الإثنين  05 أيار 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

السلطة الفلسطينية لا تستطيع إعادة تشكيل الاقتصاد الوطني بما يتماشى مع احتياجات التنمية والموارد المتاحة

2025-05-05 04:19:18 PM
 السلطة الفلسطينية لا تستطيع إعادة تشكيل الاقتصاد الوطني بما يتماشى مع احتياجات التنمية والموارد المتاحة
تعبيرية

"إبادة الاقتصاد الوطني الفلسطيني المشوه في الحرب"

الفلسطينيون يشهدون يوميا على نهب ممتلكاتهم من خلال سلب "إسرائيل" الهائل لمواردهم وأراضيهم لبناء مشروعها الاستعماري

دعوة القيادة لإعلان حالة الطوارئ لمنح السلطة الفلسطينية صلاحيات باعتماد سياسات وترتيبات خاصة لمواجهة التهديدات الوجودية للكيان الفلسطيني 

 فلسطين تشهد نكبة جديدة تدعو للاستجابة من قبل القطاعين العام والخاص

 

الحدث – إبراهيم أبو كامش

تظهر إفرازات حرب الإبادة التي ترتكبها دولة الاحتلال وما تزال تدور رحاها منذ شهر أكتوبر 2023 في قطاع غزة وشمال الضفة الغربية؛ في إبادة الاقتصاد الوطني الفلسطيني المشوه في هذه الحرب، حيث قامت بتدمير اقتصاد قطاع غزة وتعصف بالضفة الغربية دوامة من التدهور الاقتصادي، حيث يشهد الفلسطينيون يوميا على نهب ممتلكاتهم وكيف تم ويتم بناء "إسرائيل" من خلال سلب هائل لمواردهم وأراضيهم لصالح مشروعها الاستعماري. 

كما "يشهد الاقتصاد الفلسطيني عقدين من الخسائر، وحرمانه عشية حرب الإبادة المستمرة منذ أكتوبر من التنمية، ما أدى إلى تشكيل اقتصاد فلسطيني حد من آفاقه التنموية بعد أن استولت "إسرائيل" على الموارد الطبيعية الفلسطينية وسيطرتها على الحدود التجارية لفلسطين مع العالم، واستغلالها العمالة الفلسطينية لبناء المستوطنات الإسرائيلية، وبعد أن رسخت مصفوفة أوسلو-باريس الهيمنة الاقتصادية والحد من استقلالية السياسة الاقتصادية الفلسطينية، وتسببت التكاليف الباهظة المترتبة على حرمان الفلسطينيين من حق تقرير المصير بالنكبات الاقتصادية المتعاقبة في ظل محدودية الأدوات السياساتية التجارية والمالية للسلطة الوطنية الفلسطينية ما يعني أن السلطة الفلسطينية لا تستطيع إعادة تشكيل الاقتصاد الفلسطيني بما يتماشى مع احتياجات التنمية والموارد المتاحة.

الاقتصاد الوطني الفلسطيني المشوه في الحرب "إبادة الاقتصاد"  

يؤكد رجا الخالدي – مدير عام معهد أبحاث السياسات الاقتصادية (ماس)، أن دولة الاحتلال دمرت اقتصاد قطاع غزة منذ 2023 وتعصف بالضفة الغربية دوامة من التدهور الاقتصادي منذ أكتوبر 2023، في حين انخفضت مساهمة شرق القدس في الناتج المحلي الإجمالي للأراضي الفلسطينية المحتلة بشكل كبير من 15% إلى 7% في عام 2022 حسب (الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 2024).  إذ يعتمد 90% من أصحاب المحال التجارية في شرق القدس على السياحة، التي تعطلت تماما. بينما قدرت نفقات العلاقات الاقتصادية بين الفلسطينيين داخل الخط الأخضر والفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، قبل 7 أكتوبر، بما يعادل 1.4 مليار دولار أمريكي سنويا. 

واشار الخالدي، الى أن الاقتصاد والسياسة الفلسطينية عشية حرب أكتوبر اتسما بحرمانهما من التنمية، وأدى الاستعمار الاستيطاني الصهيوني إلى تشكيل الاقتصاد الفلسطيني ومحدداته، الأمر الذي حد من آفاقه التنموية. بعد أن استولت "إسرائيل" على الموارد الطبيعية الفلسطينية وسيطرتها على الحدود التجارية لفلسطين مع العالم، واستغلالها العمالة الفلسطينية لبناء المستوطنات الإسرائيلية.

