الجمعة  16 أيار 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

النكبة مستمرة منذ 77 عاما.. لكن "إسرائيل" لن تستطيع إنهاء ما بدأته

2025-05-15 09:49:41 AM
النكبة مستمرة منذ 77 عاما.. لكن
تعبيرية

خاص الحدث

في ضوء الحرب الإبادية على غزة منذ أكتوبر 2023، يتجلى بوضوح أن النكبة الفلسطينية لم تكن حدثاً تاريخياً منقطعاً، بل عملية مستمرة منذ تأسيس "إسرائيل" عام 1948 وحتى اليوم. هذا الاستنتاج ينبثق من طبيعة العنف المؤسسي والعرقي والاستيطاني الذي ما انفك يُمارس ضد الفلسطينيين، ويُعيد إنتاج ذات آليات الإقصاء والهيمنة التي وُلدت مع المشروع الصهيوني. فالحرب الأخيرة ليست إلا حلقة من حلقات النكبة المتواصلة، تأكيد على دينامية الصراع الذي لم يُحسم.

منذ البداية، نشأ الكيان الإسرائيلي على عنف استعماري صريح. تأسيس "إسرائيل" جاء مقروناً بعمليات تهجير قسري وتدمير ممنهج للقرى الفلسطينية. وحتى من بقي من الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة عام 48، أُخضع لنظام قمعي قانوني وهيكلي، تمثّل في قوانين مثل "قانون الأملاك الغائبة"، وفرض حكم عسكري حتى عام 1966، وغيرها من السياسات التمييزية التي حوّلت الفلسطينيين إلى "أقلية عربية" تخضع لمنظومة من الضبط والسيطرة.

بمرور العقود، لم تخف حدة العنف، بل تنوعت أشكاله. تم قمع الاحتجاجات، كما في مذبحة كفر قاسم، وأُلحقت الضفة والقطاع بمنظومة الاحتلال بعد 1967، بينما تكثفت مظاهر التمييز والاستيطان والعنف العسكري. هيومن رايتس ووتش وغيرها من المنظمات الحقوقية أكدت وجود نظام تفوّق عنصري متكامل، يخضع فيه اليهود لقوانين مدنية، بينما يُعامل الفلسطينيون كغرباء بلا حقوق أساسية. العنف لم يكن استثنائياً، بل ممارسة دورية: من اغتيالات واعتقالات جماعية، إلى حصار ومنع إعمار وتهجير قسري. وهذا ما يؤكد أن جذور سياسة "إسرائيل" كانت وما زالت استعمارية، تهدف إلى تثبيت هوية الدولة اليهودية بالقوة، وإدامة النكبة كسلوك متجدد.

وعندما يُشار إلى التطهير العرقي، فلا ينبغي حصره في عام 1948. هذا النمط استمر بعد 1967 وما زال يتجلّى في السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين. فهناك نماذج كثيرة لسياسات "الإخلاء التدريجي": من تقسيم الضفة إلى كانتونات معزولة، إلى منع تراخيص البناء وهدم المنازل بحجج قانونية واهية. حتى الأحياء المقدسية والمناطق البدوية تُستهدف بنفس العقلية: تحويل الفلسطينيين إلى كتل سكانية محاصرة ومُفككة، تمنع عنها التنمية وتدفعها قسراً إلى النزوح. الغرض المركزي هو تكريس "الهيمنة اليهودية" على الأرض، وتفريغ فلسطين من سكانها الأصليين بأساليب بيروقراطية وعسكرية.

