كانت تل أبيب منذ سقوط الشاه ترى إيران خطراً أساسياً عليها. أما الولايات المتحدة فقد رأت على العكس أن إيران فزاعة ملائمة لابتزاز دول الخليج ونخبها الفاسدة وحلبها إلى الأبد. ولذلك كانت إسرائيل تسعى دائماً إلى ضرب إيران مباشرة، بينما كانت أمريكا تسعى إلى تحجيم إيران دون القضاء المبرم عليها. غير أن ذلك الموقف الأمريكي تغير منذ سنوات ليقترب من الموقف الصهيوني بسبب دخول التحدي الصيني إلى حيز الإمكان الواقعي بما يجعل إسقاط إيران مفيداً أكثر من بقائها. لقد دخلنا في لحظة جديدة تتجه فيها أمريكا نحو التوسع شرقاً لإضعاف فرص التمدد الصيني، والعمل على احتوائه وإبقائه حبيس شرق آسيا لمد عمر الهيمنة الأمريكية المترنحة بفعل الصعود الاقتصادي والعسكري الصيني الحاسم.
انطلاقاً من هذه الفرضية القائلة أن التخلص من إيران أصبح مصلحة أمريكية محسومة وعاجلة، لا مناص من استنتاج وقوع المواجهة التي يحدد نتائجها ميزان القوى الفعلي.
بداهة أن أمريكا تمتلك مقدرات عسكرية لا يحتاج أحد إلى إثبات اختلافها النوعي والكمي عن أي شيء سبق للبشرية أن عرفته، وهذا هو ما ستواجهه إيران بما هي عليه، ولذلك نقدم باختصار عرضاً لنقاط القوة والضعف في إيران.
نقاط القوة: تتمثل نقاط القوة في الحس القومي والديني الراسخ في إيران عموماً على الرغم من وجود بضعة آلاف من العملاء الذين لا يمكن تجنب اصطيادهم بفعل جهود الاستخبارات الغربية والآسرائيلية المتمرسة في هذا النوع من العمل. ولذلك يتوقع أن يقاتل الإيرانيون بدافعية عالية، وأن يتعمق التفافهم حول قيادتهم بمن في ذلك المعارضة الوطنية غير المرتهنة للتمويل الخارجي. ومن ناحية أخرى تعتمد طهران على فرق عسكرية متنوعة ومدربة جيداً، ناهيك عن تسليح مستند إلى الصناعة الوطنية القادرة على الإمداد المتواصل ما لم يتمكن العدو من ضربها على نطاق واسع التدمير، وهذا ما يجعلها مؤهلة لحرب طويلة دون انتظار شحنات السلاح عبر الجسور الجوية من الخارج مثلما يحصل مع معظم الدول بما فيها إسرائيل. من هذه الناحية تبدو إيران مكتفية ذاتياً مثل أمريكا أو الصين وحفنة قليلة من الدول المرتكزة على ذاتها. ولا بد أن اتساع إيران يجعل مهمة تدمير ترسانتها المنتشرة على امتداد هذه المساحة مهمة لا يستهان بها حتى في حال المشاركة المباشرة لأمريكا وحلف شمال الأطلسي في هذه المواجهة. أخيراً نضيف الإمكانيات المهمة لسلاح البحرية والقوات البرية الإيرانية المدربة جيداً والمستعدة للقتال الاستشهادي، لكن درة التاج في القوة الإيرانية تظل بدون شك القوة الصاروخية المختبرة بالفعل خلال الأيام القليلة الماضية عندما نجحت لأول مرة في تاريخ الدولة العبرية في الوصول إلى قلبها وإلحاق أذى تدميري لا تخطئه العين حيثما حلت.
نقاط الضعف: ليس خافياً أن إيران تعاني من اختراق أمني واسع. وقد كان رأينا إبان المواجهة بين المقاومة اللبنانية وإسرائيل أن اختراقات البيجرز واغتيال القادة يجد أساسه النهائي على الأرجح في طهران، كان لافتاً لنا أنه كلما اجتمع نفر من قيادة المقاومة مع وجود مسؤول إيراني ما، تكون النتيجة اغتيالهم من قبل الطائرات الإسرائيلية، ولا يعقل بداهة أن لا تتحمل إيران مسؤولية أجهزة البيجرز المرجح أن تكون إيران من ابتاعها وفحصها باعتبار أن المقاومة اللبنانية لا تمتلك الأدوات اللازمة للتسوق أو الفحص الأمني الإلكتروني المعقد.