في الوقت الذي رسخت فيه مصفوفة أوسلو-باريس الهيمنة الاقتصادية والحد من استقلالية السياسة الاقتصادية الفلسطينية. فضلا عن محدودية الأدوات السياساتية التجارية والمالية للسلطة الوطنية الفلسطينية ما يعني أن السلطة الفلسطينية لا تستطيع إعادة تشكيل الاقتصاد الفلسطيني بما يتماشى مع احتياجات التنمية والموارد المتاحة. حيث إنها اعتمدت في سلطاتها المحدودة وبلا أمن ولا شراكات على المساعدات الدولية أكثر من 40 مليار دولار من المانحين منذ عام 2000 مما عزز التبعية الخالصة بين الشركات الفلسطينية والإسرائيلية.  

 النكبات الاقتصادية المتعاقبة

  ويؤكد الخالدي على أن التكاليف الباهظة المترتبة على حرمان الفلسطينيين من حق تقرير المصير تسببت بالنكبات الاقتصادية المتعاقبة. ويشهد الفلسطينيون يوميا على نهب ممتلكاتهم وكيف تم ويتم بناء "إسرائيل" من خلال سلب هائل للموارد والأراضي الفلسطينية لصالح مشروعها الاستعماري. "قسمت نكبة عام 1948 فلسطين إلى ثلاثة أجزاء وخلفت نحو مليون لاجئ فلسطيني. وتقدر خسائر الفلسطينيين (رأس المال البشري، والأراضي العامة، والمباني، والبنية التحتية، وخسارة رأس المال الإنتاجي) بنحو 750 مليار دولار أميركي بأسعار عام 2022. كما أدت حرب عام 1967 واحتلال "إسرائيل" للضفة الغربية وقطاع غزة إلى تهجير 30% من فلسطينيي الضفة.

نكوص التنمية في "زمن السلم" 

وشهد الاقتصاد الفلسطيني عقدين من الخسائر، حيث قدر مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "الأونكتاد" الخسارة التراكمية للناتج المحلي الإجمالي في الفترة ما بين 2000-2020 بنحو 50 مليار دولار أمريكي في الضفة الغربية وحدها مقابل ما لا يحصى في قطاع غزة. إضافة إلى الطاقة الإنتاجية المنفية والخسائر غير الملموسة وغير القابلة للحساب، فيما يعيش 35% فقط من الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ونحو 50% في الشتات، و15% كمواطنين في "إسرائيل". 

وعليه يستنتج الخالدي بأن هذا الصراع يقف بمثابة اختبار لمصداقية القانون الدولي ونظام الأمم المتحدة، "وأن قرنا من النضال من أجل الهوية القومية أثبت حق الشعب الفلسطيني القومي دون تحقيق استقلاله أو أي من حقوقة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. قوم محروم من حقوقه الاجتماعية والاقتصادية في إطار دولته القومية، التي عادة ما تكون الإطار الذي يضمن الحقوق الإنسانية والمدنية والسياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية لأي شعب. وقد تكون الغاية من إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية قد انتهت". 

الأزمات الجديدة تُفاقم عجز منظومة التنمية الاجتماعية

ويرى الخالدي، بأن المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية قبل الحرب، أظهرت عدم كفاية تغطية منظومة الحماية الاجتماعية، لذا فإن حرب أكتوبر 2023 أدت إلى تفاقم أوجه العجز القائمة أصلا، كما أدت إلى زيادة معدلات الفقر. 

وفيما يتعلق بالتأثيرات طويلة المدى؛ قال: "ستؤثر أرقام الضحايا المباشرة وغير المباشرة على متوسط ​​حجم الأسرة، ومتوسط ​​العمر المتوقع، والخصوبة. كما أن العدد الكبير من الإصابات وأصحاب الإعاقات سيفرضان أيضا تكاليف مباشرة وغير مباشرة تؤثر على تقديم خدمات الحماية الاجتماعية المستقبلية".

في الوقت الذي يؤكد فيه على أن سياسة الحد الأدنى للأجور التي تنتهجها السلطة الوطنية الفلسطينية غير كافية، وتعاني من قصور آليات الرقابة والتنفيذ. إضافة إلى ضعف حقوق العمال في القطاع الخاص، والاعتداء على حقوق العمال الفلسطينيين في "إسرائيل" والمستوطنات. في حين تنتظر "الأونروا" مستقبلا مجهولا. إلى جانب ما يواجهه قطاع الحماية الاجتماعية في فلسطين من تحديات واختلالات هيكلية ما يستوجب أن تكون الأولويات السياساتية هي توفير الإغاثة الفورية والعاجلة والدعم لقطاع غزة. كما ينبغي أن تهدف الاستراتيجيات طويلة المدى إلى تعزيز أنظمة الحماية الاجتماعية للإعداد لسيناريوهات التطهير العرقي والعدوان المستمر منخفض الوتيرة.

