الأحد  04 أيار 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

وجه جديد من الإبادة: المساعدات كأداة لإدامة الحرب في غزة| بقلم ياسر مناع

2025-05-04 08:57:47 AM
وجه جديد من الإبادة: المساعدات كأداة لإدامة الحرب في غزة| بقلم ياسر مناع

في غزة طغت الإبادة وتجبرت. كما لم تعد إسرائيل تكتفي بالحرب والردع، بل تسعى لصياغة الكارثة المستدامة التي لا تحتاج إلى الاحتلال مباشرة، بل يكفيها تفكيك المجتمع الغزي، التجويع، التهجير، وآلة تُمارس القتل من بعيد. هذه ليست حربًا لهزيمة خصم، بل لتفكيك بنية مجتمع وتحويله إلى فتات شعب يتلقى الإغاثة بدلًا من أن يقرر مصيره. تحت غطاء المساعدات وتحت ذريعة الأمن، تستدام الحرب على غزة من دون إعلان، ويُعاد تعريف أهلها كمسألة إنسانية لا قضية وطنية. إن ما يجري ليس مجرد غياب لمرحلة ما بعد الحرب، بل هو إدارة لحالة دائمة من اللّاحسم، تُبقي غزة رهينة بين فكيّ الطوارئ الدائمة والتطبيع مع الخراب والحرب.

يتناول المقال أحد أبرز تجليات هذا التوجّه، المتمثل في توظيف إسرائيل لملف المساعدات الإنسانية ليس كأداة استجابة لأزمة إنسانية، بل كورقة ضغط ومعيار لإعادة هندسة الخارطة الجغرافية والديموغرافية لغزة، حيث تتداخل الاعتبارات الأمنية مع الطموحات الاستعمارية والهيمنة.

في الواقع، يتمحور السجال الإسرائيلي الداخلي اليوم ليس حول كيفية إنهاء الحرب، بل حول طرق إدخال المساعدات إلى غزة، وكيفية توزيعها. بمعنى آخر، كيف يمكن تطويع هذا الملف لخدمة الأهداف الإسرائيلية. فقد تحوّل إدخال المواد الغذائية والطبية إلى مسألة أمن قومي، يُناقش فيها دور الشركات الأمنية الخاصة، وآليات التجاوز على الأطراف الفلسطينية، سواء السلطة الوطنية أو حماس. بمعنى آخر، لم تعد المساعدات تُقدَّم ضمن منطق الاستجابة الطارئة، بل كأداة لإنتاج وقائع سياسية جديدة، تعيد تعريف من يتحكم بغزة ومن يقرر مصير أهلها.

في هذا السياق، تمارس إسرائيل عملية تفكيك ممنهجة للوظيفة السيادية للمجتمع الفلسطيني في القطاع. فحين تُوكل مهمة توزيع المساعدات إلى جهات غير فلسطينية، بذلك تنزع القدرة السيادية عن المجتمع المحلي، وإعادة تشكيله كجسم يتلقى من الخارج، لا يقرر من الداخل. يتلاشى الجسم الفلسطيني الحاكم لصالح كيان إنساني هشّ، يتغذى على تدفقات الإغاثة ويتعايش مع غياب الأفق الوطني. وتصبح المساعدات، بدل أن تكون وسيلة إنقاذ، أداة ضبط اجتماعي تُكرّس التبعية وتعيد إنتاج العلاقات الاستعمارية بأشكال ناعمة.

في السياق ذاته، يتجلى توجه إسرائيلي آخر موازٍ يتمثل في توسيع ما يسمى بـ"المنطقة العازلة" في غزة. هذه المساحات، التي كانت في السابق مناطق محدودة التوغل، باتت تشهد توسعًا تدريجيًا محتملًا، عبر عمليات عسكرية وتهجير قسري لهذه المناطق.

لا يهدف هذا التوسع إلى ضم مباشر، بل إلى خلق واقع جديد يعيد رسم حدود السيطرة الإسرائيلية دون تحمّل عبء الاحتلال الكلي. هي محاولة لإنتاج شكل جديد من أشكال الاستعمار غير المباشر، حيث تُنتزع الأرض، ويُفرّغ السكان، وتُترك الإدارة اليومية لمجهول غير فلسطيني: ربما جهة عربية، أو دولية، أو حتى شركات متعدّدة الجنسيات. ويتم تمرير هذا التغيير الجذري عبر سياسة الأمر الواقع، وتحت غطاء الحرب المستمرة، حيث يصبح التهجير جزءاً من السياسة، لا مجرد نتيجة جانبية.

ضمن هذا التصور، تبرز فكرة "الأرض مقابل الأسرى" بوصفها إحدى أبرز ملامح المرحلة الراهنة. فبدلًا من المساومة على تبادل الأسرى في إطار تفاوضي يفضي إلى إنهاء الحرب، تحاول إسرائيل أن تطرح اليوم معادلة ضمنية مفادها: الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين مقابل الانسحاب الإسرائيلي من تلك المناطق التي سوف يعمل على احتلالها من جديد.

