ترجمة الحدث
في دراسته المعنونة "The Rise, Fall and Rebirth of Territorial Defense"، يستعرض الباحث دوتان دروك تطور مفهوم الدفاع الإقليمي في السياق الإسرائيلي. يشير دروك إلى أن الدفاع الإقليمي كان في البداية أحد أركان العقيدة الأمنية الإسرائيلية، حيث كان يعتمد على شبكة من المستوطنات التي جُهزت لتكون قواعد محصنة قادرة على التصدي لهجمات مفاجئة، بالتوازي مع القدرة على المناورة. ويعود هذا المفهوم في جذوره إلى نموذج الحرس الوطني البريطاني في الحرب العالمية الثانية، حيث كانت المجتمعات المحلية تُنظم ذاتيًا للدفاع عن أراضيها. ومع نجاح العقيدة الهجومية بعد حرب سيناء عام 1956، تراجع دور الدفاع الإقليمي، وبدأ يتم التعامل معه كعنصر ثانوي لا يرقى إلى مستوى التحديات التي فرضتها الجيوش النظامية المدعومة بالدبابات والطيران. ومع ذلك، يؤكد دروك أن الظروف الأمنية المتغيرة في العقدين الأخيرين، وخاصة تهديدات حماس وحزب الله، أعادت الاعتبار للدفاع الإقليمي كعنصر مساعد ومكمل للعقيدة الهجومية، الأمر الذي يستدعي إعادة هيكلته وتفعيله ضمن منظومة الدفاع الشاملة.
يوضح دوتان دروك أن تراجع مكانة الدفاع الإقليمي لم يكن مجرد قرار تنظيمي، بل جاء نتيجة لتحولات جوهرية في العقيدة العسكرية الإسرائيلية، التي بدأت تميل أكثر إلى الهجوم الاستباقي ونقل المعركة إلى أراضي العدو. بعد النجاحات التي حققتها إسرائيل في حروب 1956 و1967، رأت القيادات العسكرية أن الجيوش النظامية تستطيع كسر خطوط الدفاع الإقليمي بسرعة، مما جعل هذا النظام يُنظر إليه كموروث من الماضي. ومع ذلك، كان هناك تيار داخل الجيش ومجتمع المستوطنات، مثل شمعون أفيدان، يرى أن الدفاع الإقليمي لا يزال له دور في تأخير التوغل المعادي وتثبيت الروح المعنوية للسكان. كما يورد دروك أن قادة سياسيين مثل بن غوريون شددوا على أهمية المستوطنات الحدودية كرمز للسيادة وليس فقط كعقبة ميدانية. وفي حين استمر الجدل بين من رأوا في الدفاع الإقليمي أداة تعبئة مدنية ومن رأوه عائقًا لمرونة الجيش، تم تقليص الموارد المخصصة له تدريجيًا، مما أثر على التجهيز، التدريب، وتكامل الخطط الدفاعية، لتصبح الفجوة بين النظرية والتطبيق واسعة بشكل خطر، كما في مناورات 1950.
يُسلط دروك الضوء على البنية التنظيمية التي بُني عليها الدفاع الإقليمي في خمسينيات القرن الماضي، والتي اعتمدت على تراتبية تبدأ من "منطقة دفاعية" تشمل عدة مستوطنات، فـ"كتيبة دفاعية"، ثم "قيادة إقليمية"، وكلها كانت تعمل بتناغم مع قيادة المنطقة العسكرية. وفقًا لوثائق قيادة العمليات لعام 1949، صُممت هذه الهيكلية لتسمح باستخدام المستوطنين كمكون دفاعي فاعل في حالات الطوارئ. لكن مع مرور الوقت، تحولت بعض هذه التشكيلات إلى وحدات احتياطية غير نشطة فعليًا، وفقدت قدرتها على التنفيذ السريع، خصوصًا مع ندرة الموارد البشرية والمادية. يوضح دروك أن بعض المستوطنات خُصصت لها خطوط دفاع تعتمد على الزراعة كمصدر إمداد وقت الأزمات، وجرى تصنيفها حسب قربها من الحدود وأهميتها الاستراتيجية. غير أن كثيرًا من هذه الخطط بقيت على الورق دون تفعيل فعلي، وتم تحميل المستوطنين أعباءً أمنية لم يكونوا مهيئين لها، مما أضعف فعالية الدفاع الإقليمي، رغم وجود محاولات لدمجه مع وحدات المناورة النظامية كما اقترح باحثون وخبراء عسكريون.