المستقبل القريب القاتم

يبدو المستقبل القريب قاتما، فأسوأ السيناريوهات المحتملة بحسب الخالدي، أي سيناريو التطهير العرقي والانحدار المطول هو الاحتمال الأقوى. مع ذلك، لا يستبعد الخالدي احتمالية أن ينشأ سيناريو من خلال تحالف عالمي جديد يجبر "إسرائيل" على التخلي عن ممارساتها الإبادية والتهجيرية ويسمح ببقاء الفلسطينيين وصمودهم. 

ويرى الخالدي أنه على الاستراتيجيات الاقتصادية أن تتكيف مع الواقع الجديد، وقال: "على الأغلب فإن الاستجابة الفلسطينية الأكثر فعالية ستكون مزيجا من اقتصاد الحرب (أي تخطيط الدولة مع التركيز على الصمود والبقاء) وسياسات جديدة تدور حول حركة حقوقية تعمل ضد الفصل العنصري والإبادة والصهيونية الجديدة".

"وكان معهد (ماس) قد ناقش في عديد اللقاءات المحلية والدولية الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية لحرب الإبادة الإسرائيلية على شمال الضفة الغربية، الاقتصاد السياسي للهوية القومية والاستقلال والتنمية في أعقاب الحرب، والسيناريوهات السياسية واستراتيجيات التنمية لاقتصاد مزقته الحرب، تقييم الآثار الاقتصاديّة والديموغرافيّة للاستيطان الإسرائيليّ على الأراضي الفلسطينية المحتلة…." .

 الشمول والاستبعاد المالي - إدارة المال والبنوك تحت الاحتلال 

في حين تطرق د. حبيب حن– طالب دكتوراه ومساعد بحث وتدريس في كلية لندن الجامعية (UCL) إلى نقاط الضعف الشديدة التي يعاني منها القطاع المصرفي الفلسطيني في ظل ظروف الحرب المستمرة والسياسات الإسرائيلية المتصاعدة المتمثلة في الضم الفعلي للضفة الغربية. حيث أدى الدمار واسع النطاق في غزة إلى تدمير البنية التحتية المصرفية وتعطيل أنظمة الدفع، وحد الدمار بشدة من إمكانية حصول السكان على الأموال، مما أدى إلى تفاقم المعاناة الناجمة عن تلك الخسائر في الأرواح والنزوح والتضخم المفرط والمجاعة. تزامنا مع تهديدات إسرائيلية بإنهائها العلاقات المصرفية بالمراسلة، هذه العوامل تؤثر في جميع أنحاء الاقتصاد، ووضعته على شفا انهيار نظامي محتمل وتسليط الضوء على هشاشة القطاع المصرفي تحت الاحتلال.

قضايا ذات أهمية حاسمة

من المنظور الإغاثي والمالي، يقول حن: "إن تحديات السيولة والنقص الحاد في السيولة النقدية في قطاع غزة هي أهم القضايا التي تواجه هذا القطاع. مع تدمير جميع البنية التحتية المصرفية، وبفعل الحصار العسكري الإسرائيلي المستمر، لم تدخل أي أموال نقدية جديدة إلى غزة منذ أكثر من عام. وفي وقت مبكر من الحرب، كان نقل الأموال النقدية داخل غزة يتطلب لوجستيات هائلة والتحديات الأمنية، ومع دفن خزائن البنوك الآن تحت الأنقاض، أصبح الأمر شبه مستحيل". 

وتُظهر المشاهدات أن سكان غزة يحاولون إصلاح أوراق العملة الممزقة إذ نفدت الخيارات أمامهم في اقتصاد يعتمد بشكل شبه كامل على النقد، وهذا النقص يجعل المعاملات اليومية الأساسية صعبة للغاية، حتى لو تم السماح بدخول البضائع لغزة. كما يؤدي التضخم المفرط وازدحام الناس في مناطق صغيرة وتقييد دخول المساعدات ومنعها إلى تفاقم الأزمة، وخلق أرض خصبة للاستغلال من خلال الرسوم الباهظة وارتفاع النشاط الإجرامي. إلى جانب تدمير البنية التحتية المصرفية وانهيار قضايا السيولة المستمرة، ونقص السلع الأساسية، وكل ذلك  تثير مخاوف بشأن الجدوى والفعالية من برامج المساعدات النقدية. 