رغم القصف المكثف والاجتياحات المتكررة، لا تُظهر إسرائيل رغبة حقيقية في إعادة احتلال القطاع أو السيطرة عليه بشكل مباشر. فالتكلفة الأمنية والسياسية والاقتصادية لأي احتلال مباشر ستكون باهظة، لا سيما في ظل صمود المقاومة والشعب، وتجنبًا للانتقادات الدولية. من هنا، تتبنى إسرائيل سياسة "الحد الأدنى الضروري": السيطرة العملياتية عبر الغارات والتوغلات، مع دفع الأطراف الإقليمية والدولية للبحث عن صيغة إدارة مدنية غير فلسطينية. هذه الصيغة لا تقوم على السيادة، بل على الإشراف الإداري المقنن، وعلى تفويض خارجي لا يعكس الإرادة الشعبية.

يُعبر هذا التوجه عن عقلية استعمارية، لا تقوم على الاحتلال المباشر، بل على خلق فضاءات سياسية هشة ومُفككة، تُدار من الخارج، وتُراقَب من الجو، ويُضبط سلوكها عبر الاقتصاد والمساعدات، لا عبر الجيوش والدبابات فقط. وهو توجه يجسّد ما يمكن تسميته بـ"الاستعمار بالوساطة"، حيث تبقى اليد الإسرائيلية في الخلف، بينما تعمل الواجهات المستأجرة على ضبط إيقاع المجتمع المحلي بما يضمن مصالح الاحتلال دون أن يظهر في الصورة.

في العمق، تعاني إسرائيل من غياب رؤية لما بعد الحرب، كما ترفض بلورة أي رؤية ذات طابع فلسطيني. إذ أن مجرد التفكير في مستقبل لغزة يشتمل على حكم فلسطيني، ولو بالحد الأدنى، يتناقض مع أهداف إسرائيل الحالية: ضمان السيطرة الأمنية، منع عودة حماس، وتفادي عودة السلطة. وبدلًا من إنتاج حل سياسي، تُنتج إسرائيل فراغاً استراتيجياً، تُبقيه مفتوحًا وقابلًا للتشكيل المستمر.

هنا تصبح إطالة أمد الحرب جزءًا من الاستراتيجية، لا خطأ عسكريًا. فكلما طال أمد القتال، تعمقت الوقائع الجديدة على الأرض، وتضاءلت فرص العودة إلى ما قبل 7 أكتوبر. وكلما تراجعت قدرة الفاعلين الفلسطينيين على المبادرة، ازداد الهامش الإسرائيلي في فرض البدائل. وفي ظل غياب مبادرات دولية وعربية فاعلة، يصبح الزمن ذاته أداة بيد الاحتلال، يُطوّعها لترسيخ مكاسبه وتفكيك المجتمع الفلسطيني.

في ظل العجز الإسرائيلي عن إنتاج نموذج حكم بديل في غزة، تتجه الأنظار نحو الأطراف العربية. غير أن هذه الرغبة تصطدم برفض عربي واسع، يتمثل في القناعة أن تولّي أي طرف عربي إدارة غزة سيكون بمثابة وصاية غير مشروعة، ويؤسس لمرحلة "ما بعد فلسطين"، حيث يُحوّل الصراع من سياسي تحرري إلى أزمة إنسانية تُدار بالإغاثة، لا بالحق. كما أن أي قبول عربي بهذه الوصاية سيكون مكلفاً سياسيًا وشعبيًا، ويجعل من الأطراف العربية جزءاً من بنية الاحتلال، لا من حلٍّ للصراع.

الأنظمة العربية، رغم تفاوت مواقفها، تدرك أن أي دور إداري مباشر في غزة سيضعها في موقع الوكيل عن الاحتلال، لا عن الشعب الفلسطيني. وبالتالي، ترفض الانجرار إلى مشروع إدارة وظيفية يكرّس الانقسام ويشرعن الاحتلال. فحتى المبادرات التي طرحت من بعض الجهات الدولية، والتي تقترح تشكيل إدارة مدنية محايدة، تفتقر إلى القبول الشعبي والشرعية الوطنية، وتبقى حلولاً تقنية لمشكلة سياسية جوهرها الاحتلال.

في المحصلة، يمكن القول إن إسرائيل لا تسعى إلى إنهاء الحرب على غزة، بل إلى إدارتها. فهي ترفض تقديم مشروع سياسي، وتكتفي بتفكيك الواقع القائم وإعادة تشكيله عبر أدوات غير عسكرية: المساعدات، التهجير، المنطقة العازلة، والمعادلات الميدانية المشروطة. وهو ما يجعل من الحرب أداة مستمرة لإنتاج الواقع، لا لحسمه.