في حياتنا العربية المعاصرة التي كان الصراع مع إسرائيل هو عنوانها، ظهرت مصطلحات بدت غير منطقية بعد سلسلة تجارب عملية منها وصف العلاقات مع الدول الكبرى على أنها علاقة تحالف، وانقسم العرب لفترة طويلة، بين من ادعى تحالفاً مع الغرب، وبالمقابل من ادعى تحالفاً مع الشرق.
وفي العام 1967 في ذلك الحزيران البائس، ظهرت الحقيقة بأوضح تجلياتها، فإذا بالعلاقة مع الغرب لم تكن تحالفية، بل كان الغرب فيها ميّالاً لإسرائيل، وكذلك الأمر مع الشرق الذي لم يفعل شيئاً لنصرة من ادعوا التحالف معه.
لم يتعلم العرب الدرس، ومفاده أن لا تحالف بين الضعيف والقوي، بل تبعية تجري ممارستها بعلم أو من دون علم الضعيف فيها.
وحين يدّعي الضعيف تحالفاً مع القوي، فعليه أن يعدّ نفسه لدفعه الثمن أكثر بكثيرٍ مما يقبض.
لم نستفد من درس حزيران، وعادت نغمة التحالف من جديد، فالذين يعيدون بناء جيوشهم يحتاجون إلى علاقة تحالفٍ من طرفٍ واحدٍ مع مصدر السلاح، هذا إذا ما كان في نيتهم الذهاب إلى الحرب، أمّا إذا قرروا الذهاب إلى السياسة، فليس لهم من سبيلٍ إلى ذلك سوى التحالف مع الغرب، وكان أن جسّد المرحوم أنور السادات هذه الصيغة بشراء السلاح من الاتحاد السوفياتي، وشراء الحلول من أمريكا.
لقد استعاد شبه جزيرة سيناء بفعل هذه الطريقة من التعامل مع الكبار، غير أن ما تلا ذلك تبدد في صحراء العالم العربي.
والآن لننظر إلى حال العرب قبل وأثناء وبعد ربيعهم البائس... دولٌ انهارت، ونظمٌ تبددت وجيوشٌ دمرت، وثرواتٌ لا يتحكم بها أهلها، والأدهى والأمر من ذلك أن حروب الكون تتم في بلادهم وهم مجرد متفرجون عليها ومنتظرون لنتائجها.
من بديهيات السياسة أن يجري تعريفٌ دقيقٌ لمصطلح التحالف، وأن تُبنى على هذا التعريف السياسات والمواقف، فالضعيف الذي يستقوي بالكبار ليعلم أنه في حساباتهم ليس أكثر من أداةٍ لأجنداتهم، وهذا ما بدا جلياً حين تحالفت قوىً صغيرة أو سوّقت لنفسها أنها تحالفت مع إيران، فإذا بالدولة الإقليمية الكبرى تقود أدواتها تحت عنوان التحالف ولكن بمنطق الاستثمار لمصلحتها، وإذا ما نظرنا للخريطة الآن على مستوى العالم العربي ولن نتحدث عن قدراته المعدومة بشأن غزة، بل نتحدث عن قدراته بشأن كل دولة من دوله، فما الذي قاله ترمب عندما عرض عملية تهجير غزة؟ ليس ما قاله بالضبط بل ما فعله في السياسة، إذا تعامل مع دول الجوار كما لو أنها مجرد جنودٍ في جيشٍ هو قائده، يصدر له الأوامر ويهدده بقطع الراتب.
لقد نسف ترمب فكرة التحالف من أساسها ولكن الفكرة ظلت كما هي في مخيلة العرب وحساباتهم ورهاناتهم؟
ليس مطلوباً أن تجرّد الجيوش إمكاناتها والدخول في حروبٍ لمجرد إثبات المكانة والقدرة، بل المطلوب أن يخاطب العرب العالم بما لديهم من إمكانياتٍ فعلية، وكطرفٍ مستقل، من يعطي يجب أن يأخذ بالمقابل، والعالم العربي إذا ما أحسن صياغة علاقاته، وتوظيف إمكانياته بالاتجاه الصحيح، فلا حاجة له لانتظار أي قوةٍ عظمى كي تحقق له ما يريد أو بعضاَ منه، لأنه في هذه الحالة يصبح قوةً عظمى يحسب لها حساب.
حتى الآن لم نصل لا فلسطيناً ولا عربياً إلى هذا المستوى في الحسابات والتعامل مع أن كل ما يجري بشأننا حاضراً ومستقبلا يحتم تغيير المسار والحسابات والتعامل مع الذات بمنطق الإمكانيات وليس الرهانات على الآخرين.
إن كلمة تحالف تشبه في حالة اعتمادها كأساسٍ لعلاقاتٍ غير متكافئة كمن ينتج شبر ماءٍ ليطفو عليه ولكنه في واقع الأمر يُغرق نفسه فيه.