وبينما يواجه قطاع غزة نقصا حادا في النقد، فإن خزائن البنوك في الضفة الغربية ممتلئة من عملة  الشيقل بسبب رفض بنوك المراسلة الإسرائيلية التحويلات النقدية. فمنذ تأسيس السلطة الفلسطينية وإعادة ظهور القطاع المصرفي الفلسطيني الذي اعتمدت عليه البنوك بعلاقات مصرفية مراسلة مع البنوك الإسرائيلية لإدارة المعاملات عبر البلاد والحفاظ على السيولة بموجب بروتوكول باريس الذي يحدد العلاقات بين سلطة النقد الفلسطينية وبنك إسرائيل وآليات التعاملات المالية بين البنوك الإسرائيلية والفلسطينية. وعلاوة على ذلك، فإن تراكم الشواقل والتأخير في تحويلها يحرم البنوك من إمكاناتها وأرباح الفوائد وزيادة تعرضها لتقلبات أسعار الصرف. 

ويتابع د. الحن: "بعد 7 أكتوبر، كرر وزير المالية الإسرائيلي اليميني المتطرف، بتسلئيل سموتريتش، مرارا وتكراراً تهديداته بقطع العلاقات المصرفية المراسلة بين البنوك الإسرائيلية والبنوك في فلسطين، مما يعرض الاستقرار المالي للخطر ويعيق قدرة البنوك الفلسطينية على المعالجة المالية والمعاملات التجارية، وزادت من تفاقم الوضع المصرفي تحديات القطاع المصرفي، بتزايد عدم اليقين، وتفاقم قضايا الوصول إلى الأسواق المالية العالمية، وزيادة قضايا الشيقل الزائد، لذا واجهت البنوك الفلسطينية قيودًا في الوصول إلى SWAP  العقود في الأسواق الدولية بسبب عدم اليقين المحيط بإصدار رسائل التعويض. كما أدى ذلك إلى إثارة الذعر بين التجار مع اقتراب انتهاء صلاحية الرسائل". 

يقول حن: "التهديدات بإنهاء رسالة التعويض تعرض البنوك الفلسطينية لمخاطر السمعة بين البنوك المراسلة الدولية ويمكن أن تعطل جميع المعاملات المالية بين البنوك الإسرائيلية والفلسطينية. ومن القضايا الملحة الأخرى مدى تعرض القطاع المصرفي لاقتراض السلطة الفلسطينية مع تزايد الاستقطاعات الإسرائيلية من إيرادات المقاصة، حيث بلغت حصة السلطة الفلسطينية من إجمالي التسهيلات الائتمانية 22.5% (2.7 مليار دولار) في سبتمبر 2024،  تجاوز الحدود التنظيمية".  

 وأشار حن، إلى أنه يتم دعم جزء كبير من قروض موظفي القطاع العام من خلال الرواتب التي تدفعها السلطة الفلسطينية. وتمثل قروض السلطة الفلسطينية ورواتب موظفي القطاع العام حوالي 40% من إجمالي التسهيلات الائتمانية، بالإضافة إلى ذلك، في ظل تراكم متأخرات السلطة الفلسطينية، تتأثر قدرة البنوك على الوفاء بالتزاماتها المالية لمقدمي الخدمات من القطاع الخاص. حيث تبلغ المتأخرات المتراكمة عليها  1.5 مليار دولار في سبتمبر 2024، وهو ما يمثل 27.3% من ميزانية 2024. 

ويقول: "إن اعتماد السلطة الفلسطينية وموظفيها والشركات التي لها روابط مالية معها على القطاع المصرفي  يثير مخاوف بشأن جدوى القطاع وفعالية الرقابة الاحترازية في ضمان ذلك الاستقرار في مثل هذه البيئة المعقدة. ويشير تشابك التبعيات إلى أنه من المرجح أن ينهار القطاع المصرفي والعديد من الشركات بجانبه".

