خاص الحدث
تُعدّ ظاهرة تهريب السجائر في فلسطين من التحديات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة، حيث تُقدّر خسائر الخزينة الفلسطينية من الضرائب غير المحصلة بسبب التهريب بنحو مليار شيقل سنويًا في بعض السنوات، وهو ما يعادل حوالي 270 مليون دولار أمريكي، وفقًا لتقديرات رسمية وغير رسمية. ولسنوات، ظل هذا الملف مغلقًا أو يُدار بطرق غير فعالة، رغم تسليط الضوء عليه من قبل الصحافة ومؤسسات الرقابة لخطورته في سياقات عديدة.
2025.. تطوّر لافت في مواجهة الظاهرة
في ظل تعمق الأزمة المالية التي تواجهها السلطة الفلسطينية، وتزايد الضغوط السياسية والاقتصادية، يبرز تطور اقتصادي لافت وهو ارتفاع إيرادات ضرائب منتجات التبغ بنسبة 24% في الثلث الأول من عام 2025. هذا الارتفاع لم يكن نتيجة لفرض ضرائب جديدة أو نمو اقتصادي حقيقي، بل ثمرة مباشرة لحملة حكومية تستهدف ظاهرة قديمة ومزمنة: تهريب منتجات التبغ. تحليل هذا التطور يقدم نموذجًا ملموسًا لتأثير السياسات التنظيمية والرقابية على تحسين أداء المالية العامة، حتى في ظل بيئة اقتصادية خانقة.
بحسب ما كشفت مصادر مطلعة في وزارة المالية لصحيفة الحدث الفلسطيني، فإن إيرادات ضرائب منتجات التبغ ارتفعت من 810 ملايين شيقل في الثلث الأول من عام 2024 إلى أكثر من مليار شيقل في الفترة نفسها من عام 2025، أي بزيادة تقارب 193 مليون شيقل. في بلد يفتقر إلى مصادر نمو اقتصادي تقليدي، ويعتمد بشكل كبير على أموال المقاصة التي تتحكم بها حكومة الاحتلال، فإن تحصيل هذه الإيرادات محليًا وبشكل مستقل يُعتبر إنجازًا نادرًا.
ما يعزز أهمية هذه الزيادة أنها جاءت في وقت شهدت فيه السلطة الفلسطينية تراجعًا شديدًا في قدرتها على تمويل النفقات الجارية، بفعل الاقتطاعات الإسرائيلية الشهرية التي ارتفعت إلى 257 مليون شيقل شهريًا بعد أكتوبر 2023، مقارنة بـ 40–50 مليون شيقل سابقًا. من هنا، يُعد هذا التحسن النسبي في إيرادات ضرائب منتجات التبغ بارقة أمل تعكس أثر السياسات الرقابية المباشرة في زمن التقشف.
سنوات من الخسائر بسبب التهريب
وفقًا للمعلومات التي نشرتها صحيفة الحدث خلال السنوات الماضية، تكبّدت الخزينة العامة للسلطة الفلسطينية خسائر كبيرة بسبب تهريب منتجات التبغ خلال السنوات الأربع الأخيرة، حيث تُعد هذه الظاهرة من أبرز التحديات الاقتصادية التي تواجه الحكومة. ففي عام 2019 بلغت الخسائر نحو 500 مليون شيقل، نتيجة تهريب منتجات التبغ عبر المعابر، خاصة من الأردن. وفي 2020 أدى إغلاق المعابر بسبب جائحة كورونا إلى انخفاض عمليات التهريب، مما ساهم في زيادة إيرادات الحكومة من التبغ بنسبة تزيد عن 40% خلال العام.
أما عام 2021 فقد بلغت الخسائر نحو 480 مليون شيقل، نتيجة تهريب منتجات التبغ عبر المعابر، خاصة من الأردن. وفي 2022 تفاوتت التقديرات بين 520 مليون شيقل و550 مليون شيقل ، مع الإشارة إلى أن معبر الكرامة كان نقطة رئيسية في عمليات التهريب. وفي 2023 ارتفعت الخسائر إلى أكثر من 880 مليون شيقل، مع توقعات بأن تصل إلى مليار شيقل، بسبب زيادة ساعات عمل المعابر وتخفيف الإجراءات الرقابية. في 2024 لم تُنشر بعد تقديرات دقيقة، لكن استمرار الظاهرة يشير إلى خسائر محتملة مشابهة أو أعلى من السنوات السابقة.
