الخميس  25 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

كلماتُهم مزعجة/ بقلم: عبدالله لحلوح

2021-08-29 08:19:22 AM
كلماتُهم مزعجة/ بقلم: عبدالله لحلوح
عبدالله لحلوح

"هل غادرَ الشعراءُ سيدنا الوَطنْ… أم أنَّهمْ خُلِقوا ليبتلعوا المِحَنْ؟

فاقرأ سلامَ اللهِ فوقَ صدورِهم… متزيِّنينَ، بحيثُ يتَّسِخُ الزَّمَنْ"

نعم، في زمنٍ أصبحَ فيه الأديبُ معقول اللسان، محفوفًا بشرطةِ الآداب، ومعصوبًا بشريطةِ الضباب، فإنَّه لمن الحقِّ أن تُقال كلمة في هذا الباب، وأن يُعاد التفكيرُ في الأمر، والقضيةُ لا وجهة نظرٍ فيها، فإنَّ ما اعتدناهُ هو أن يُحارَبَ أُدباءُ المقاومة، أو يُسجَنوا، أو يُنفوا من الأرض، ثمَّ لا يزيدهم ذلك إلا مجدًا وعزًّا؛ لأنَّ الخصمَ هو الآخرُ المحتل، القاعدُ على الصدور والسطور، تزعجه الكلماتُ الناقصة، ويحرجهُ الرمزُ، ويشوِّشُ عقلَهُ البناءُ التصويريّ، وتخيفهُ الخطوطُ المائلة، وتوجعهُ نهايات القصص المفتوحة، وعناوين الروايات الانزياحية. وهذا أمرٌ طبيعيٌّ في زمنٍ لا طبيعيٍّ، مع عدوٍّ فوق الطبيعةِ وتحتها. أما في حالتِنا العربية والفلسطينية، حين يُصبحُ الأديبُ مُصادرًا؛ لأنَّهُ صدَّرَ نصَّهُ برأيٍ صريح، بغضِّ النظرِ إن كان مزعجًا لدرجةِ الإساءة، أو كانَ رأيًا يعبِّر عن قناعةٍ فكريةٍ خاصة، فإنَّه لا يجوز بحالٍ من الأحوال أنْ يُكبَّلَ ويُلقى به في مكانٍ سحيق، فالعزلةُ للشاعرِ فسحةٌ للكتابة، وإن لم تتوفَّر له أدواتُها، فإنَّه سيكتبُ على جدارِ قلبه، وعلى أوراقِ روحه، وإن كان صوتُه خارقًا لهذه الدرجة، وأراد من أرادَ أن يخفضه بكبسةِ زِرٍّ، فإنّ اللحنَ سيرتفعُ رويدًا رويدًا إلى أن يملأ الكون، وإن كان نشازًا، فإنّه سيعود للانتظامِ عاجلًا أم آجلًا، ولا مناصَ من سماعه، ورحم الله غسان كنفاني الذي كُتِبَت له الحياة بعد مماته، إذ راحت أعمالُه تُؤْخَذُ وصفاتٍ علاجيةً بعد الأكل وقبله، وأدمنَها الأطفالُ والرجالُ علماءَ وأمّيينَ، وأثبتت نجاعتَها في درءِ كثيرٍ من الأمراض. ولم يفطن العربُ لكثيرٍ من شعرِ الشاعر عبد يغوث، بقدر ما التفتوا إلى بيتِه وهو على أبوابِ الموت:

"أقولُ وقد شدُّوا لساني بِنِسْعَةٍ… أَمَعْشَرَ تيمٍ أفلتوا من لسانيا".

فقد كان سيد قومه وشاعرهم، ولما وقع في الأسر ربط الآسرون لسانه حتى لا يهجوَهم. فممَّ كانوا خائفين؟ وماذا لو هجاهم؟

إذا كان الشاعرُ يُخيفُ إلى هذا الحد، فإنَّهُ من الأجدرِ ألا يُخَوَّفَ، بل أنْ يُخَوَّفَ به، كما خُوِّفَ الغزاةُ بجيلٍ كاملٍ من أُدباءِ المقاومة، الذين احترفوا النضالَ حرفًا وصورةً ورسمًا وصوتًا، فأزعجوا كيانًا كاملًا، ثمَّ أزعجهم ذلك الكيانُ، فكتبوا بدمهم حكايةً للانتصار، وكتبَ رفاقُهم فيهم حكاياتِ الفَخار، من كنفاني إلى كمال ناصر، إلى ناجي العلي، إلى محمود درويش وسميح القاسم وغيرهم ممن صنعوا بأدبهم آلاتٍ قتاليةً لم يتمكن المحتلُّ منها، فلجأ للدم محاولًا طمسها، فما انطمست ولا غابَ صانعوها.

إنَّ الأديب بما له من مكانةٍ وازنةٍ، وحضورٍ وارف على كل المنابر، وفي كل الساحات، لا بدَّ أنْ يُصانَ، وأن يُكرَّمَ،  لا  أن يُهان.  وألا يُجبَرَ على تغيير الحبرِ، ولا تحويل النهاياتِ إلى احتفالاتٍ غنائيةٍ بانتصاراتٍ كاذبة، بل يجب أن يُطلَقَ لسانه، حتى يكتب النهايةَ بحريِّةٍ خالصة، لتقرأ الأجيال الصاعدةُ معنى الحرية في النصوص الحرَّة، لا في النصوص المشبوهة، حيث لن يُبدِعَ المُكبَّلُ بالخوف وبالجوع، ولن يُنتجَ إلا على مقاساتٍ لا تليقُ إلا ببعضِ المرفَّهين، أما أبناءُ الأزقَّةِ والسقوفِ الواطئة، فإنه لن يرضيهم إلا النصُّ النشاز، وهذا النشازُ المزعجُ لن ينتظمَ على إيقاع الصولجانات؛ لأنه باختصار صوتُ الحياة، وما الحياةُ إلا فضاءٌ يرفضُ العتمة، ولا يُحبُّ نزلاءَها، ولا حرَّاسَها.

وهذا لا يعني أبدًا أن يسبح الأديبُ في كلِّ اتجاه، وأن يدوس على كلِّ ما يراهُ، وأن يخوض في (اللي بسوى واللي ما بسوى)، وأن يركب الموجة، فيسقط عنها في منتصف الطريق، حيث لا بدَّ من عتاد وزاد، وزاد الأديب أدبه، وحنكته وثقافته، تلك الثقافة التي تؤهله للقب، لا تلك الثقافة المُدَّعاة، التي تُكتسب من الشتائم، والإعراضِ عن كل قيمة، ظنًّا بأنه هو صاحب القيم ومشرُّعها، فهذا مما يسيءُ للأدب أيضًا، بل إنه لا يقلُّ استبدادًا بمقولة الأدب العالية، عن ذلك الاستبداد الذي تمارسه القوى الأخرى على الكلام المزعج.