فبينما تسعى "إسرائيل" إلى إقامة وجود عسكري دائم، إن لم يكن استيطانا استعماريا، في غزة وتواصل ومستوطنوها حملات الاستيلاء على أراضي الضفة الغربية، فإن د. حن يطرح مجموعة تساؤلات لا يوجد لها أي جواب مثل: هل المؤسسات الفلسطينية العامة وشبه المستقلة مجهزة لذلك؟  النجاة من انهيار السلطة الفلسطينية؟ ما هي الآليات الموجودة لحماية المودعين في حالة انهيار السلطة الفلسطينية؟  فهل يتحمل المنظمون وصناع السياسات والمخططون الفلسطينيون مثل هذه المخاطر؟ كيف ستتأثر حياة الناس المالية وأصولهم إذا تولت قوة استعمارية السيطرة على الدولة؟ سوف يُسمح للبنوك الفلسطينية باستئناف عملياتها في قطاع غزة بينما يُسمح لمؤسسات السلطة الفلسطينية، هل تُحرم سلطة النقد الفلسطينية من القيام بدورها في الأراضي المحتلة حديثا؟.

وأضاف: "ولعل الأمر الأكثر إلحاحا هو: ماذا سيحدث لجميع العقارات المرهونة المدمرة؟  في غزة؟ فهل ما زال الناس ملزمين بسداد هذه الديون؟ فهل سيتحمل الفلسطينيون العاديون عبء هذه التكاليف؟ إذا تذكرنا التاريخ مرة أخرى، ما مدى اهتمام البنوك بشأن بقائهم. هذه القضايا الملحة هي محور كل شيء، لكنها تظل غائبة عن المناقشات الرسمية وتتجاوز مصالح مؤسسات التنمية الدولية التي تعمل على أساس استمرارية السلطة الفلسطينية. 

ويقول د. حن: "الواقع أن فلسطين تشهد نكبة جديدة تدعو للاستجابة من قبل القطاعين العام والخاص بقدر استطاعتها ومع ذلك، علينا صد الضغوط المتزايدة إذا كان الشركاء الدوليون على استعداد للتدخل".

أولويات التدخل

ويطرح د. حن، بعض التدخلات المحتملة من المنظور المالي/المصرفي، ابتداء من التركيز على سيادة النظام المالي الفلسطيني، وضمان توافر النقد والوصول إلى الخدمات المالية في غزة، وإدارة فائض الشيقل، وإضفاء الطابع الرسمي على ترتيب دائم للعلاقات المصرفية للمراسلة،  وإجراء التقييمات الوطنية للمخاطر الوطنية المتعلقة بغسل الأموال وتمويل "الإرهاب"، وتسريع اعتماد الخدمات المالية الرقمية في الضفة الغربية، دعم الاقتصاد الإنتاجي والأسواق المحلية، تعزيز سلطة النقد الفلسطينية وقاعدة رأسمال البنوك، التركيز على الدوام والاستدامة بدلاً من الربحية، تعزيز الأثر الاجتماعي الإيجابي والاعتراف به، تعزيز التعاون بين الهيئات القضائية وسلطة النقد الفلسطينية، وتنويع العروض المصرفية.

حرب الإبادة مزقت السيناريوهات السياسية واستراتيجيات التنمية للاقتصاد 

وفي السنة الثانية من حرب الإبادة، يدعو د. ماهر الكرد- المستشار الاقتصادي السابق لرئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وكيل وزارة الاقتصاد الوطني السابق، القيادة الفلسطينية إلى اعتماد سياسات وترتيبات خاصة لمواجهة التهديدات الوجودية التي تواجه الكيان الفلسطيني في الأرض الفلسطينية المحتلة. كما دعاها إلى إعلان حالة الطوارئ والتي من شأنها منح السلطة الوطنية الفلسطينية صلاحيات خاصة ستكون ضرورية لصياغتها وتنفيذ السياسات والتدابير الكافية لمواجهة التحديات والأولويات المحددة حديثا. كما أنه لا بد أن تقوم السلطة بإعادة ضبط أساليبها وتعاملها مع قضايا متنوعة مثل الإيرادات العامة والنفقات العامة والإنتاج والاستهلاك المحلي، اتجاه تحديد أولويات مساعدات المانحين، والقطاع العام. 

وقال الكرد: "إن الخطر الحالي والوشيك للإبادة الجماعية والتطهير العرقي في  قطاع غزة، واتساع نطاق العنف والتدمير الاقتصادي في الضفة الغربية يستلزم المزيد من الدور القوي والتحويلي للسلطة الوطنية الفلسطينية في صنع السياسات الاقتصادية وتنفيذها، وتتطلب كل واحدة من هذه القضايا الاقتصادية مراجعة متعمقة". مؤكدا أن مدى توسع السلطة الوطنية وتعزيز دورها في عملية إعادة الهيكلة وتنفيذ سياساتها يعتمد على الطريقة التي ستنتهي بها الحرب وتوقف العمليات العسكرية. 

