الثلاثاء  03 حزيران 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الطعام بيد المرتزقة: مشروع الإغاثة الأميركية في غزة/ بقلم: ياسر منّاع

2025-06-01 09:25:11 AM
الطعام بيد المرتزقة: مشروع الإغاثة الأميركية في غزة/ بقلم: ياسر منّاع
ياسر مناع

هل رأيت يومًا جائعًا يُجبر على تناول الطعام تحت فوهة بندقية؟ هل تخيّلت أن تصل المعونات محمولة على ظهر دبابات مصفّحة، وتوزّعها أيادٍ مدرّبة على القنص والموت لا الحياة؟

قد لا يكون هذا مشهدًا خيالًا لفيلم، بل ملامح تجربة ناشئة، يجري اختبارها تحت مسمى ناعم: "برنامج المساعدات الأميركي الجديد"، ويُدار عبر ما يُعرف بـ"صندوق غزة الإنساني " (GHF)، في شراكة معلنة مع شركات أمنية أميركية خاصة ذات سجل أسود حالك. يُقدَّم هذا النموذج كحل يهدف إلى إيصال المساعدات إلى سكان قطاع غزة بعيدًا عن حماس، لكنه في جوهره يمثّل تحوّلًا في منطق الإغاثة ذاته: من الاستجابة الإنسانية إلى الإدارة الأمنية.

في 18 أيار 2025، أعلن وزير الأمن الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، عن إبرام اتفاق رسمي مع شركات أمنية أميركية لتتولى مهام توزيع المساعدات الإنسانية داخل قطاع غزة. جاء هذا الإعلان بعد أيام من تصريح للسفير الأميركي في إسرائيل، مايك هاكابي، خلال مؤتمر صحفي في مقر السفارة الأميركية، قال فيه: "بدأ تنفيذ الخطة الإنسانية في غزة وفق المبادئ التي حدّدها الرئيس ترامب، وسيُوزَّع الطعام بطريقة تضمن منع حركة حماس من السيطرة عليه، ودون تعريض حياة أي إنسان للخطر".

يتناول هذا المقال هذه التجربة بوصفها مشروعًا استعمارياً مقنّعًا برداء إنساني، يستعرض سريعًا ماهية الشركات الأمنية الخاصة الأميركية. كما يناقش العوامل البنيوية التي، إن توافرت، قد تُفشل هذا المشروع من أساسه: رفض المشاركة الدولية في المشروع، المقاومة الميدانية، وأخيرًا وليس آخرًا، رفض الفلسطيني الجائع أن يُهان باسم الطعام.

مرتزقة بثياب إنسانية

من يقرأ عن الشركات الأمنية الأميركية الخاصة لا بد أن يلاحظ تاريخها الأسود. تلك الشركات التي عُرفت بضلوعها في عمليات قتل واغتصاب، سرقة ونهب في العراق وأفغانستان، والتي وقفت خلفها فضائح دولية كبرى، تعود اليوم إلى غزة بثوب أبيض "حملة إنسانية لتوزيع الغذاء". لكنها لم تتنكر لمبادئها المتمثلة في: السيطرة أولًا، والربح ثانيًا، وما تبقى تفاصيل إنسانية تُسوّق للاستهلاك الدولي.

يعود تاريخ هذه الشركات إلى أوائل الألفية الثالثة، حين قررت وزارة الدفاع الأميركية، عقب غزو العراق، تفويض أجزاء واسعة من مهامها الميدانية إلى شركات خاصة، أبرزها بلاك ووتر، لم تكن عناصر هذه الشركة مجرد حراس مدنيين، بل قوات شبه عسكرية، درّبت مقاتليها على العمليات الخاصة، والإشراف على نقاط التفتيش، وتأمين القوافل، وتنفيذ مهام استخباراتية. ما يُميز هذه الشركات هو أنها تعمل في "المنطقة الرمادية" من القانون، لا هي جيوش رسمية تخضع لقوانين الحرب الدولية، ولا هي منظمات إنسانية ملزمة بمواثيق أخلاقية.