ماذا يعني ضبط التهريب؟
نجاح الحكومة في رفع إيرادات ضرائب منتجات التبغ عبر آليات الرقابة يعيد طرح تساؤل جوهري حول قدرة السلطة الفلسطينية على تحسين الأداء المالي من خلال محاربة ظواهر الاقتصاد غير الرسمي، دون اللجوء إلى سياسات ضريبية تثقل كاهل المواطنين. وفي هذا السياق، تشير مصادر في وزارة المالية إلى أن تجربة مكافحة تهريب منتجات التبغ تصلح لأن تكون نموذجًا يمكن تعميمه على قطاعات أخرى، مثل قطاع الاتصالات والإنترنت.
إن تحصين الخزينة من الفاقد الضريبي يشكل أساسًا للإصلاح المالي. وعندما يتعلق الأمر بقطاع التبغ فهو يعدّ من أهم مصادر الإيرادات الضريبية في فلسطين، ويحتل المرتبة الثانية بعد ضريبة القيمة المضافة. يعود ذلك إلى طبيعة السوق المحلي، حيث ترتفع معدلات استهلاك التبغ، ويُعد من المنتجات التي تخضع لضرائب خاصة (الضريبة الانتقائية). وعمليًا، فإن كل شحنة سجائر تُهرب إلى السوق دون دفع الرسوم القانونية، تُفقد الخزينة عشرات الملايين شهريًا.
رغم الارتفاع اللافت في الإيرادات، فإن تحقيق استدامة هذا الإنجاز يتطلب أكثر من مجرد إجراءات آنية على المعابر. فظاهرة التهريب عابرة للحدود ومتجددة، وتستفيد من ضعف الرقابة، وتداخل المصالح، والفساد الإداري. لذلك، فإن تثبيت هذا المكسب المالي بحاجة إلى: تعزيز الشفافية والمساءلة، نشر بيانات دورية عن حجم العائدات من كل قطاع، إنشاء وحدات رقابية مستقلة تقوم بالتفتيش على أداء نقاط التفتيش والمعابر الجمركية، تحديث الأنظمة الإلكترونية لربط نقاط الجباية وقياس الفاقد المحتمل، بناء شراكات مع القطاع الخاص، وتنفيذ إصلاح ضريبي أوسع يقلل الاعتماد على ضرائب السلع المضرة بالصحة ويعزز العدالة الضريبية.
التحسن في إيرادات ضرائب منتجات التبغ يبعث برسائل عدة في سياق سياسي واقتصادي مضطرب، مثلا إلى المجتمع الدولي وخاصة الاتحاد الأوروبي بأن السلطة الفلسطينية قادرة على تحسين جبايتها الداخلية إن توفرت لها السيطرة على المعابر والمعايير السيادية، وإلى الجمهور الفلسطيني بأن هناك بدائل للتقشف ورفع الأسعار، وهي موجودة في محاربة الفساد والتهريب وتحسين الإدارة.
لا تُعد مكافحة تهريب منتجات التبغ مشروعًا اقتصاديًا تقليديًا، بل تمثل نموذجًا لحوكمة مالية رشيدة في ظل غياب السيادة الاقتصادية الكاملة. وتجربة 2025 تثبت أن الإيرادات لا ترتبط فقط بالضرائب الجديدة أو المساعدات الخارجية، بل بالقدرة على وقف الفاقد وإعادة ضبط العلاقة بين الدولة واقتصاد الظل. وإذا ما نجحت الحكومة في تعميم هذا النموذج، فقد تُحدث اختراقًا نوعيًا في معركتها الطويلة من أجل البقاء المالي والسياسي.
محاربة ظاهرة التهريب.. يعني محاربة الجريمة
في السياق الأوسع، تعدّ ظاهرة تهريب السجائر جريمة عابرة للحدود، فالتهريب لا يُفهم فقط كظاهرة اقتصادية، بل كبنية منظمة أحيانًا ترتبط بشبكات محلية تملك علاقات مع عناصر من داخل أجهزة السلطة، سواء عبر الرشاوي أو التواطؤ، وهو يشكل خطرًا مزدوجًا: فهو يستنزف الموارد المالية من جهة، ويقوض ثقة المواطن في مؤسسات الدولة من جهة أخرى. ومكافحة التهريب تتطلب أدوات رقابية فعّالة، وإرادة سياسية حقيقية، وتعاونًا مؤسسيًا بين الجهات الأمنية والمالية والقضائية. كما أن الإعلام الاستقصائي والمجتمع المدني يلعبان دورًا مهمًا في فضح الفجوات وفضح المسؤولين المتورطين في تسهيل التهريب والإجراءات التي يستغلها المهربون، مما يفتح المجال أمام إصلاحات بنيوية.
