الخميس  28 آذار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

شهر إدوارد سعيد.. إدوارد سعيد والموسيقى وصدى رأيه في الشعراء

بقلم: فراس حج محمد

2021-09-29 09:55:23 AM
شهر إدوارد سعيد.. إدوارد سعيد والموسيقى وصدى رأيه في الشعراء
إدوارد سعيد

الحدث الثقافي

أحاول في هذا الوقفة مع الناقد الفلسطيني إدوارد سعيد أن أبين علاقته بالموسيقى دون أن يكون العمل استقصائيا في جميع كتبه. إنما من خلال ما اطلعت عليه من مؤلفات لإدوارد سعيد وأهمها اثنان: كتاب "خارج المكان" وكتاب "عن الأسلوب المتأخر- موسيقى وأدب عبر التيار". ولا تعدو هذه الوقفة إلا أن تكون إشارة إلى جانب من جوانب شخصية فلسطينية استطاعت أن يكون لها حضور عالمي في مؤسسات بحثية غربية على قدر كبير من الرصانة، مع تسليمي بشكل شخصي أنها لم تكن تخلو من الانحياز ضد الفلسطيني أو الشرقي أو حتى المسلم بشكل عام، مع ملاحظة أن إدوارد سعيد لم يكن مسلماً، إلا إن كتابته عن الإسلام بشكل أو بآخر لم يعجب الغربيين أو بعض الأوساط المنحازة، فقد أدخلوه إلى خانة "الإرهاب والعداء للسامية"، يضاف إلى ذلك دفاعه عن القضية الفلسطينية بمنهجية واضحة وبإصرار لم يتخلّ عنهما طوال مسيرته الحياتية.

وعلى الرغم من اهتمام إدوارد سعيد بالموسيقى، وشكّل العزف على البيانو بالنسبة إليه أكثر من مجرد موهبة إلا أنه لم يُعرف موسيقيا أو ناقدا موسيقيا، وإنما مثله في مثل كثير من المبدعين الذين وجد لديهم مواهب واضحة كانت ظاهرة في حياتهم، لكنها لم تكن هي أساس مشروعهم الفكري أو الإبداعي. وأظن- من ناحية شخصية بحتة- أن تأسيس معهد إدوارد سعيد للموسيقى في فلسطين (رام الله وبيت لحم)، لم يعدُ كونه تكريماً، ولفتاً للانتباه إلى هذا الجانب من اهتماماته الشخصية التي ربما لم تكن مركزية في صلب مشروعه الفكري. إن ذلك يشبه إلى حد بعيد تسليط الأضواء على جوانب أقل بروزا في حياة سعيد الفكرية ككتابته للشعر وللروايات، كما يقول تيموثي برينان مؤلف كتاب "أمكنة العقل... حياة إدوارد سعيد"، تلك الكتابات التي لم يحالفه الحظ ليكون مبرّزا فيها، كما كان علَماً في النقد، بل وكان إشكاليا في الفكر والسياسة على حد سواء.

ومن الملاحظ أن إدوارد سعيد كان يقلل من شأن الروايات، ويعطي النقد أهمية أكبر، فالنقاد هم الأقدر- كما يعتقد سعيد- على تغيير العالم، لا الروائيون، فقد "وجد بأنّ هناك فشلاً في مشروع كتابة الأدب إذا كنت تنوي تغيير العالم".

تحدّث إدوارد سعيد في كتابه "خارج المكان" (صدر الكتاب عن دار الآداب، بيروت، ترجمة فوّاز طرابلسي، ط1، 2000) عن جوانب متعدّدة من سيرة حياته الّتي عاشها متنقلاً بين فلسطين وأمريكا ومصر، كما أشار إلى مصادر متنوّعة أثّرت في تكوين شخصيّته الثّقافيّة ومنها الموسيقيّة، وظهر إدوارد سعيد عاشقا للموسيقى الغربيّة، وخاصّة الأوبراليّة منها، وفي معرض حديثه عن ذلك تحدّث إدوارد سعيد عن رأيه في أغاني أمّ كلثوم من خلال تلك الحفلة الّتي حضرها في أواخر الأربعينيّات، ولم يكن رأي سعيد إيجابيّا في ما أدّته أمّ كلثوم حينئذٍ، فوصف تلك الحفلة بأنّها "حفلة بلا فواصل، سادها نسق غنائيّ" وجده "رتيبا إلى حدّ مروّع في اتّساق كآبته اللّا متناهية وندبه اليائس، فإذا هو أشبه بالتّأوّه والنّحيب المتواصلين لامرئ يعاني من نوبات حادّة من الألم المعويّ"، إضافة إلى هذا الرّأي في الموسيقى يقول الكاتب إنّه لم يفقه أيّ كلمة مما غنّت، ولم يستطع أن يميّز "أيّ قوام أو شكل لتدفقاتها الرّتيبة"، وأمّا التّخت الموسيقيّ الكبير الّذي صاحبها فما وجده غير "جعجعة ألحان أحاديّة الصّوت، موجعة ومملّة في آن". (ص135)

هذا الموقف الذي اتخذه إدوارد سعيد تجاه أغاني أم كلثوم، شمل فيما يبدو كل الموسيقى العربية والتخت الشرقي، فلم يحفل إدوارد سعيد بهذه الموسيقى لا من قريب ولا من بعيد، فيما اطلعت عليه من كتب.