ويرجح الكرد أن يواصل الائتلاف الإسرائيلي الحاكم الحفاظ على حصاره لقطاع  غزة والقيود والإغلاقات المشددة على المنطقتين (أ) و(ب) في الضفة الغربية. وفي هذا السياق، قد يشهد العام أو العامان المقبلان امتدادا للعمليات العسكرية المستمرة  في قطاع غزة واستمرار تنفيذ الخطة الإسرائيلية “الحاسمة” في الضفة الغربية. هذه سوف تستلزم أن تتم عملية إغاثة إنسانية واسعة النطاق في غزة وأن تفعل السلطة الوطنية الفلسطينية ذلك في المنطقتين (أ) و(ب) في الضفة الغربية اللتان تتعرضان للإغلاق الإسرائيلي، وتعليق تصاريح العمل في الاقتصاد الإسرائيلي، انخفاض الإيرادات العامة، والقيود المفروضة على الحركة والوصول، والحواجز التجارية الصارمة ... إلخ.  وهذه هي مجموعة من الاحتمالات التي يتعين على السلطة الوطنية الفلسطينية التعامل معها في المستقبل القريب أثناء قيامها بمراجعتها إعادة هيكلة سياساتها الاقتصادية.

وأضاف معقبا: "لا يمكن التعامل مع هذه الآفاق والتحديات القاتمة بشكل مناسب مع "العمل كالمعتاد"، وإن الاحتياجات المحددة والواقعية للمجتمعات التي مزقتها الحروب “… تشمل المؤسسة  دولة فاعلة تتمتع بالقدرة على التحكم في مواردها المالية وبرامجها الاجتماعية ومؤسساتها وصنع القرار، والسياسات التي تعترف بالدور الذي تلعبه اقتصادات الظل، وأكثر من ذلك  دعم النهج الإقليمي للأمن والتنمية".

الأولويات الاقتصادية في آفاق الإصلاح

وفي سيناريو الاحتمال "التصالحي"، الذي يشير إلى مفاوضات برعاية دولية على العمليات العسكرية الإسرائيلية أن تنتهي، وسيرفع الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، وسيتم تعليق تنفيذ الخطة “الحاسمة” في الضفة الغربية، ويمكن للسلطة الوطنية الفلسطينية أن تبدأ بتغيير السياسة الاقتصادية التي كانت قد حافظت عليها  وقد طبقت طوال العقدين الماضيين رأسا على عقب، أي من التبعية لتحرر  التجارة والواردات لزيادة إيرادات التخليص، إلى سياسة اقتصادية داعمة محليا الأنشطة الإنتاجية، واستبدال الواردات، والاستثمار في تنمية رأس المال البشري.

الأولويات الاقتصادية في الوضع الراهن

ويؤكد الكرد أن إدامة الوضع الراهن في الضفة الغربية يتطلب صياغة اقتصادية لسياسات الصمود لمواجهة التهديدات الوجودية التي تواجه السلطة الوطنية الفلسطينية وتتمثل في: إعادة ترتيب الأولويات  والنفقات، وإعادة تخصيص الموارد، وإجراءات التقشف الصارمة في النفقات العامة، - التوسع في تغطية الضمان الاجتماعي وتعزيز إنتاج الغذاء ودعم وحماية الغذاء المحلي  والصناعات وآليات وأدوات التمويل لتوسيع الصناعات الزراعية  وتدابير قوية لمكافحة الإغراق للحد من هيمنة المنتجات الإسرائيلية في السوق المحلية. كما أن الإجراءات العدائية الإسرائيلية ضد الأونروا وأنشطتها ستتطلب المزيد  الجهود التي تبذلها السلطة الوطنية الفلسطينية لمعالجة أوجه القصور والاحتياجات كجزء من تدابير "حالة الطوارئ".

