص فجأة.
السجاد الأخضر كان يلفع الجبال على طول الطريق، مررنا ببيت محسير، و حللنا باللطرون، رأيت في الطريق سروات مختلفات و مؤتلفات، رفيعاتٍ و طويلاتٍ، رأيتُ سروةً عريضة كامرأة في الخمسين أنجبت أحدَ عشرَ بطناً، و رأيتُ سروةً مدببة تَخِزُ بطنَ السماء، تقفان على جانبِ الطريق، فخلتهما امرأة و بنتها تنتظران تاكسي يقلهما إلى البحر.
عندما رأيت طيارة على ارتفاعٍ قريبٍ، سقطَ قلبي، إذ عرفتُ أننا اقتربنا  من مطار اللد، الذي يطلق عليه الاحتلال " مطار بنغوريون"، هذا المطار الذي يقع في آخر اللد و يمتدّ ليدخل أراضي قريتي اليافاوية " كفرعانة"، التي تستقبل الرائحين إلى يافا بالفطر و البلوط القديم، قريتي صار اسمها "أور يهودا"، حين قرأت الاسم ضحكتُ ساخرا من الاحتلال، ضحكتُ من الاسم الذي لا يشبه البلد، ومن الوقت الطويل الذي أمضاه هذا الاسم الجديد على اللافتة التي تقف على باب البلد، دون أن يعتقد به الفلسطينيون. أيها الاحتلال الغبي، سيظل اسمها كفرعانة..
دخلنا كفرعانة ليتآمر علي القدر مع طارق البكري و فيروز، التي راحت تغني في سيارة طارق: " سنرجع يوماً إلى حيّنا" تلك القصيدة التي كتبها الشاعر الفلسطيني هارون هاشم رشيد، لتذكرنا فنبكي عجزنا كل صباح.
الميادين الثلاثة الأولى التي تستقبلك في  كفرعانة، يتحلى كلٌّ منها بتمثال معدني، الأول على هيئة شجرة بلوط، والثاني على هيئة فطر، و الثالث قطيع مواشٍ، هذه الثقافة التي يتمتع بها المحتل، في محاولةٍ للسيطرة على التاريخ، أغاظتني طوال الرحلة، أغاظتني معرفتهم بطبيعة الأرض جغرافيا و تاريخاً، فيما لا يعبأ الفلسطيني بأمر كهذا، من ناحية ما سيكون هذا أمراً مبرراً و عادياً، فالفلسطيني كشجرة على أحد الجبال، أو كموجةٍ على الساحل السوريّ، لن يحتاجَ أكثر من ملامحهِ وحنطة البشرةِ وشوكولاتة العينين، وكاف القرويين، أو المدود العجيبة التي يفعلها أولاد المدن، والألف المتوسطية التي تميل إلى الياء، ليثبت ارتباطه التاريخي و الأبدي بالأرض، هذا ما يعوّضه المحتل بالقراءة المطوّلة في تاريخ المنطقة الحقيقي، والتأليف المتواصل لأساطير تشبه المكان ولا تشبه المؤلفين. ولكن الأمر يرعبني حين أتذكر سؤالا طرحته على ولد في الحجاز في السعودية: ما هي عاصمة فلسطين ؟ فأجاب : غزة.
نحن كفلسطينيين و كعرب في أشد الحاجة إلى الثقافة الواعية، فلو انطلقت ثورات الربيع العربي من المكتبات لغيرت العالم، ولكنها انطلقت من ضجيج الشارع لتظل ضجيجا مزعجاً، و" جعجعة دون طحن".