متابعة الحدث
في ذروة التصعيد بين إيران و"إسرائيل"، وبينما كانت صافرات الإنذار تدوي في أكثر من منطقة، فوجئ عدد كبير من الإسرائيليين بوصول رسائل نصية إلى هواتفهم تحذرهم من التوجه إلى الملاجئ بدعوى أنها لم تعد آمنة، وأن ثمة خطرًا حقيقيًا يتمثل في احتمال تعرض هذه الملاجئ لهجمات "إرهابية". لم تمض دقائق حتى وصلت رسالة أخرى أكثر إثارة للذعر، تحذر الإسرائيليين من انقطاع وشيك للوقود بدءًا من منتصف الليل ولمدة 24 ساعة، وتحثهم على التوجه فورًا إلى محطات التعبئة.
هذه الرسائل، التي أثارت البلبلة على نطاق واسع، دفعت الجبهة الداخلية للاحتلال إلى إصدار توضيح عاجل نفت فيه بشكل قاطع أن تكون قد أرسلت هذه التحذيرات، معتبرة إياها جزءًا من عملية تضليل ممنهجة تستهدف الجبهة الداخلية في لحظة حساسة.
ما حدث ليس مجرد إرباك تكتيكي عابر، بل يمثل نموذجًا لما بات يعرف بالحرب الإلكترونية النفسية، التي تدار ضمن منظومة واسعة من أدوات الصراع غير التقليدية.
فالحرب الإلكترونية لم تعد مجرد مجال فرعي ضمن ساحات القتال الحديثة، بل تحولت إلى ساحة متكاملة بذاتها، تخاض فيها المعارك على شاشات الحواسيب والخوادم ووسائط الاتصال، وغالبًا ما يكون تأثيرها أكثر فتكًا من القذائف والرصاص. في هذا الإطار، تصنف هذه الحرب إلى أنواع متعددة، لكل منها أدواتها وآثارها الخاصة. أول تلك الأنواع وأكثرها رسوخًا هو الجانب التجسسي من الحرب الإلكترونية. في هذا السياق، تسعى الجهات المهاجمة إلى اختراق أنظمة الدولة المستهدفة، والوصول إلى بيانات حساسة سواء على المستوى العسكري أو الاقتصادي أو الأمني. وقد كشفت تسريبات متعددة خلال السنوات الأخيرة عن عمليات تجسس إلكتروني استهدفت بريد جيش الاحتلال الإسرائيلي، وقواعد بيانات أمنية، بل وحتى معلومات تخص أفرادًا في وحدات حساسة. هذا الشكل من الحرب لا يحدث دمارًا ماديًا، لكنه يؤدي إلى نزيف استراتيجي قد لا يدرك أثره إلا في مراحل متأخرة من التصعيد. إنه نوع من القضم البطيء لبنية الردع.
أما النوع الثاني، فهو الحرب النفسية الرقمية، والتي يمكن القول إن الرسائل التي بثت الرعب في صفوف الإسرائيليين تمثل مثالًا حيًا لها. في هذه الحالة، يتم استهداف معنويات "البيئة المدنية" عبر الأخبار الكاذبة، والإشاعات، ورسائل التهديد المباشرة، من خلال وسائل تواصل تبدو موثوقة أو مألوفة كالهاتف المحمول أو شبكات التواصل الاجتماعي. الفكرة هنا ليست فقط بث الخوف، بل زعزعة الثقة بين المواطنين ومؤسساتهم، وإثارة الشك حول قدرة الدولة على الحماية والضبط والسيطرة، وهو ما يعد تهديدًا ناعمًا لكنه عميق التأثير.
النوع الثالث من الحرب الإلكترونية هو الحرب الهجومية المباشرة، حيث تستهدف البنية التحتية بشكل فعلي. في هذا النوع، يجري تعطيل أنظمة الكهرباء، أو ضرب شبكات المياه، أو وقف عمل المستشفيات والموانئ والمطارات، كما حصل بالفعل في عدة هجمات سيبرانية طالت منشآت إسرائيلية خلال السنوات الأخيرة. هذا النوع من الهجمات يهدف إلى إحداث شلل مؤقت في مرافق الدولة، وخلق فجوة حرجة في زمن الاستجابة، دون الحاجة إلى إطلاق صاروخ أو تفجر عبوة ناسفة.
