الأربعاء  04 حزيران 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

فلسطين والتمويل الدولي المشروط

2025-06-02 12:52:00 PM
فلسطين والتمويل الدولي المشروط

منذ توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، اعتمدت السلطة الوطنية الفلسطينية، إلى جانب عدد كبير من مؤسسات المجتمع المدني، بشكل متزايد على التمويل الخارجي، والذي تدفق في إطار عملية "السلام" الدولية وما رافقها من جهود لدعم بناء الدولة الفلسطينية الناشئة وتعزيز أدوار الفاعلين المدنيين بعد عقود من الاحتلال. ومع مرور الوقت، تعمّق هذا الاعتماد ليصبح سمة هيكلية للمنظومة السياسية والاقتصادية الفلسطينية، لا سيما في ظل محدودية الموارد الذاتية، وتقييد أدوات السيادة الاقتصادية بفعل بروتوكول باريس الاقتصادي، وهيمنة الاحتلال الإسرائيلي على مفاصل الاقتصاد الوطني.

فقد فرضت التقسيمات الجغرافية للضفة الغربية (مناطق أ، ب، ج) واقعًا معقدًا، جعل 61% من الأراضي الفلسطينية تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة، مما حدّ من قدرة السلطة على بسط نفوذها الإداري والاقتصادي. هذا التقييد البنيوي، إلى جانب ما وفرته بعض الفترات من وفرة في التمويل الدولي بشروط مرنة، دفع بالعديد من المؤسسات، الحكومية والأهلية على حد سواء، إلى "السباحة في المياه الدافئة"، عبر الانخراط في منظومة المساعدات الخارجية دون تطوير بدائل إنتاجية محلية، أو بناء اقتصاد وطني مقاوم وقادر على الصمود.

بل إن السياسات الاقتصادية المتبعة اتسمت بطابع "نيوليبرالي" لا يتماشى مع خصوصية الحالة الفلسطينية الواقعة تحت الاحتلال، ما أدى إلى انكشاف اقتصادي متزايد، وارتفاع معدلات الاستيراد على حساب الإنتاج المحلي، فضلاً عن الارتباط العضوي بين الخزينة العامة وإيرادات المقاصة التي تتحكم بها سلطات الاحتلال، مما جعل العجز التجاري سمة دائمة في الاقتصاد الفلسطيني.

أما على صعيد مؤسسات المجتمع المدني، فرغم امتلاك العديد منها لإرث نضالي ومهني عريق، إلا أن جزءًا مهمًا منها اتجه نحو التمويل الدولي كمصدر رئيسي، بل إن بعض هذه المؤسسات أعاد صياغة برامجه وأولوياته لتتماهى مع أجندات المانحين، في مشهد يعكس هشاشة الاستقلالية المؤسسية، وغياب استراتيجية وطنية جامعة تُحكم العلاقة بين المجتمع المدني ومصادر التمويل الخارجي.ومع التغيرات السياسية، والتوجهات العالمية، والتقلبات في الرؤى والأيدولوجيات، أضحى التمويل الخارجي أداة بيد المانحين لتحقيق اجندات معينة لديهم، وأضحى مشروطاً بقيود سياسية واقتصادية واجتماعية تفرضها الجهات المانحة، كما أن مسارب هذا التمويل واستهدافاته أضحت محددة من قبل الجهات المانحة، وبالتالي فإن أثرها على خلق تنمية مستدامة أضحى محدوداً، بل وتعرضت السلطة الفلسطينية ومؤسسات المجتمع المدني الى ضربات وهزات اثرت بشكل جوهري على خططها وبرامجها بسبب توقف عدة مصادر للتمويل أما لأسباب سياسية، او نتاج ضغوطات، أو لتبدل الأولويات، أو لأسباب ذاتية لدى تلك الجهات، الأمر الذي اجهض انفاذ الخطط الوطنية التنموية، او الاستراتيجيات الخاصة بمؤسسات المجتمع المدني، كما ان بعض الجهات المانحة قيدت دعمها بإصلاحات ومتطلبات وشروط ذات أبعاد سياسية، وليس لدواعي الحوكمة، الأمر الذي اثر على الاستقلالية الوطنية.

يُشكّل التمويل الدولي المشروط أحد أبرز التحديات التي تواجه السياسات العامة الفلسطينية، إذ يتعيّن على الجهات الوطنية الموازنة بين الحاجة الملحّة إلى الدعم الخارجي وبين مقتضيات الحفاظ على السيادة الوطنية واستقلال القرار التنموي. وللإنصاف، فقد أسهم التمويل الدولي في دفع بعض مسارات الإصلاح الاقتصادي وتعزيز قدرات بعض القطاعات التنموية. إلا أن هذا التمويل، في كثير من الأحيان، قيّد هامش الاختيار أمام الحكومات الفلسطينية ومؤسسات المجتمع المدني، وفرض عليها أولويات تتماهى مع أجندات المانحين، لا بالضرورة مع الحاجات الوطنية. كما أن هشاشة هذا التمويل، سواء الموجه للحكومة أو للمجتمع المدني، وعدم انتظامه أو استدامته، أوجد فجوات بنيوية في تنفيذ السياسات العامة، وأثر سلبًا على استمرارية البرامج والخطط الاستراتيجية.

وفي ضوء ما تقدّم، تبرز الحاجة الملحة إلى مراجعة شاملة لسياسات التمويل الدولي المشروط، من خلال تبني استراتيجية وطنية متكاملة تهدف إلى الحد من تبعية القرار الوطني لشروط المانحين، وتحقيق توازن مدروس بين الاستفادة من التمويل الخارجي وضمان استقلالية القرار الفلسطيني. ويتطلب ذلك إعادة هيكلة السياسات المالية بما يعزز من الاستقلال المالي والسياسي، ويشجع على تنمية الاستثمارات المحلية، وتوجيه الاقتصاد نحو نموذج تنموي مستقل يقلل من الاعتماد على الاقتصاد الإسرائيلي والواردات الأجنبية.

كما تقتضي هذه المراجعة إعادة تقييم الإطار التشريعي والسياساتي الناظم للتمويل الدولي، بما يضمن انسجامه مع أولويات التنمية الوطنية. وفي هذا السياق، يُقترح تعزيز التعاون الإقليمي والدولي من خلال شراكات بديلة قائمة على التضامن، بدلًا من الخضوع لشروط سياسية قد تقوّض السيادة الوطنية.

كذلك، ينبغي دعم قدرات مؤسسات المجتمع المدني على تحقيق الاستقلال المالي، عبر تشجيعها على تنويع مصادر تمويلها، باللجوء إلى التمويل المحلي، وتنمية التبرعات المجتمعية، وتطوير شراكات استراتيجية مع القطاع الخاص، وتفعيل برامج المسؤولية الاجتماعية. ولا يقل عن ذلك أهميةً، ضرورة تعزيز الشفافية والمساءلة في إدارة المساعدات الدولية، عبر إنشاء آليات رقابية مستقلة، تضمن عدم توظيف التمويل الخارجي لأغراض سياسية، أو فرض إصلاحات لا تتماشى مع الأولويات الفلسطينية.

ويُستحسن، في هذا السياق، تطوير قاعدة بيانات وطنية شاملة للمساعدات الخارجية، توضح بجلاء مصادر هذه التمويلات، وشروطها، وأوجه صرفها، وذلك لضمان توافقها مع خطط التنمية الوطنية الحقيقية، وتحقيق الفاعلية في توجيه الموارد المتاحة نحو تحقيق الاستقلال التنموي.