هذه الشركات لا توفّر فقط "الخدمات الأمنية"، بل تقدم أيضًا ما يُسمى "حلول الاستقرار"، تشمل جمع البيانات السكانية، تحليل البيئات المحلية، تدريب القوات الصديقة، وتقديم تقارير استخباراتية عن الرأي العام والمجتمع المدني. إنها شركات تخوض حروبًا ناعمة وخشنة، تستبدل البندقية بالحاسوب حين يلزم، وتدير مناطق النزاع كأنها مشاريع استثمارية.

واليوم، في غزة، تظهر هذه المؤسسات من جديد، بعد أن أُعيد تدوير بعضها تحت أسماء أكثر نعومة. وفي إطار مشروع صندوق غزة الإنساني GHF، أُوكلت إليها مهمة تأمين وتوزيع المساعدات الغذائية، وكأن سجلّها الدموي قد مُسح بجرة قلم.

لكن الفارق بين الذخيرة والخبز، في هذه الحالة، ليس كبيرًا. فالعقيدة التشغيلية واحدة، تأمين بيئة العمل بالقوة، عزل العناصر "المعادية/الإرهابية"، وتحقيق أقصى درجات السيطرة، ولو على حساب الكرامة الإنسانية. ما تغيّر هو الوسيلة، لا الغاية. فبدلًا من اقتحام المدن بمدرعات، باتت تدخلها بطرد غذائي مرقّم، وطائرة درون تحوم فوق رأس المتلقي.

الخطير في هذا التحوّل أن الإغاثة باتت تُوظف كأداة هيمنة، لا كاستجابة لكارثة. والمناطق المنكوبة، كغزة، تتحول إلى ساحات اختبار لنموذج جديد من "الإدارة بالسلاح"، حيث المساعدات تخضع للضبط الأمني، لا للمعايير الأخلاقية والإنسانية.

لقد أعادت الولايات المتحدة، بشراكة إسرائيلية، تدوير أدواتها القديمة، فكما كانت هذه الشركات ذراعًا في احتلال العراق، ها هي اليوم تُعاد تسويقها كقناة توزيع للمساعدات. لكن المراقب العاقل يدرك أن من درّب على القتل لا يمكن أن يُؤتمن على الإطعام. ومن حوّل الحرب إلى تجارة، سيحوّل الخبز إلى أداة خضوع.

 مبادرة غامضة محاطة بالشبهات

قبل أن يرى برنامج المساعدات الأميركي الجديد المخصص لغزة النور، اصطدم بجدار من الاعتراضات الدولية والإجرائية، جعلت انطلاقته محفوفة بالريبة والتأجيل. المشروع المعروف باسم "صندوق غزة الإنساني" (Gaza Humanitarian Foundation - GHF)، والذي يُفترض أن يُشكّل ركيزة لخطة توزيع مساعدات غذائية للفلسطينيين في القطاع، دخل في حالة من الشلل التنظيمي المؤقت، إثر موجة رفض واسعة عبّرت عنها منظمات إغاثة دولية، وممثلو الأمم المتحدة، وعدد من الحكومات الأوروبية. هذا الضغط قاد الحكومة الإسرائيلية إلى تعليق تنفيذ الخطة، والعودة مؤقتًا إلى آلية التوزيع التقليدية حتى 24 أيار/مايو، بقرار من رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، وبضغط مباشر من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، رغم اعتراضات صاخبة من داخل اليمين الإسرائيلي ذاته.

وتقوم الخطة الأميركية على توزيع طرود غذائية أسبوعية مباشرة على الأفراد، بدلاً من دعم المطابخ الجماعية أو نقاط التوزيع المجتمعية، بزعم منع تسلل المساعدات إلى أيدي حركة حماس أو وقوعها في قبضة السوق السوداء. غير أن هذه الآلية أثارت تحفظات جدية، نظرًا لطبيعتها الفردية غير المستدامة، وإلى الغموض الذي يكتنف الأطراف المسؤولة عن إدارتها وتمويلها.