ويُمثّل تهريب السجائر في كثير من الحالات ما يمكن وصفه في أدبيات علم الجريمة بـ"الجريمة المدخلية"، أي تلك الأنشطة غير القانونية التي تفتح الباب أمام الأفراد والمجموعات للدخول في عالم أوسع وأكثر تعقيدًا من المخالفات والجرائم المنظمة. في السياق الفلسطيني، لا يختلف الوضع كثيرًا. فعلى مدار السنوات الماضية، شكّلت تجارة السجائر المهربة مصدرًا سهلًا للربح السريع في ظل انهيار منظومة الرقابة وضعف أدوات المحاسبة، لا سيما في المعابر والحدود.
وتفيد تقارير محلية أن شبكات تهريب السجائر امتدت لتشمل موظفين، وسطاء، ومهربين، ما يعزز فرضية وجود شبكات شبه منظمة تعمل وفق منطق مافيوي في بعض الأحيان. الخطر الحقيقي لا يكمن في السجائر فقط، بل في الطبيعة التي تتسم بها هذه التجارة. إذ أن تهريب السجائر يتميز بكونه منخفض المخاطر القانونية بحكم التجربة في القضاء الفلسطيني، وفي الوقت نفسه يدر أرباحًا عالية نسبيًا. هذه المعادلة المغرية تجعل منه بوابة مغرية للمهربين أو حتى للموظفين الفاسدين، ليبدأوا أولى خطواتهم في عالم الجريمة، مستندين إلى قناعة مفادها أن "لا أحد يُعاقب على السجائر".
محاربة التهريب والصحة العامة
لا تقتصر خطورة تهريب منتجات التبغ على الجوانب الاقتصادية المرتبطة بخسائر الخزينة العامة أو تقويض النظام الضريبي وانتشار الجريمة المنظمة، بل تتعداها إلى تهديد مباشر لصحة المستهلكين. فالسجائر المهربة، بخلاف تلك التي تخضع للرقابة الرسمية، غالبًا ما تُنتج في مصانع مجهولة المصدر أو تُنقل وتُخزن بطرق غير صحية، مما يجعلها أكثر ضررًا من نظيرتها الرسمية التي تخضع لمعايير تصنيع وتعبئة، رغم ضررها المعروف أصلًا.
أظهرت دراسات دولية أن العديد من شحنات السجائر المهربة التي صادرتها السلطات في عدد من الدول كانت تحتوي على نسب غير طبيعية من المعادن الثقيلة والمواد الكيميائية المسرطنة، مثل الزرنيخ والكادميوم، وبعضها كان يحتوي على آثار لمبيدات حشرية أو ملوثات بيئية نتيجة سوء التخزين أو التهريب عبر مسارات غير مؤهلة صحياً. وفي فلسطين، لم يجر حتى الآن مسح صحي شامل يكشف مكونات السجائر المهربة، غير أن مختصين في الصحة العامة يرجحون أنها أكثر خطورة على الجهاز التنفسي والقلب، بسبب غياب المعايير الرقابية وتاريخ الإنتاج والتخزين.
من جهة أخرى، وبسبب غياب بيانات رسمية دقيقة، لا يتم إدراج تأثير السجائر المهربة في الدراسات الوبائية أو خطط وزارة الصحة، ما يعني وجود ثغرة في السياسات الصحية الوقائية. إن خطورة السجائر المهربة لا تكمن فقط في كونها غير شرعية، بل في كونها منتجًا سامًا لا يخضع لأي رقابة، ويجري استهلاكه بشكل واسع. وهذا ما يحتم على الجهات الصحية والحكومية التعامل مع الظاهرة لا فقط من زاوية اقتصادية أو أمنية، بل أيضًا كملف صحة عامة، يستدعي التنسيق بين وزارات المالية والصحة والداخلية.