يتتبع دروك كيفية تعامل جيش الاحتلال الإسرائيلي مع الثغرات التي ظهرت في الأداء العملي للدفاع الإقليمي خلال المناورات والتمارين في خمسينيات القرن العشرين. ويشير إلى أن هذه التمارين، مثل تلك التي أُجريت عام 1950 و1956، كشفت نقصًا حادًا في الجاهزية، سواء من حيث التسليح، التدريب، أو الخطط الدفاعية المتكاملة. يورد دروك شهادة أليكس إليراز، الذي حذر قبل حرب سيناء من أن مستوطنات المهاجرين الجدد ستنهار في وجه أي هجوم ولن تكون عنصرًا ردعيًا بل عبئًا. كذلك، أشار شمعون أفيدان في عام 1956 إلى غياب الكوادر القيادية المؤهلة لقيادة مناطق الدفاع الإقليمي، وافتقار المستوطنات إلى التحصينات الأساسية. وبينما حددت الوثائق الرسمية أدوارًا واضحة لهذه الوحدات مثل المراقبة، الإمداد، والمواجهة الأولية، فإن التنفيذ على الأرض كان ضعيفًا للغاية. وقد لعبت المحدودية الاقتصادية والبيروقراطية داخل الجيش والمجتمع دورًا في تهميش هذا المفهوم. ومع ذلك، استمر الجدل داخل الأوساط العسكرية والسياسية حول مدى جدوى الإبقاء على الدفاع الإقليمي، لا سيما في ظل وجود حروب نظامية متوقعة على أكثر من جبهة في آن واحد.
رغم التدهور الملحوظ في مكانة الدفاع الإقليمي، فإن حرب سيناء عام 1956 مثّلت اختبارًا حاسمًا لهذا النظام، حتى لو تم تفعيله بشكل جزئي فقط. بحسب دروك، فإن تلك الحرب كشفت مرة أخرى عن ضعف البنية التحتية، نقص الذخيرة، غياب الخطط المفصلة للإخلاء المدني، وانعدام التجانس بين الوحدات الإقليمية والقوات المناورة. ففي تقارير ما بعد الحرب، حذّرت قيادة الدفاع الإقليمي في منطقة "هار طوف" (1956) من غياب خطط الإخلاء التفصيلية، مشيرة إلى أن بعض المستوطنات لا تعرف من يُخلي ومن يقود العملية. كما نوهت إدارة العمليات العسكرية إلى وجود نقص حاد في معدات الهندسة القتالية والمعدات الشخصية. وفي حين أوصت بعض الوثائق بإعطاء الكتائب الإقليمية وضعًا لوجستيًا مستقلًا وتدريبًا أكثر تخصّصًا، فإن التنفيذ بقي محدودًا. ويؤكد دروك أن المشكلة كانت مزدوجة: غياب العقيدة الموحدة من جهة، وضعف في تطبيق ما هو موجود من تعليمات وخطط من جهة أخرى، ما أدى إلى استمرار تهميش الدفاع الإقليمي، بالرغم من إقراره رسميًا في الوثائق والكتب التدريبية.