تحقيق أجراه موقع "شومريم" الاستقصائي كشف أن الجمعية المُسجلة باسم GHF، والتي أُنشئت في سويسرا، تفتقر إلى أي خلفية إنسانية موثوقة. رئيس الجمعية الظاهر في السجلات، ديفيد بابازيان، هو رجل أعمال من أصول أرمينية، ترأس سابقًا صندوق الاستثمار السيادي في أرمينيا قبل إقالته من منصبه في يناير 2024. يشغل بابازيان حاليًا رئاسة مجلس إدارة شركة الطيران الأرمنية "FlyArna"، ويُعرف بقربه من دوائر القرار في دولة الإمارات العربية المتحدة، الأمر الذي أثار تساؤلات حول طبيعة ودوافع انخراطه المفاجئ في مشروع إنساني بالغ الحساسية في غزة.

لكن المفارقة الأكبر أن الجمعية السويسرية لم تكن الوحيدة: فقد تأسست قبلها جمعية أميركية تحمل الاسم ذاته – "Gaza Humanitarian Foundation" – وسُجّلت في ولاية ديلاوير في نوفمبر 2024، بإشراف المحامي جيمس كونديف، المتخصص في التخطيط الضريبي وتأسيس الصناديق الائتمانية للأثرياء. هذا المعطى يعزز الشكوك حول ارتباط المشروع بترتيبات مالية مغلقة، لا بهياكل العمل الإنساني المعروفة.

وما يثير القلق بشكل خاص هو أن كونديف نفسه تولّى أيضًا تسجيل شركة أمنية خاصة تدعى Safe Reach Solutions، وهي إحدى شركتين أميركيتين تولّتا خلال فترة التهدئة السابقة مهمة تفتيش المركبات الفلسطينية العابرة إلى شمال قطاع غزة، بذريعة منع تهريب السلاح من قبل حماس.

وقد اتضح لاحقًا أن الشركتين المشغلتين لمشروع المساعدات – Safe Reach Solutions وUG Solutions – تُداران من قِبل ضباط سابقين في أجهزة أمنية أميركية، من بينهم فيليب رايلي، وهو موظف سابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA)، وجيمسون جوفاني، الذي خدم في العراق وأفغانستان ضمن وحدات قتالية خاصة. وتربط تقارير ميدانية بعض أفراد هذه الشركات بشبكة "بلاك ووتر" سيئة السمعة، والتي ارتكبت انتهاكات فادحة في العراق مطلع الألفية.

أما من ناحية التمويل، فلا تزال الصورة شديدة الضبابية. لم يُعلن بعد عن جهة ممولة رئيسية للمشروع، ولا عن مصادر شراء المواد الغذائية والدوائية، أو آلية دفع أجور الشركات الأمنية المتعاقدة. في المقابل، بدأت شركات إسرائيلية مثل "שינטרקוב" بتوقيع عقود لتوريد القمح لغزة، بالتنسيق مع برنامج الأغذية العالمي، ما يطرح علامات استفهام حول تداخل الإغاثة بالمصالح التجارية.

بعض الشركات المتورطة في المشروع أعربت بدورها عن قلقها من شروط الدفع المؤجل، والغموض المتعلق بمصدر الأموال، بينما حذر مراقبون من أن سياسة تقنين المساعدات – كما أعلنها وزير المالية الإسرائيلي، والمبنية على تزويد القطاع بـ"الحد الأدنى من الغذاء والدواء فقط" – ستؤدي عمليًا إلى توسّع السوق السوداء، وتُعيد إنتاج منظومة تحكّم تُفيد الجماعات المسلحة أكثر مما تفيد المدنيين.

وفي تحليل نُشر على موقع "زمان يسرائيل"، رُصِدت نوايا حسنة مفترضة للإدارة الأميركية، ترتكز على حرصها منع هيمنة حماس على المساعدات، لكن دون حل سياسي جذري ينظّم الحكم في القطاع، ودون شراكة مع فاعلين محليين يتمتعون بشرعية ميدانية، فإن الخطة تُهدّد بأن تُعيد إنتاج الفوضى، وإن بآليات أكثر انضباطًا من حيث الشكل.