بداهة، لا حاجة هنا إلى التحليل، لأن إيران نفسها أعلنت عن وجود شبكات كثيرة من العملاء الذين يقومون بأدوار خطيرة تتجاوز جمع المعلومات الأمنية إلى تصنيع المسيرات داخل حدود البلاد واستخدامها في هجمات على مواقع حساسة بالتنسيق مع الموساد والمخابرات الأمريكية. هناك اختراق واسع ربما كان يتطلع من يقف وراءه إلى إسقاط الدولة الإيرانية بعد الضربة الصهيونية الواسعة مباشرة.
من ناحية القوة العسكرية يظل الضعف في المجال الجوي هو الثغرة التي تميز "الفقراء" جميعاً، ولا بد من الإقرار أن ذلك كان حال المواجهات مع الاستعمار الأمريكي منذ ولادة نظام الهيمنة الأمريكي بعد العام 1945. حتى الاتحاد السوفييتي لم يكن في أي وقت قادراً على مواجهة الطيران الأمريكي، وهو ما جعل الدفاعات الجوية هي الممكن الوحيد، ولذلك شاعت أهمية صواريخ "سام" في سبعينيات القرن العشرين خصوصاً بعد حرب تشرين 73. للأسف لا تمتلك إيران حالياً أي نظام فعال للدفاع الجوي، وقد أحجم الروس عن تقديم منظومة اس 400 القادر نسبياً على اكتشاف طائرات ف 35 على الرغم من تزويد دولة أطلسية مثل تركيا بها. وهذا يقودنا إلى نقطة الضعف الأخطر في ظل كوننا المعولم، وهو عدم وجود حليف "جدي" من بين الدول الكبرى يقدم الإسناد الفعلي بإمكانياته كلها حتى لو كانت ضعيفة. وعندما يتصل الأمر بمواجهة إسرائيل، فإن روسيا لأسباب كثيرة سبق أن ناقشناها لا يمكن أن تزود "أصدقاءها" بأية أسلحة يمكن أن تلحق الخسائر الفادحة بالدولة العبرية.
وعلى الرغم من قولنا إن اتساع إيران يمكن أن يحسب في سياق مؤشرات القوة، إلا ان امتداد المساحة الكبير يمكن أن يرتد عكسياً ويعطي فرصة للأعداء للاختراق في ظل عدم قدرة الدولة على مراقبة حدودها المترامية الأطراف، كما أنه يجعل مهمة نشر قوات تحمي هذه المساحة الشاسعة أمراً مستحيلاً. ومن الواضح أن إيران ل "سوء الحظ" لا تستطيع أن تأمن أن تأتيها الضربات من الاتجاهات المختلفة: أذربيجان، تركيا، العراق، الخليج، قطر، سوريا...الخ إن دولة عظمى يمكن أن تعاني في الدفاع عن نفسها في ظل إحاطتها بالأعداء من الجهات كلها على وجه التقريب.
يظل السياق الدولي والإقليمي معادياً لإيران كثيراً، إذ يصطف الجيران عموماً تحت المظلة الأمريكية الأطلسية بمن في ذلك الدول العربية "الإبراهيمية" المطبعة أصلاً مع إسرائيل خوفاً من البعبع الإيراني، وهذه الدول ترى إيران الخطر الأول الذي يتهددها، وليس صعباً أن نتخيل أنها ستساهم بكل ما تستطيع في ضرب إيران. أما دول المشرق العربي فهي دول خاضعة خوفاً وطمعاً للإرادة الأمريكية وهو ما ينطبق حالياً على الأردن ومصر ولبنان، وانضمت سوريا كما هو معلوم إلى النادي ذاته.
هناك استثناء لن يغير اللوحة جوهرياً يتمثل في الموقف الباكستاني العالي النبرة المساند لإيران، لكن الصين الملتزمة بلهجة الحياد والدعوات "العقلانية" إلى ضبط النفس تفرغ الدور الباكستاني من أية أهمية واقعية. وإذا كانت الصين مستعدة للتعايش مع زحف أمريكا خطوة واسعة باتجاه الشرق لتقويض "طريق الحرير" وتوجيه ضربة لمشروع التمدد الصيني خارج إقليم شرق آسيا، فإن إيران قد لا تجد مساندة تذكر من أية قوة إقليمية أو كونية، وهو ما يجعل الصين في وضع يشبه وضع العراق 2003 مع اختلاف لا يمكن إنكاره في تماسك البلد وقوته لمصلحة إيران دون شك. يضاف إلى ذلك إمكانية المناورة من ناحية المضائق أو التهديد بضرب بإشعال آبار النفط...الخ ولكن ذلك يظل في مستوى العوامل غير الحاسمة خصوصاً بعد تحييد قوة المقاومة اللبنانية التي كان يمكن أن تؤدي دوراً جوهرياً في المواجهة الراهنة.