يدفع هذا الأمر القارئ لكثير من التّساؤلات، مع التّسليم بالحكمة القائلة "وللنّاس فيما يعشقون مذاهب"، فمن تشرّب الغناء والموسيقى الغربيّة لن يكون رأيه فيما أدّته أمّ كلثوم من غناء في غالب الأحيان إيجابيّا، ويؤكّد ذلك امتداحه في الفقرة نفسها لأوبرا "أندريه شينيه" الّتي وجد فيها "حيويّة دراميّة وحبكة مسرحيّة" تجعلانه مستغرقا فيها كليّاً. كان لإدوارد سعيد من العمر عندما حضر حفلة أم كلثوم اثنتا عشرة سنة، فكان قد تشبع على مدار ست سنوات من الموسيقى الغربية من أعمال: "نيلسون إدي وجانيت ماكدونالد" المألوفة لديه حينها كما صرح بذلك.

لقد سبق هذا الحديث عن أم كلثوم حديثه في نهاية الفصل الثاني من كتاب "خارج المكان" عن تعلقه بالموسيقى الكلاسيكية وبداية تعلمه لها وهو في سن السادسة من عمره، يقول إدوارد سعيد عن ذلك: "وكنت قد بدأت -أيضًا- في تذوق الموسيقى الكلاسيكية، بجدية كبيرة. على أنه في تعلمي دروس البيانو، وقد بدأتها في السادسة، اختزلت ملكتها الذاكرة والميلوديا عندي في التدرب على السلالم الموسيقية، وممارسة تمارين (سزيرني)، وأمي حادبة عليَّ، أو جالسة إلى جانبي؛ فكانت النتيجة شعوري المتزايد بأنَّ ثمة ما يعوق تنمية شخصيتي الموسيقية. لم أشترِ الأسطوانات، ولم أستمتع بحفلات أوبرا أختارها بنفسي، قبل بلوغي الثامنة عشرة. ولما كان موسم القاهرة الموسيقي للأوبرا والباليه محظوراً عليّ، فقد لجأت إلى ما تقدمه الـ "بي.بي.سي" والإذاعة الحكومية المصرية من برامج، وكانت متعتي الكبرى الاستماع إلى برنامج الإذاعة البريطانية من خمس وأربعين دقيقة، يُذاع بعد ظهر يوم الأحد، بعنوان "ليلة في الأوبرا"، وقد اكتشفت -باكرا جدّا- من خلال الكامل في الأوبرا لجوستاف كوبيه، أنِّي أكره فيردي، وبوتشيني، لكنَّني أهوى القليل مما أعرفه عن شتراوس وفاجنر، اللذين لم أشاهد أعمالهما الأوبرالية إلا حين شارفت على نهاية المراهقة". (ص62)

وفي كتاب "عن الأسلوب المتأخر" الذي نشر بعد وفاة إدوارد سعيد، وتحديدا عام 2006، وترجمه إلى العربية أيضاً فواز الطرابلسي عام 2015، وصدر عن دار الآداب في (270) صفحة. تذكر زوجة سعيد في مقدمتها للكتاب أنه توفي وهو يؤلف في الكتاب دون أن يضع اللمسات الأخيرة عليه، لذلك قاموا هم بإنجاز هذه المهمة، ويصلح الكتاب كما أشار أحد المقدمين إلى أن يكون الكتاب أيضا دلالة على الأسلوب المتأخر لإدوارد سعيد نفسه، من حيث استقرار أسلوبه، والأفكار التي ظلت تشغل باله، وكيفية مناقشته لتلك الأفكار.

يمنح سعيد الموسيقى الغربية كل اهتمامه، ولم يتوقف عند الموسيقى العربية، ولم يذكرها في الكتاب. صحيح أن الكتاب غير مخصص في دراسة الموسيقى الغربية غير أنه شمل "مجموعة الدراسات والقصائد والروايات والأفلام والأبرات التي كتب عنها"، ومع ذلك فللموسيقى حضورها في الكتاب، وخاصة فاغنر وبيتهوفن والموسيقى الأوبرالية التي شاهد شيئا منها في صباه في القاهرة كما قال في كتابه "خارج المكان"، ويخصص الفصل الثالث منه، أي كتاب "عن الأسلوب المتأخر" للحديث عن غلين غولد الذي يصفه بـــ "العازف المُعجِز المثقف". (ينظر الكتاب، من ص201-228)