وإلى جانب الأنواع المذكورة، هناك شكل رابع بالغ الأهمية، هو الحرب الإلكترونية المرافقة للعمليات العسكرية. في هذا السياق، يتم تنفيذ هجمات سيبرانية متزامنة مع العمليات الميدانية، أو قبلها بقليل، بهدف تعمية أنظمة الاستشعار، تعطيل الإنذار المبكر، أو التشويش على شبكات الاتصال بين القيادات والوحدات الميدانية. وقد استخدمت هذه التقنيات في أكثر من ساحة نزاع، بما في ذلك العدوان على غزة في الأعوام الماضية، حيث سجلت اختراقات عديدة للمنظومة الإلكترونية الإسرائيلية في اللحظات التي سبقت أو رافقت العمليات الجوية والبرية، ويشتبه في أن إيران قد نفذت هجمات إلكترونية خلال اليومين الماضيين أدت لخلل في منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلي، وهو ما أدى لانفجار صواريخ الدفاع الجوي في مكانها أو لحظة إطلاقها.
إحدى أبرز سمات الحرب الإلكترونية تكمن في كونها لا تعترف بموازين القوى التقليدية. فليست الدول الكبرى وحدها القادرة على شن هذه الهجمات، بل يمكن لمجموعات صغيرة، أو حتى أفراد يمتلكون المعرفة والأدوات، أن ينفذوا عمليات عالية التأثير ضد أهداف استراتيجية. بهذا المعنى، تشكل الحرب الإلكترونية نوعًا من "تسوية الساحة"، حيث لا تحتسب الأفضلية بالعدد أو العتاد، بل بالابتكار والاختراق والقدرة على التخفي. إنها ساحة "اللامتكافئ" بامتياز، وهي ما يجعلها مغرية للجهات غير الرسمية أو الدول التي لا تملك ترسانة عسكرية ضخمة.
ولعل أخطر ما يميز هذه الحرب هو الغموض الذي يكتنفها من حيث القدرات والنتائج. فبعكس الصواريخ التي ترصد، أو الطائرات التي ترى بالرادار، فإن الهجمات السيبرانية لا يمكن التنبؤ بها بسهولة، ولا معرفة مدى الضرر الذي ستحدثه إلا بعد وقوعه. كما لا تعرف دائمًا الجهة التي تقف خلف الهجوم، ما يصعب عملية الرد ويربك مؤسسات الدولة المستهدفة. وقد يؤدي ذلك في بعض الأحيان إلى تضارب في ردود الفعل، أو اتخاذ قرارات مبنية على معلومات ناقصة أو مضللة.
في السياق الإسرائيلي، تعتبر "إسرائيل" من أكثر الدول تعرضًا للهجمات الإلكترونية على مستوى العالم، وهو ما تؤكده تقارير أمنية متعددة نشرت في العقد الأخير. هذه الهجمات لا تأتي فقط من دول معادية أو جهات رسمية، بل من مجموعات هاكرز نشطة تعمل ضمن منطق سياسي أو عقائدي، أو حتى بدوافع انتقامية أو رمزية. وتزداد حدة هذه الهجمات في فترات التوتر، كما هو الحال في الآونة الأخيرة، إذ رصدت محاولات اختراق شبه يومية لمواقع حكومية وبنية تحتية وأذرع أمنية إسرائيلية.
الاعتراف الدولي بخطورة هذه الساحة جاء بشكل واضح خلال مؤتمر حلف الناتو في عام 2019، حيث تم تصنيف الحرب الإلكترونية باعتبارها "عملًا حربيًا" يستوجب الرد العسكري إذا استدعت الضرورة.
وفي الوقت نفسه، شدد المشاركون على أنها لن تحل محل الحرب التقليدية، بل ستستخدم كعنصر موازٍ قد يرجح كفة في لحظة معينة أو يربك الخصم في اللحظات الحاسمة.
بهذا المعنى، تصبح الحرب الإلكترونية سلاحًا استراتيجيًا لا يرى، لكنه حاضر في كل جبهة، وكل معركة، وكل خطة حرب أو دفاع. الرسائل التي وصلت إلى الإسرائيليين مؤخرًا قد لا تكون أكثر من اختبار بسيط أو تمرين في عالم الحرب الإلكترونية، لكنها كشفت بوضوح مدى هشاشة الجبهة الداخلية أمام أدوات جديدة من الصراع، لم تعد تقاس بعدد القتلى أو الصواريخ، بل بعدد الرسائل التي تربك، والمعلومة التي تضلل، والخلل الذي يحدثه "كود" صغير في بنية دولة كاملة.