الثلاثاء  07 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

ميلود حكيم:فأسُ الرؤيا يقطع شجرة الحواس

ضوء في الدَّغْل

2015-04-21 10:42:35 AM
ميلود حكيم:فأسُ الرؤيا يقطع شجرة الحواس
صورة ارشيفية
 
محمد الأمين سعيدي/شاعر وأكاديمي جزائريّ
 
لمنْ أتيحتْ له الفرصة أنْ يقرأ للشاعر الجزائري ميلود حكيم سيكتشفُ ولعَه الشِّعريِّ بطرْقِ بواباتِ الغيابِ، وذلك مِنْ خلالِ تشكيلِ جملتِه الشِّعرية بطريقة تجعلُها أفقا مزدحمًا بالرُّؤى المفتوحة على التأويلِ، والمعادية لأساليب التعبير الحسِّيّ المباشر التي صارتْ تعودُ مجددا، وبقوَّةٍ، إلى ساحة الشعر العربي خاصة في كتاباتِ بعض الشباب غير الواعين بما يجب أنْ تكون عليه القصيدة. وهو بهذا يختارُ طريقًا شعريًّا ينطلِق من الرؤيويّ ليصل غالبا إلى أقاصي التجريد، غير آبهٍ بغواية الحسِّيّ الذي يأسر النَّصَّ في حدودِ الموجود، ويحرمه من فرصة الانعتاقِ من قيود المّادة. ولذا يصرخُ ميلود في قصيدة"أوصال":"لم ننتصرْ حين اقتربْنا من حديقة الحواس."(أكثر من قبر، أقلّ من أبدية، ص:14)، وكيفَ يكونُ نصرٌ وقد ظلَّ"ينظر الفناءُ بعينه المقيتة"(ص:15)إلينا، مزيلا الحواجز بين الوجود والعدم، فاتحا على عمرِ الإنسان القصير مرايا الأزمنة الممتدَّة التي تبشِّر برحيله.
في مجموعته الشِّعرية"أكثر من قبر، أقلّ من أبدية"، الصادرة عن منشوراتِ البرزخ سنة 2003، يضع قارئه أمام رؤيا تبدأ من نهاية الحياة في شكلها البشريِّ، لا في طابعها الماديِّ، وتمتدُّ بعيدا دون أنْ توغِلَ عميقا في الأبدية، في المطلق المستمرِّ. وقد انعكستْ هذه الرؤيا على عناوين العديد من القصائد من مثل:(سماء محايدة، باب يطلّ على الغياب، القيامة، الانتظار الطويل، صداقة الهاوية، أرخبيلات الغرقى، البئر التي تهذي بالأسرار...إلخ). بلْ إنَّها تتبدَّى من خلال عديد من النصوص، ومن ذلك:
"بابا فبابا ستفتح مملكة الجسد الآدميّ
وترشف سهوا سماق الكتابات وهي
تهاجر من عتمة الحجر الفلسفيّ
إلى خفقةٍ في المرايا
ولكن لماذا نزاحم موتا على طقسهِ"(ص21).
        يسائل الشاعر الأسرارَ ويسمعُ إلى صداها في نفسِه، يلامسُ التخومَ ويقف عند أقصى حدود الحيرة والشّكّ واللاجدوى. هكذا يظهر الإنسانُ، في هذه المجموعة، عاريا أمام رياح الفناء وغيابِ المعنى وانهيار القيمة في عالمٍ نعيشُ فيه ليعيش علينا، يشاهدنا نسير إلى نهايتنا مثقلين بالغفلة حتى ينحني الظهر، ومفعمين بالفقدِ والبكاء حتى ينفضح أمر وجودنا المأساويِّ الذي تضمِّد جراحاته الخرافاتُ وحكاياتُ الأوّلين العطوف:
"هكذا في أقفاصٍ مغلقة
اكتشفنا هشاشة الوجود
تنفَّسْنا خيباتنا، وطاردْنا أشباحنا في الحكايات".(ص:28)
        ومن "هشاشة الوجود"، من هذا الوعي الفادحِ بالشقاء الإنساني، يتحوَّل الموتُ إلى موضوعةٍ بارزة في مختلف نصوص المجموعة. لكنَّ الموت يحضر باعتباره وعيًا يبني رؤية الشاعر إلى ذاته، إلى ذاك "القناع الوقور"في قصيدة"صداقة الهاوية"، والذي يرمز، ربّما، إلى الجسدِ المندرج في نظام الأشياء، والمتصالح مع مقولة لافوازيه"لا شيء يفنى، ولا شيء يستحدث، بل يتحوَّل"، لكنّ الشاعر يرثي لهذا الحال، ويمزِّقه ذاك الاندراج والتحام الماديّ بالمادي:
"..وتعوي ككلب جريح
يحدِّق في العظام التي أكلها وأصبحتْ هيكله.".(ص:57)
        يحملُ ميلود حكيم فأس الرؤيا ويجهزُ على شجرة الحواس بعطشِ الرائي التائق إلى فهم الشيء لا إلى وصفِه، محيلا البصر على التقاعد، مستعينا بالبصيرة لتلمُّس"نداوة الموت"(ص:57)، وممتلئا بالهواجس لإدراك"حكمة الخراب"(ص:65). ولهذا تكشِفُ مجموعته"أكثر من قبر، أقلّ من أبدية"عن مقدار الحمولة الفكرية التي تحفل بها نصوصه، وعن طبيعة القناعة الشِّعرية التي تصدرُ عنها، والتي تعتبر القصيدة فضاءً يلتحم فيه الهاجسُ بالفكرة، وتثمر فيه حيرة الكائن العالقِ في جسده الخزفي، بل في الجسد الممتلئ حيرة وعشقا وأسئلة وعويلا أزليًّا. هنا، أختم كلامي عن المجموعة، وأتركك يا صديقي القارئ مع مقطع باذخ من قصيدة"محرقة الجسد":
"ليكن هذا الجسد هبة للمحرقة، للتلاشي الجميل في ذرّات
الضوء، حيث كل خليّة كوكب طائش. وحيث كل مسامة نافذة
مفتوحة على الهباء. هذا النذر، وهذي المسارات الضليلة، أنَّى
تباغت الرقصة به بإيقاع الوحشة مسلوبة بفجاءات الفيض،
وولائم البوح."(ص:61).