يدفع موقف إدوارد سعيد من أغاني أم كلثوم أن يستطرد المرء قليلا في هذا الموضوع، فمن اللافت للانتباه أن الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان في أحد حواراتها تتخذ الموقف ذاته من أغاني أم كلثوم، تقول عن أغاني الستّ: "إنها تعيد وتكرر كثيرا في الغناء. تكون تسمع إليها وتنتظر ما بعد لكنها تكرر وتعيد بدون جدوى، شيء يجعلك تملّ، أنا أحب صوتها لكنها تكرر"، على الرغم من أن فدوى طوقان كانت تحب أم كلثوم في شبابها كما قالت، لكنها مع التقدم في العمر، واختلاف الذائقة وتبدلها رأت ما رأت في أغانيها. إن كلماتها تكاد تتطابق مع رأي إدوارد سعيد، فهل كانت فدوى طوقان تعيد رأي سعيد وتتبناه؟ أعتقد على نحو شخصي أنها كانت متأثرة به إلى حد كبير، فلا أظن أنها لم تطلع على الكتاب أو لم تقرأه، فقد نشر عام 2000، وأجري الحوار مع الشاعرة عام 2003، في السنة التي توفيت فيها، ولا شك في أنها محض صدفة أن ترحل الشاعرة عن هذه الدنيا في العام نفسه الذي رحل فيه إدوارد سعيد، وبينهما ثلاثة أشهر فقط.

من ناحية أخرى فإنني أرى أن رأي إدوارد سعيد في أم كلثوم لم يكن غائبا عن محمود درويش؛ فنقرأ نصّا مختلفا عما ورد عند سعيد في رؤاه حول أمّ كلثوم، يصرّح به الشّاعر درويش في كتابه "أثر الفراشة" (دار الريس، يناير، 2008)، جاء هذا النّصّ تحت عنوان "إدمان الوحيد" (ص242-244)، يرى الشّاعر أنّ أمّ كلثوم الّتي يستمع لها كلّ ليلة "تقطَعنا مقطعا مقطعا بوتر سحريّ لا يحتاج إلى عود وكمان"، وعلى عكس ما وجد إدوارد سعيد وجزئيا عند فدوى طوقان من الملل والرّتابة في صوتها، وأنّه أشبه بتأوّهات من يعاني من الألم المعويّ عند سعيد، فإنّ درويشاً يرى في "حنجرتها جوقة إنشاد وأوركسترا كاملة وسراً من أسرار الله"، ويبتعد درويش أكثر في التّجلّي مستفيضا في وصف تأوّهاتها المملولة عند سعيد؛ فيصفها بأنّها متلألئة كماسة مكسورة باستطاعتها "أن تقود جيشا إلى معركة"!

فهل كان درويش يردّ في هذا النّصّ على إدوارد سعيد ويحاوره؟ لا شكّ في أنّ درويشاً قد اطّلع على رأي إدوارد سعيد وقرأ كتابه "خارج المكان"، لا سيّما وأنّه يذكر مفاصل مشتركة فيما كانت تؤدّيه أمّ كلثوم من تأوّهاتها وصرختها الغنائيّة، ويعلن عدم ضجره من طول حفلتها، فـ "لهمستها أن تمهل اللّيل فلا يتعجّل قبل أن تفتح هي أوّلا باب الفجر"؛ ولذلك تراه منتشيا بما يسمع نشوته بكأس "الخمرة الّتي تسكرنا ولا تنفد" وهي كذلك "تجنبنا الشقاء بالغناء".

ثمّة ما يستدعي الوقوف والتّأمّل فيما أورده الكاتب والمفكّر إدوارد سعيد والشّاعر محمود درويش المحمّل بالشّقاء والتّعب الوجوديّ، فممّا لا شكّ فيه أنّ طبيعة التّكوين العقليّ والعاطفيّ والظّروف الاجتماعيّة المختلفة لدى كلّ منهما انعكست كلها على تلقّي تلك الأغاني الطّويلة الّتي تحاكي العاطفة أكثر ممّا تحاكي العقل، لذلك ترى درويشا الشّاعر الحزين الّذي حرم من متع كثيرة يتماهى مع أمّ كلثوم بما تمدّه أغانيها من شجن وموسيقى يحتاجهما الشّاعر الكبير، أو على الأقلّ يتناغمان مع ما في نفسه من تشبّع بالموسيقى الرّتيبة الهادئة الّتي تسير وفق هارمونيّة معيّنة، على الرّغم من أنّ درويشا كذلك ممن يستمعون ويستمتعون بالموسيقى الغربيّة.

إن إدوارد سعيد وتنشئته الأرستقراطيّة وميله إلى الفكر دفعاه إلى أن ينفر من أم كلثوم أشدّ النّفور بالإضافة إلى طفولته التي كانت مشبعة بالروح الموسيقية الغربية، فلا تحوز أغاني الست منه في كتابه سوى جزء من فقرة لم تكن مخصّصة للحديث عنها، وإنّما للحديث عن الموسيقى الغربيّة الّتي افتتن بها المفكّر إدوارد سعيد أيّما افتتان، بينما يسرد درويش بلغة مشبعة بالحبّ والاستعارة كثيرا من التّفاصيل الّتي أخذت أزيد من صفحتين بنصّ مستقلّ، وهذا بحدّ ذاته ذو دلالة بالغة الأهميّة ليكتب عن أمّ كلثوم ما كتب؛ فهو الوحيد المدمن للسّهر والشّوق والعشق وأغاني أمّ كلثوم كذلك، وفي النهاية لا مندوحة عن أن لكل شخص ذائقته التي لا يعيبه فيها أحد.