الأربعاء  24 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

سيمون دو بوفوار ونيلسون أليغرين.. غرام عابر للمحيط الأطلنطي

ترجمة: سعيد بوخليط

2023-03-12 08:21:45 AM
سيمون دو بوفوار ونيلسون أليغرين.. غرام عابر للمحيط الأطلنطي
دي بوفوار وألغرين

تدوين- ثقافات

ننشر  نصاً ترجمه للحدث سعيد بوخليط، وهو رسالة من سيمون دي بوفوار إلى نيلسون ألغرين. ودي بوفوار هي كاتبة ومفكرة فرنسية، وفيلسوفة وجودية، وناشطة سياسية، ونسوية إضافة إلى أنها منظرة اجتماعية. ورغم أنها لا تعتبر نفسها فيلسوفة إلا أن لها تأثير ملحوظ في النسوية والوجودية النسوية. كتبت دي بوفوار العديد من الروايات والمقالات والسير الذاتية ودراسات حول الفلسفة والسياسة وأيضاً عن القضايا الاجتماعية. أما ألغرين فهو كاتب أميركي، جمعته علاقة حب بسيمون دي بوفوار، أما روايته الأشهر فهي «الرجل ذو الذراع الذهبية» الصادرة عام 1949، التي تعد أول رواية واقعية سوداء في الولايات المتحدة، خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، كما فازت بأول جائزة قومية للرواية عام 1950، وتحولت إلى فيلم أمريكي عام 1955، قام ببطولته فرانك سيناترا. 

الثلاثاء  17 يونيو 1947

حبيبي،

انكببتُ على العمل طيلة فترة تجاوزت مدة ساعتين، لذلك أمنح نفسي هامش استراحة صغيرة، طلبتُ زجاجة كونياك (للأسف، لا يوجد هنا الويسكي والصودا!) وصعدتُ إلى الطابق الأول من مقهى دي فلور، المكان المفضَّل لدى ''الوجوديين''، كي أدبِّجَ إليكَ فقرات هذه الرسالة.  

احتشد جمع كبير داخل القاعة الكبرى التي تفضي نحو الشارع وكذا السطح، بينما فضلتُ الانزواء هنا وحيدة. أتأمل خلف النافذة أشجار شارع سان جيرمان. أشعر بمزاج رائق لأنَّ سارتر قرأ بدايتي مع المجلة الأمريكية (جريدة السفر الخيالي) فأبدى ثناءه نحو ذلك، مما أشعرني برغبة في الاستمرار.

أتأسف لعدم إمكانية الحديث بكل حرية عن الأشخاص، خطاب من هذا القبيل سيكون مفيدا للغاية: مثلا ليس بوسعي التصريح بكل ما أعرفه عن ريتشارد رايث (شاعر أمريكي)، فلن يسره ذلك رغم الصداقة الكبيرة التي تجمع بيننا. نفس الأمر ينطبق على آخرين.

تتجلى أساسا، قيمة كتاب من هذا النوع، في القدرة على الإدلاء بخطاب صريح. أبذل قصارى جهدي كي أجعل ذلك حقيقيا، والتحدث عن أمريكا يعني الحديث عن نطاق أمريكي بأكمله. 

مؤسف، لكنني سأكتب الأفضل قياسا لما بوسعي قوله. أيضا، يشعرني بالحسرة الاعتقاد بعدم إمكانية اطلاعكَ على مضامين هذا المنجز! توخيتُ أن يأخذ صيغة رسالة طويلة وددتُ إرسالها إليك. يلزمني بهذا الخصوص تقديم عمل جيد، كي يثير الانتباه بترجمته عندكم في أمريكا.

ألا يمكنكَ حقا تعلّم اللغة الفرنسية؟ دعنا نرى، نفترض مثلا أنكَ ستدرج ضمن كل رسالة عشرة أسطر بالفرنسية، وسأهتم بتصحيح الأخطاء الواردة؟ بعد ذلك تقرأ كتابا فرنسيا، حينها ستتمكن من تدبر أمركَ حين وصولكَ إلى مارسيليا. ما رأيك في المقترح؟

يتركز حديثي عن عملي، ما دام الشيء الوحيد الذي يحظى حاليا باهتمامي. تستمر يوميات حياتي: الريف، باريس، قرية جديدة، حياة رائعة. لماذا لم أتبيَّن هذه المعطيات سابقا؟ أستمتع بهدوء القرية، وبعد انقضاء ثلاثة أيام في القراءة والكتابة، أعود سعيدة إلى باريس، ثم ارتياد المقاهي ثانية والالتقاء بالأصدقاء.