النتيجة التي خلص إليها التحقيق تشير إلى أن ضمان وصول المساعدات لن يتحقق عبر شركات أمنية بلا خبرة إنسانية، بل من خلال توسيع قنوات التوزيع، وتعزيز الشفافية، وإشراك المنظمات الدولية والسلطات المدنية المحلية. فالطعام لا يمكن أن يكون أداة لإخضاع الجائع، ولا الإغاثة ذريعة لمراقبة السكان.

في مرمى النيران

رغم أن مراكز توزيع المساعدات المقترحة لم تُنشأ فعليًا على أرض غزة حتى الآن، إلا أن طبيعتها الأمنية، وارتباطها المباشر بشركات حماية أميركية ذات خلفية عسكرية، يجعلها عرضة منذ اللحظة الأولى لأن تُدرَج ضمن دائرة الاستهداف العسكري من قبل فصائل المقاومة. فهذه المراكز، في تصور المقاومة، لا تُقرأ كمرافق إغاثية محايدة، بل كامتدادات ميدانية لمشروع سياسي-أمني تُديره جهات خارجية، ويتجاوز السلطة الفلسطينية والمنظومة الوطنية.

بمجرد أن تُثبت هذه النقاط على الأرض، وتُحاط بعناصر مسلحة أو تجهيزات مراقبة، فإنها تتحول عمليًا إلى مواقع شبه عسكرية، تُستخدم لجمع بيانات، وضبط حركة السكان، وربما إعادة تشكيل المجال الاجتماعي في مرحلة ما بعد الحرب. ولذا، فإن المقاومة قد تعتبرها أهدافًا مشروعة.

هذا التهديد الأمني المباشر يضع المشروع بأكمله على حافة الفشل حتى قبل أن يبدأ. إذ أن أي هجوم على هذه المراكز، سيفقدها وظيفتها الأساسية، ويجعل من المستحيل الحفاظ على استقرارها اللوجستي أو قبولها شعبياً. بل إن مجرد تصنيفها كمواقع قابلة للاستهداف، سيمنحها صفة القاعدة العسكرية لا المرفق الإنساني، وهو ما يُسقط عنها أي غطاء شرعي ويُقوّض قدرتها على العمل، ويحوّلها من مبادرة إغاثية إلى عنصر تفجيري إضافي في مشهد معقد أصلًا.

الجبهة الأهم – الرفض الشعبي الكامن

رغم تفشي المجاعة واتساع رقعة الكارثة الإنسانية في قطاع غزة، يبقى الرفض الشعبي للتعامل مع مراكز توزيع المساعدات ذات الطابع الأمني احتمالًا واقعيًا ومؤثرًا في مآلات المشروع الأميركي – الإسرائيلي الجديد. فهذه المراكز، التي يُفترض أن تؤمّن إيصال المعونات عبر شركات أميركية خاصة، لا تُقرأ في الوعي الجمعي الغزّي كمرافق إنسانية، بل كمؤسسات ضبط وسيطرة مغلّفة بخطاب الإغاثة. 

صحيح أن رفض المعونة في ظل المجاعة أمر بالغ الصعوبة، بل يبدو أقرب إلى التناقض، إلا أن الفلسطيني يُمكنه التمييز بين الغذاء كحق، والغذاء كأداة إذعان. ومن هنا، فإن تسليم الطرود الغذائية من خلال كيانات عسكرية بلبوس إنساني يُهدد بخلق نفور شعبي، يُفرغ المشروع من فعاليته، ويقوّض قبوله المجتمعي. فالسكان الذين يفتقدون الطعام، لا يفتقدون الوعي، وهم يدركون تمامًا أن الجوع لا يُبرّر الخضوع.

لذلك، فإن الرفض الشعبي المحتمل – وإن بدا محفوفًا بالمخاطر الإنسانية – يُعد عاملًا بنيويًا في إجهاض المشروع قبل أن يستقر. فالمساعدات التي تُدار من خارج السياق السيادي الفلسطيني، وتُفرض على الأهالي من خلال مقاولين أجانب، قد تُرفض لا لأنها غير ضرورية، بل لأنها مُهينة. وحين تصبح الكرامة معيارًا للموافقة على الطعام، فإن أي برنامج لا يراعي هذه الحقيقة محكوم عليه بالفشل، ولو امتلك كل أدوات التمويل واللوجستيات.