الجمعة  26 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

شكرا للعناد| بقلم: نور عودة

2021-12-09 09:10:50 AM
شكرا للعناد| بقلم: نور عودة
نور عودة

 

تشير الدراسات الدولية لحالة استخفاف واستهتار عالية من قبل الأطباء بما تشكو منه المرأة من أعراض، حتى لو كان الطبيب امرأة. وهذه المشكلة عابرة للثقافات واللغات والخلفية الاجتماعية للمريضات لأنها ترتبط أكثر بموروث ثقافي تراكمي له علاقة بحرمان المرأة من ممارسة هذه المهنة النبيلة لقرون وبالتالي نفيها عن الوعي الجمعي للمهنة. 

وتدفع النساء حول العالم من صحتهن وحياتهن أحيانا ثمناً لهذا الاستخفاف، بأن تكتشف ورماً بعد فوات الأوان أو أن تحصل على تشخيص طبي دقيق بعد سنوات من المعاناة كان يمكن اختصارها لو أن طبيبها أو أطباءها استمعوا لها جيدا واحترموا معرفتها بجسدها وصحتها وتعاملوا مع وصفها لما يؤلمها أو ما تعاني منه بالاحترام والثقة وليس باعتباره "دلعا" أو "مبالغة". 

مشكلة أخرى تواجه النساء والرجال على حد سواء هي أن معايير الفحوصات الطبية وحدود "الطبيعي" في هذه الفحوصات تستند إلى موروث طويل من تفوق الرجل الأبيض الاقتصادي والطبي ولا تأخذ بعين الاعتبار الفروقات الحقيقية بين الأعراق والإثنيات. ورغم أن المؤسسات الدولية ذات العلاقة تنصح بأن تتبنى كل دولة معايير خاصة بها وبناء على دراسات خاصة بشعوبها، إلا أن الدول النامية قد فشلت في تحقيق ذلك وما زال الأطباء حول العالم يصلون إلى تشخيصهم الطبي بناء على محددات تنطبق على الرجل الأبيض الشاب ذي الأصول الأوروبية. حتى في دولة مثل الولايات المتحدة، ما زال المرضى المتحدون من أصول إفريقية يعانون من ترسبات العنصرية تجاههم والتي لا تزال تستوطن المحددات الطبية التشخيصية الخاصة بهم وهناك دراسات عدة في هذا الموضوع. 

منذ سنوات، أبحث عن طبيب يستمع لشكواي ومستعد للتفكير خارج الصندوق والمحددات المتوارثة وغير المنطقية للوصول إلى تشخيص دقيق يجيب على السؤال الملح بالنسبة لي وهو: ما هو الخلل الحاصل الذي يفسر كل ما يحصل معي من آلام وشكاوى. ومع أن المثل الشعبي يقول، العناد كفر، فقد كان العناد سلاحي الوحيد أمام الاستخفاف العام. أحدهم قال لي "استهلكي كميات أقل من البطاطا والكيك" رغم أني لم أذهب له طالبة خسارة من وزني بل لأني كنت أعاني من فقدان للشهية وزيادة دراماتيكية في الوزن لا يفسرها أي شيء مرتبط بالأكل وأنا لا أحب الكيك! 

طبيب آخر اتهمني بالدلع وأصر أني لا أعاني من شيء بل إن ما أعاني منه نفسي وليس بيولوجيا. وآخر تساءل إن كانت مشكلتي من "الكونديشين" بعد أن طلب فحوصات طبية أظهرت (وبحسب معايير الرجل الأبيض) أنني على ما يرام. وهكذا، حتى وصلت لطبيب رضخ لطلبي الملح (والذي تزامن مع كشرة مزمنة وإصرار ملفت) بطلب خزعة من ورم اعتبره كل الأطباء غير مثير للقلق.

شكرا للعناد الذي لم يخذلني، فقد حصلت أخيرا على تشخيص علمي يفسر ولو بشكل جزئي سنوات من المعاناة والسؤال. وبناء على هذا التشخيص، سأخضع لعملية جراحية لاستئصال الغدة الدرقية وورم،  آمل أن يكون حميدا، نمى على جزء منها وبات يزاحم أوتاري الصوتية. كم هو لئيم هذا الورم، فقد هاجم غدة تتحكم في كل شيء وتؤثر على كل شيء وتطاول على صوتي الذي لن أقبل إلا أن يبقى عالياً وصداحاً وقوياً بالحق كما هو الآن.

ومع هذه العملية، ستبدأ رحلة جديدة من المتابعة والأطباء وسيبقى عنادي هو رفيقي الوفي الملازم إلى أن أشعر بالتعافي كما يجب.  

رسالتي هنا لكل مريض ومريضة ألا تستسلموا للاستخفاف والاستهتار. ثقوا بمعرفتكم الوثيقة بأجسادكم وصحتكم وما هو "طبيعي" بالنسبة لكم ولا تقبلوا برعاية طبية لا تريحكم أو بطبيب لا يوريكم الاهتمام والاحترام والاستماع الذي هو من حقكم. الرعاية الطبية حق أساسي لكل الناس لكن هذه الرعاية يجب أن تكون رعاية تريح الجسد والعقل والوجدان معا. من حق الطبيب أن يفخر بما حصّله من علم وقدرة على معالجة الناس لكن من واجبه أن يدرك أيضاً أن ممارسة مهنته العظيمة هذه تتوقف على ثقة الناس. نحن نضع أنفسنا وحياتنا وصحتنا بين أيديهم وعلمهم ومن واجبهم أن يبادلوننا هذا الاحترام بالمثل. الأزمة لا تكمن بقلة المعرفة بل في تجاهل هذه التفاصيل المهمة وعدم التعامل مع المريض باعتباره الشريك الأهم في عملية التشخيص والتعافي.

سأسلم نفسي للأطباء خلال أيام واستودع بين أيديهم صوتي وطبقاته ونغماته. لا أريد أن أصبح مغنية لكني وكما قلت للطبيب: أنا يا دكتور قلم وصوت وأستودع بين يديك نصف من أكون فلا تخذلني. ابتسم طبيبي وقال لي: لا تقلقي لكنك على الأرجح لن تستطيعي استخدام الطبقات العالية من صوتك بعد الآن. لم أفرح بجوابه لكني سعدت بدقته العلمية وصراحته. سأفتقد نبرتي الحادة عندما أحتاجها لكن لا بأس، فالتعبير الصحيح عن المشاعر لا يحتاج للصوت العالي بالضرورة. سأعتمد على قدراتي في البلاغة والتعبير وسأوصل صوتي وغضبي عندما أحتاج وبالطريقة الأمثل. وحتى لا يشعر أبنائي بأي تغيير، وعدتهم من باب الدعابة أن أسجل لهم وصلات من الغضب حتى لا يشتاقوا لها!

ولأني أثق بعنادي وأعرف أن الصوت ليس بعلو طبقاته بل بما يصنع من مواقف، أنا مرتاحة لأني أعلم أن الغدة الدرقية وورمها اللئيم هذا لن تتمكنا من انتزاع هذا الصوت مني.

 

وداعا أيها الورم اللعين وشكرا لك يا عنادي.