تناولتُ البارحة وجبة العشاء في الهواء الطلق، تحديدا عند مطعم يقع في منتزه مونسوري، تميزه أشجار جميلة وبحيرة صغيرة. خلال الساعة العاشرة تغلق أبواب الحديقة أمام العموم، ولا يبقى هناك سوى زبائن المطعم. تشعر بأنك تقريبا وحيدا داخل هذا الاخضرار الليلي المهجور: انطباع سحري. كنتُ سعيدة مثل طفل.

بعد ذلك، حضرتني رغبة التوجه صوب إحدى الحانات الجيدة في شارع الشانزلزيه، قصد ارتشاف نبيذ الويسكي، لكن نتيجة إضراب عمال قطاع الثلج (حاليا تعيش فرنسا إضرابات في هذا القطاع أو ذاك) فقد أحضروا لي ويسكي دون ثلج، تحديدا ويسكي أسكتلندي حسب تأكيدهم، غير أنه لا صلة تذكر بالويسكي الأمريكي، لذلك لم يرق لي.

باريس فاتنة، شريطة أن لا تبحث عن أمريكا داخلها، مثلما لا ينبغي التطلع نحو إمكانية العثور على باريس داخل مدينة شيكاغو.

حدثت لي واقعة غريبة ومثيرة للسخرية، فقد تلقيتُ اتصالا هاتفيا من شخص مجهول، كي يطلب مني التالي: "من فضلكم، أودُّ أن تتلفظوا بكلمتي عصير البرتقال؟''.

أجبته: ''ما المقصود بذلك؟ من أنتم؟''.

أجابني بدوره: ''أنا من يطرح الأسئلة هنا وليس أنتم. بالتالي كيف تنطقون عصير البرتقال؟.

أنا: ''تفاهة!''

هو: ''أريد معرفة إذا كنتم تقولون بهذا الخصوص عصير البرتقال أو البرتقال الممتع''

أنا: ''لكن كيف علمتم أنني أقول البرتقال الممتع؟"

هو: "آه !يوجد صحافيون في كل مكان"

أنا: ''حتى داخل الصيدليات؟''

هو: "مقهى دي فلور ليست صيدلية"

أنا: "طيب! بدأت أشعر بالغضب!"

أنهيت المكالمة، والحيرة تلتهمني.

لقد رصد صديق أثناء إقامتي في نيويورك مسألة تكراري تعبير''مباهج البرتقال''، لكن من أمكنه معرفة ذلك؟ فجأة تذكَّرت بأني أضعت في حانة مجاورة لمقهى دي فلور، بعض مضامين مسودتي، ورقة تكشف إحدى فقراتها عن تلفظي غير الجيد وقدمت تحديدا ذلك المثال. هكذا، وضع شخص معين يده على التوثيق، فتوخى استغلال الأمر للتسلية. غير أنه أشعرني في المقابل بالضجر.

طبعا، لم تتضمن تلك الورقة شيئا محرجا، لكن الناس في فرنسا خبثاء، يمتلكون قدرات كي ينسجوا خيوط نكت سيئة انطلاقا من كل شيء: ربما لا تأثير لذلك، يصعب الجزم. أكره انشغالهم آنيا بأموري جملة  وتفصيلا، وقد أضحى شاذا.

هيّا، أقترح عليكَ نموذجا صغيرا، وأنتظر منك ترجمته خلال رسالتكَ المقبلة، تمرين سهل جدا، إذا استوعبت المضمون بطريقة صحيحة. انتبه! يمثل هذا الجزء الأكثر أهمية ضمن سياق الرسالة:  

''عزيزي البعيد جدا، لكني أفكر فيه يوميا، نعم كل يوم. أستحضره غاية أن ألتقيه مرة أخرى. لحظتها سأتوقف عن التفكير، لأنه سيحتضنني بين ذراعيه، فتتلاصق شفتانا، وتغمرنا سعادة مثلما كنا سعيدين، وفق جرعة إضافية لأنّ حبنا يترسخ أكثر فأكثر.

حبيبي هناك في مكان قصي جدا، لكن لا يوجد شخص مقارنة معه أكثر قربا مني ما دام يقطن فؤادي. يسمى هذا الشخص نيلسون أليغرين''.

في حالة عجزكَ عن استيعاب مغزى كلامي، فهذا ما قصدته:

أحبّكَ، أحضنكَ، غير أن التعبير بدا أكثر ودِّية ضمن سياق الصياغة الفرنسية. عليكَ إدراكَ هذه الحقيقة، حتى ولو كنتَ أكثر البشر غباء: أعشقكَ.

أعيش على إيقاع ترقب لقائنا. 

سيمون مِلْكُكَ.   

 * هامش:

مصدر الرسالة:

Simone de Beauvoir: un amour transalantique(1947 -1964) ;Gallimard1997.PP :44-46.