آفاق السياسة الفورية

يقول الكرد: "إن الدمار الشامل لاقتصاد قطاع غزة، وفي الضفة الغربية تراكمي وآثاره تتجلى في ارتفاع معدلات البطالة والفقر، وتراجع الأداء الحكومي والإيرادات، وانخفاض الاستهلاك العام والخاص، وتكثيف هجمات المستوطنين  مما تسبب في دوامة هبوطية مع احتمالات هزيلة للتخفيف أو التخفيف من حدة التهديدات ووقفها وهي  تحديات لم تواجهها السلطة الوطنية الفلسطينية طوال العقود الثلاثة الماضية، ولا حتى خلالها  الانتفاضة الثانية ولا خلال جائحة كوفيد-19، وفي السنوات القليلة الماضية، تراجعت قدرة السلطة الوطنية الفلسطينية على توفير الأمن والحماية لجمهورها وفي الضفة الغربية يتآكل بسبب السياسات الإسرائيلية العدائية".

ويتابع: "في ظل غياب عملية يفرضها ويرعاها دوليا من شأنها أن تضع حدا  للعمليات العسكرية وإطلاق عملية للتوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض، ستحتاج السلطة الوطنية الفلسطينية حماية وصون جسدها السياسي من خلال إعادة صياغة سياساتها الاقتصادية والموضوعية وتخصيص الموارد لتعزيز صمود مواطنيها، وتحديد الأولويات  والاعتماد على الذات، الحماية الاجتماعية، الحد من الفقر والبطالة، الأنشطة الإنتاجية، التنمية التشاركية والمحلية".

الإبادة ديمغرافية بامتياز

 يقول د. داود الديك – مستشار رئيس الوزراء السابق/ وكيل وزارة الشؤون الاجتماعية السابق: "يكفي معرفة أن نسبة المتضررين مباشرة من العدوان على قطاع غزة 5% من مجمل سكان القطاع وهي نسبة مرعبة في حين يطال التأثير المباشر 1,7% من أجمالي كل فئة سكانية بتركيز العدوان على الأطفال والنساء والشباب بمعنى التركيز على ما دون 30 سنة بمعنى خلخلة التركيبة السكانية فالإبادة ديمغرافية بامتياز".

ويرى الديك، أن الاسرائيليين يؤسسون لسنوات قادمة، بالتأثير وحصر معدلات النمو السكاني ونسب الزواج لسنوات قادمة "وديموغرافيا نحن تخلخلنا فما البال إذا اكتمل مخططهم بالتهجير المباشر للسكان، وبالتالي نحن بكل مؤسساتنا ونظامنا السياسي كان بإمكاننا نساعد أكثر بعضنا البعض ونضمد جراحنا أكثر ونقلل الخسائر الاقتصادية والاجتماعية والنفسية بمعزل عن كل ما ارتكبته "إسرائيل" في الإبادة والعدوان". 

برامج حماية اجتماعية مشتتة مجزوءة

ويتابع د. الديك: "كان بإمكننا أن نعزز صمود الفلسطينيين بشكل حقيقي لو كانت لدينا منظومة حماية اجتماعية قوية كفوءة فاعلة ومستجيبة للأزمات والهزات، ولا يوجد في فلسطين نظام حماية اجتماعية ولكن يوجد برامج حماية اجتماعية مشتتة مجزأة جزء كبير منها يعتمد على التمويل الخارجي، ولو كانت لدينا سياسات اقتصادية واجتماعية مناسبة لسياقنا تحت الاستعمار والاحتلال كان أداؤنا أفضل ولو عالجنا بحكمة وشجاعة وإرادة كل الاختلالات البنيوية التي تعتري سياقنا المؤسساتي مع الانقسام أيضا وسياقنا الاقتصادي الاجتماعي كان بالإمكان أن يكون أداؤنا أفضل ونكون نحن فعلا ساعدنا أنفسنا وشعبنا أكثر لو اتبعنا نهج الحوكمة الرشيدة، ومن المؤسف مرت علينا حالات طوارئ وأزمات وانتهاء بما نتعرض له من إبادة فليس بالإمكان عودة الأمور إلى مكانها السابق. وليس بالإمكان بقاء الأداء على ما هو عليه".

أي السياسات الاقتصادية الاجتماعية نريد لمواجهة الإبادة الاقتصادية والاجتماعية؟

يتابع د. الديك: "ما جرى تجاوز كل النظريات والمدارس، إذا لم تكن هذه السياسات مبنية على إطار العدالة الاجتماعية أربعة أشياء أساسية في كل ما نقوم به من سياسات اقتصاد، اجتماع، مساواة، وحقوق، وإدماجهم فالميزان مختل في ظل غياب العدالة وتعمق التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية، نريد اقتصادا اجتماعيا وتضامنا يساعد المجتمع على أن يكفي مسيرته نحو حق تقرير المصير".