مع مرور الزمن، لم يعد الدفاع الإقليمي يُنظر إليه كأداة مناسبة لردع جيوش نظامية، وإنما أصبح يُستخدم في التعامل مع التهديدات الروتينية مثل التسلل أو عمليات المقاومة، وخاصة في المناطق الحدودية. يشير دروك إلى أن جيش الاحتلال الإسرائيلي واصل إصدار تعليمات نظرية تؤكد أهمية التنسيق بين الدفاع الإقليمي وقوات المناورة، لكنه في الواقع أهمل تدريبه وتجهيزه. فمثلاً، خلال حرب تشرين (1973)، لم يكن لهذا النظام أي دور في معارك الجولان، بل جرى إخلاء المستوطنات في تلك المنطقة. وبحلول العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أصبحت العقيدة الرسمية تعتبر أن الدفاع الإقليمي يمكنه فقط مواجهة تسلل مجموعات صغيرة وليس قوات منظمة. وعلى الرغم من صدور منشورات مثل "الدفاع الإقليمي المتقدم" عام 2001 من قبل قيادة القوات البرية، فإنها بقيت حبرًا على ورق. يشير دروك إلى أن تجربة أوكرانيا، التي أنشأت وحدات دفاع إقليمي فعالة منذ عام 2014، تُعد نموذجًا قابلاً للاقتباس، خصوصًا في بيئة تشهد تهديدات هجينة تجمع بين الجيوش النظامية والمليشيات المسلحة. وبالتالي، فإن إعادة الاعتبار للدفاع الإقليمي يتطلب نقله من الهامش إلى مركز العقيدة الأمنية مجددًا، ولكن بأسس معاصرة تدمج التدريب والجاهزية والدور التكتيكي الفعلي.
في تحليله للمشهد الأمني الحديث، يبين دروك أن التهديدات المتزايدة من تنظيمات مثل حزب الله في لبنان وحماس في غزة، تدفع باتجاه إعادة التفكير الجاد في الدفاع الإقليمي، ليس كبديل عن الجيش النظامي، بل كمكمل فوري وفعال في لحظات الهجوم المباغت. هذه التنظيمات، وفقًا لدروك، تمتلك وحدات مشاة صغيرة قادرة على اقتحام المستوطنات ونصب الكمائن ضد الجيش، ما يجعل وجود قوات دفاع محلية متمركزة مسبقًا أمرًا حاسمًا. ويوصي الباحث بإعادة بناء وحدات الدفاع الإقليمي كاحتياط شبه نظامي، يمنح الأولوية في التجنيد والتدريب والتسليح. ويقترح تحديد أهداف دفاعية في المناطق الحدودية، تشمل المستوطنات، بحيث تُجهز مسبقًا بالمخازن والأسلحة، ويُدرّب سكانها على خطط استجابة متكاملة. كذلك، يدعو إلى تفعيل التنسيق بين ضباط الجيش والمسؤولين الأمنيين في المستوطنات، بشكل مشابه لما يحدث في الضفة الغربية. الهدف هنا، كما يشير، هو تعزيز المرونة الدفاعية وتقليل الوقت المطلوب لوصول القوات النظامية إلى جبهات الاشتباك، خصوصًا في ظل إدراك بأن الهجمات قد تقع قبل اكتمال عملية الحشد العسكري التقليدي.