الحرب الأخيرة على غزة كانت تجسيداً ساطعاً لهذه النكبة المستمرة. فالمجازر الجماعية، التهجير، القصف المتواصل، تجويع السكان، وتدمير البنى التحتية، كلها أدوات تدفع إلى قراءة ما يجري كجزء من استراتيجية تطهير عرقي منهجي. القطاع، الذي أُخرج من دائرة الاحتلال المباشر عام 2005، لم يتحرر، بل أُخضع لحصار خانق شلّ حركته وسكانه، وحوّله إلى "معسكر اعتقال جماعي". في كل مرة يقع فيها اشتباك، تبرر "إسرائيل" عدوانها بحجة "الأمن"، بينما تتكرس النتيجة ذاتها: دمار إضافي، وعدد أكبر من الشهداء، وحصار أشد. وهذا يعني أن غزة ليست حالة معزولة، بل تتموضع داخل معادلة النكبة ذاتها. المقاومة الفلسطينية في هذا السياق، هي نتيجة مباشرة لاستمرار الظلم التاريخي الناتج عن النكبة. 

قطاع غزة يُمثّل اليوم رمزاً واضحاً لما تعنيه النكبة المستمرة: منطقة محاصرة يعيش فيها أكثر من مليوني فلسطيني في ظروف كارثية، يُحرمون من الحد الأدنى من مقومات الحياة. المياه ملوثة، الكهرباء شحيحة، الاقتصاد مشلول، والآفاق معدومة. ومع كل هذا، تستمر "إسرائيل" في فرض سيطرتها عبر القصف والاغتيالات وإحكام الخناق، بينما العالم يكتفي بالتنديد أو الصمت. في الواقع، القطاع لا يُفهم إلا كجزء من سردية كبرى بدأَت في عام 1948، ولم تنتهِ يوماً.

ما يجري في غزة، ليس إلا "مرحلة تكرار مأساوي" للماضي. فكل حرب هناك ليست نهاية، بل تأجيل لجولة مقبلة. لا حل سياسي يُطرح، ولا استراتيجية طويلة الأمد تحل المعضلة، بل دوامة من العنف المتكرر الذي يعكس عجزاً إسرائيلياً عن الحسم أو الاعتراف بالجذر الحقيقي للمشكلة: نكبة 1948. طالما لم تُحل تلك الجذور، ستبقى الحروب تتوالى، وستبقى المقاومة تتجدد، وسيسقط المزيد من الشهداء.

التناقض الأبرز في المشروع الصهيوني، هو إصراره على فرض "الهدوء" بالقوة. هذا المنطق أثبت فشله، لأن "إسرائيل"، رغم تفوقها العسكري والاستخباراتي، لم تستطع إطفاء جذوة النكبة. حتى داخل مراكز القرار الأمني الإسرائيلي، ثمة إدراك بأن الضربات العسكرية لا تؤدي إلى "حسم الصراع". بل على العكس، فهي تُفاقم الجرح، وتعمّق الرغبة بالمواجهة، وتُغذي سردية فلسطينية ترى في النكبة المستمرة سبباً في استمرار الكفاح.

وبهذا المعنى، فإن الفلسطينيين لا يخوضون فقط معركة بقاء، بل معركة سردية تاريخية. الصراع لم يعد محصوراً في حدود 1967، بل عاد ليتصل بجذور 1948. والمأساة ليست فقط في الاحتلال العسكري، بل في نزع الحق في الوجود، وفي محو التاريخ والهوية. كل حجر يُهدم، وكل بيت يُقصف، وكل لاجئ يُحرم من العودة، هو امتداد لجريمة الأصل. ولهذا، فإن العدالة الغائبة منذ 77 عاماً، ستظلّ تطارد هذا الصراع، وتحول دون طيه، مهما بلغت "إسرائيل" من تفوق.

في النهاية، يثبت الواقع أن "إسرائيل"، رغم ما تملكه من أدوات، لم تُفلح في إنهاء ما بدأته. المشروع الذي أُسِّس على الطرد، والتفوق، والسيطرة، يتعثر أمام شعب يرفض الانصياع، وأمام حقيقة أن النكبة لا تموت بالزمن. الحرب على غزة كشفت من جديد هذا الواقع: لن تمحو الطائرة الإسرائيلية ذكر الفلسطينيين ولا وحيهم. والنتيجة، أن النكبة مستمرة، ليس فقط لأن الفلسطينيين يتعرضون للقتل والتشريد، بل لأن العالم يتواطأ في نسيان جريمتهم الأصلية.