الأحد  19 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

إشكالية المثقف الفلسطيني المستقل

هنا نلتقي

2015-06-17 12:21:21 PM
إشكالية المثقف الفلسطيني المستقل
صورة ارشيفية
أنور الخطيب
 
الفلسطينيون أكثر الناس ازدواجية في الجنسية، اللاجؤون يذكرون أماكن اللجوء والنزوح إضافة إلى الأصل ليعرفوا بأنفسهم، (فلسطيني من سكان لبنان أو سوريا أو مصر أو العراق)، طبقا للبلد الذي يقيم فيه. يضطرون لفعل هذا لاكتساب لهجاتهم مفردات و"لكنات" مختلفة، وأحيانا من الصعب تمييزهم عن موطني أماكن اللجوء، خاصة إذا كانوا يقيمون في مدن كبيروت ودمشق والقاهرة وبغداد وغيرها، وهؤلاء هم حملة وثائق السفر. أما الفلسطينيون الذين اكتسبوا جنسيات أمريكية أو أوروبية أو أجنبية بشكل عام، فلديهم الجرأ على التصريح بأنهم من أصول فلسطينية. وأما الذين اكتسبوا جنسيات عربية فهم الأقل جرأة في التصريح عن هذه الازدواجية، فيقدمون أنفسهم على أنهم مواطنو البلدان التي يحملون جنسياتها. ويحدث هذا غالبا مع الفنانين والكتاب والشعراء، ولاسيّما حين يدخلون في مسابقات تتطلب التصويت، أو يتم ترشيحهم لجوائز أو المشاركة في وفود رسمية.
 
استقرقت وقتاً كثيراً لأستوعب مواقف الفئة الأخيرة، وقد مارست مكراً على الذات مصحوباً بشيء من التنازلات (الأمر الواقع)،فالمبدع في حاجة إلى سندٍ (ظهر) وهو يدفع عربته للوصول إلى غايته، وليحصل على اعتراف من الساحات الثقافية والإبداعية وأحيانا السياسية، والانتماء المفتعل أو الحقيقي، هو الوسيلة الوحيدة للوصول، حتى أن البعض يتماهى مع (الأمر الواقع) ويذوب فيه، ويتصرف كأنه مواطن حقيقي، فينتقد سياسة ما يسلكها وزير ما، أو يطالب بحقوق (بعين قوية)، حقوق تنطلق من الجنسية، بالضبط كهؤلاء العرب الذين يحملون جنسيات أجنبية، ومن بينهم الفلسطينيون، الذين يدخلون المطارات العربية بفوقية، ويقدمون الجواز الأمريكي أو البريطاني أو الكندي أو الأستارلي، منتظرين معاملة مختلفة، فقط لأن من حق حامل جواز السفر هذا، الدخول بدون تأشيرة دخول، وإذا ما واجهوا مشكلة ما، حتى لو كانت صغيرة، فإنهم يشهرون سلاح (الاتصال بالسفارة). ترى، بمن يتصل حامل وثيقة السفر لو واجه مشكلةً في مطار ما.
 
الأديب أوالفنان الفلسطيني الذي يحمل وثيقة سفر عربية، يعاني من (ازدواجية المرارة)، فهو غير محسوب ثقافياً أو فنّياً على البلد التي يقيم فيه، وغير محسوب على السلطة الفلسطينية، التي من المفترض أن تكون راعية لكل الفلسطينيين (المجنّسين واللاجئين)، وبالتالي، فإنه يتخبّط كثيراً، ويبذل جهداً مضاعفا في إثبات ذاته وفنه وإبداعه. وتزداد مرارته حين يعتبر نفسه على إحدى الساحتين (الفلسطينية أو مكان اللجوء أو العمل)، ويقابل بخيمة أمل شديدة حين لا يتم التعامل معه على أنه ابن شرعي لإحدى الساحتين، لأنه في الواقع الرسمي والسياسي، ليس ابناً شرعياً لأي من الساحتين.
 
أما المعاناة (السخيفة)، فيعاني منها المبدع اللاجئ في مكان لجوئه، فالساحات الفلسطينية مقسّمة، وحتى يسند ظهره على أي جدار (ظهر)، عليه أن ينتمي إلى تنظيمات مثل (فتح أو حماس أو الجبهة أو الجهاد أو الديمقراطية)، فإذا اختار أن يكون مستقلاً، أي أن يكون لفلسطين فقط، فإنه يخسر المشاركة في أنشطة الجميع، وإذا اختار الانتماء لجهة ما، فإنه سيخسر الأنشطة التي تنظمها الجهات الأخرى، وإذا اختار الانضمام إلى المؤسسات المدنية التابعة لأحد الأحزاب في بلد الإقامة، فإنه سيخسر المؤسسات المدنية التابعة للأحزاب الأخرى، إضافة إلى المؤسسات الفلسطينية، وهكذا، يُمنع على المبدع أن يكون مستقلاً.
 
رشاد أبو شاور، روائي فلسطيني كبير يقيم في سوريا، حصل على جائزة القدس مؤخرا بعد أن بلغ السبعين من عمره، وهو يستحقها منذ زمن، على الأقل قبل عشرين عاماً، لكن لم يبادر أحد بترشيحه أو تكريمه، ومن ضمن هؤلاء (الأحد) المؤسسات الثقافية الفلسطينية العاملة في إطار السلطة الوطنية الفلسطينية، حتى أنه لم يتم ترشيحه ليكون ضمن وفد من الوفود الكثيرة التي تمثل فلسطين في المهرجانات والأسابيع الثقافية، وكل مشاركاته الخارجية كانت خارج إطار مؤسسات السلطة.
 
التعامل مع الإبداع يجب ألا يرتبط بالانتماء الحزبي أو التنظيمي، فالثقافة الفلسطينية لا يمكن حصرها في الأسماء (المواطنة) في الضفة الغربية وقطاع غزة. والسفارات الفلسطينية، للأسف، تعمل وفق توجهات الخارجية الفلسطينية، وتعمل أيضا من منظور حزبي أو حركي.
 
على القيمين على الشأن الثقافي الفلسطيني أن يتواصلوا مع (مبدعي اللجوء والشتات)، ومع المبدعين المقيمين تحت الاحتلال في القدس أو في الشمال الفلسطيني (فلسطينيو الـ48) على قدم المساواة التي يتعاملون فيها مع المبدعين المقيمين على أراضي السلطة الفلسطينية. نعم هكذا يجب أن يكون التعامل، وبكل هذه البساطة والبراءة. ومن هنا أرفض كمثقف ومبدع فلسطيني الاعتراف بـ(الأمر الواقع)، وأن أبحث لي عن سند (ظهر)، فسند المبدع بلاده ومواطنوه ومؤسساته الثقافية أينما كانوا. وعلى المؤسسات الثقافية في الوطن وأراضي المهجر والشتات واللجوء، التوقف عن التمييز (الذي قد وصل بالفعل إلى مراحل التمييز العنصري البغيض)، والنظر إلى الإبداع الفلسطيني بمطلق الشفافية والوطنية والبياض. وأن يتوقف المثقفون القيمون على المؤسسات الثقافية أو المدنية في كل مكان، عن التعاطي بأسلوب (تجارة التجزئة) مع المثقفين والمبدعين.