ولكن الديك، يشترط على هذه السياسات أن تأخذ بالاعتبار الموارد والفرص، وأن يتم تحسين توزيعها بعدالة، وكذلك العمل على توزيع الظلم والأعباء وهذا دور السياسات المركزية وليس دور القطاع الخاص، وقال مستدركا: "بدون هذه التركيبة نحن نحو إبادة وانسحاق وخراب اجتماعي اقتصادي لن يستطيع أحد إيقاف عجلته، بعد فترة ستقف الحرب التي نتج عنها 40 ألف يتيم وآلاف الأسر مسحت من السجل المدني وما يزيد عن 25 ألف معاق في غزة و6 آلاف حالة بتر، وبنية تحتية ورأسمال بشري واجتماعي وجامعات ومصانع كله تم سحقه، فكيف يمكن نرجع نعمل بالأداء؟. لذا علينا بالمقابل اعتماد وتنفيذ سياسات على إلصاق الناس ببعضهم البعض وإلصاقهم بالأرض وصولا لصمود يقوم على منظومة العدالة الاجتماعية". 

تعطيل أي محاولة  لتغيير جوهري في الاقتصاد وبناء مناعته 

يقول رجل الأعمال سمير حليلة: "إنه يمكننا إعداد برنامج اجتماعي اقتصادي مبني على الصمود والمناعة من كان يعطل أي تحول في برنامجنا الاقتصادي حتى عام 2010 هو حجم التمويل الدولي الذي كنا نتلقاه بكثافة إبان فترة حكومة د. سلام فياض وما بعده بقليل  حيث عطلت أي محاولة  لتغيير جوهري في الاقتصاد وبناء المناعة والاقتصاد الفلسطيني ونحن نعيش هذا الوضع منذ أكثر من 10 سنين نرى أن هذا الموضع تم تهميشة".

ويتابع: "الأجندة الاجتماعية لم يسبق أن كانت بهذا الوضح مثل ما هي عليه الآن لأنها مبنية على 250 ألف عامل لم يعودوا يعملون في "إسرائيل" ومبنية على 80% من العاملين في غزة لا يعملون، إضافة إلى 30% من اقتصادنا المحلي متوقف ما يعني أن الأرقام والمؤشرات الاقتصادية الموجودة الآن لم يسبق أن كان لها مثيل وتحتاج إلى إعادة نظر هيكلية في بنية الاقتصاد وأيضا في بنية البرامج الحكومية ذات العلاقة. وللأسف الحكومات الفلسطينية المتعاقبة في غياب المجلس التشريعي هي لتسيير الأعمال بدون أن يكون لديها الأموال والإمكانات النقدية، فنحن بحاجة إلى جهد كبير اقتصاديا واجتماعيا". 

سوء فهم وتقدير للعلاقة مع "إسرائيل"

أما الخبير الاقتصادي د. حسن أبو لبدة فيقول: "هناك سوء فهم وتقدير للعلاقة مع "إسرائيل" التي كانت مفروض أن تكون انتقالية وأصبحت أبدية بدون محتوى فلسطيني، سنة 2010 عملت حملة ضد المستوطنات ولم أدري من أين أتلقى الضربات وتأتيني الردود الهجومية من السلطة وليس أي أحد آخر".

ويؤكد أبو لبدة، أن المطلوب اليوم جديا كأولويات مطلقة هو كيف نخرج من هذا المستنقع ونعيد الكرة للملعب الحقيقي وهو مواجهة "إسرائيل" واحتلالها والسعي للتحرر منه بالأشكال المختلفة، لذا فإننا بحاجة ماسة للضغط من كافة أطراف المجتمع لإلزام أنفسنا بأجندة وطنية لليوم التالي، وعلى رأس هذه الأجندة الوطنية هو وقف الحرب والإبادة الجماعية، فغزة تباد من "إسرائيل" بقبول أهل الضفة الغربية وباقي العرب وجزء من الأجانب".

ويقول: "لتعود الأمور إلى نصابها، على الأقل نحن غير مختلفين بشكل عام بأن ( م.ت.ف ) هي الوطن المعنوي للشعب لتعود الأمور لمن لديه أسنان وهذا يستدعي أخيرا  هزة في النظام السياسي الفلسطيني بمشاركة الجميع ليس تأمرا وإنما لأن كل مستقبلنا يضيع بسبب هذا السلوك المشين".