ينتقل دروك في تحليله إلى الجوانب التنظيمية واللوجستية التي يراها ضرورية لإحياء الدفاع الإقليمي بفعالية. فهو يقترح إنشاء كتائب وشركات احتياط داخل المستوطنات الحدودية، تضم أفرادًا من المستوطنين المحليين ممن خدموا في الجيش، مع تدريبهم دوريًا على مهام دفاعية محددة تشمل إطلاق النار، التحصين، والإخلاء. ويوصي أيضًا بإنشاء مخازن سلاح وذخيرة داخل أو قرب المستوطنات لتسريع عملية التجنيد الفوري وقت الطوارئ، وتزويد هذه الوحدات بوسائل اتصال وربط عملياتي مباشر مع القيادة العسكرية. يرى دروك أن هذا النهج لن يعزز فقط الجاهزية العسكرية، بل سيرفع من معنويات السكان المحليين ويقلل من اعتماد الجيش الكامل على وحدات المناورة الاحتياطية في المراحل الأولى من الصدمة. في هذا السياق، يشير أيضًا إلى أهمية أن تُدمج هذه الوحدات ضمن الخطط العملياتية الشاملة، لا أن تبقى هامشية أو تُفعل فقط عند الضرورة. وبحسب دروك، فإن نموذج الدفاع الإقليمي الحديث يجب أن يجمع بين العقيدة البريطانية للحرس الوطني خلال الحرب العالمية الثانية والخبرة الإسرائيلية التراكمية، مما يخلق نموذجًا واقعيًا وفعالًا في بيئة معقدة تزداد فيها الهجمات المفاجئة.
في سياق المقارنة الدولية، يبرز دروك تجارب حديثة لدول مثل أوكرانيا، فنلندا، بولندا والسويد، التي أعادت بناء أنظمة دفاع إقليمي قوية نتيجة لتحديات أمنية متزايدة. يشير إلى أن هذه الدول اعتمدت على وحدات احتياطية محلية مدربة ومجهزة وجاهزة للتدخل الفوري، وهو ما يمنحها قدرة على الاستجابة السريعة ضد الغزو أو التوغل، ويعزز في الوقت ذاته قدرة القوات النظامية على أداء المهام الهجومية أو المناورة الاستراتيجية. يربط دروك هذه التجارب بما كان مطبقًا في "إسرائيل" خلال الخمسينيات، عندما كان المستوطنون المحليون يشكلون نواة وحدات الدفاع الإقليمي، خاصة في المستوطنات الحدودية. وفي ظل العجز البنيوي في عدد الجنود النظاميين القادرين على تغطية كامل الحدود في كل الأوقات، يرى الباحث أن إعادة الاعتبار لهذه الوحدات يُعد خيارًا عمليًا واستراتيجيًا، بل وضروريًا، لضمان السيطرة على الأرض وتأخير العدو لحين وصول التعزيزات. يؤكد دروك أن الردع لم يعد يعتمد فقط على القوة النارية أو القدرة التكنولوجية، بل على الجاهزية المحلية، والقدرة على الصمود الأولي، وتفادي الانهيار المعنوي أو الميداني عند اللحظة الأولى للهجوم.
في خاتمة دراسته، يؤكد دوتان دروك أن استعادة الدفاع الإقليمي كجزء من العقيدة العسكرية الإسرائيلية المعاصرة يجب أن يتم من خلال تحديث شامل لمنظومته، من حيث التنظيم، التسليح، والتدريب. ويقترح تحديث فصول العقيدة العملياتية الخاصة بالدفاع، وتحديدًا تلك المتعلقة بالدفاع عن الحدود، مع دمج الدفاع الإقليمي في جميع خطط الجيش البرية. كما يدعو إلى إعطاء هذه الوحدات مكانة شبه نظامية في هيكلية الجيش، بحيث لا تُعامل كاحتياطي مؤجل بل كقوة رد أولية. ويشدد دروك على أهمية تجاوز الإطار الرمزي أو المدني لهذه الوحدات، نحو بناء قوة عسكرية متكاملة قادرة على تعطيل أو صد الهجمات المباغتة من تنظيمات مسلحة أو قوات نظامية. ويختم الباحث بدعوة إلى النظر في تجربة الحرس الوطني البريطاني كمصدر إلهام، جنبًا إلى جنب مع الخبرات الإسرائيلية المتراكمة. بالنسبة له، يشكل الدفاع الإقليمي جزءًا لا يتجزأ من الأمن القومي في ظل الحروب الهجينة والتهديدات غير المتناظرة، وهو بذلك ليس عودة إلى الماضي بقدر ما هو استجابة عقلانية لمتطلبات الحاضر.