الجمعة  20 حزيران 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الدول المارقة تَفترس جذور العالم/ بقلم: عيسى فريد مصلح

2025-06-20 11:38:07 AM
الدول المارقة تَفترس جذور العالم/ بقلم: عيسى فريد مصلح
عيسى فريد مصلح

حين نمعن النظر  في مجرى التاريخ، نَـكتشف نمطاً جاثماً يتكرّر كل مرة بلبوس جديد : تُستهدَف الحضارات العريقة، الضاربة بجذورها في تربة الأزمنة، لأنها تُذكِّر الطارئين بمحدوديتهم. تُسفك الحضارات العظيمة على مذبح الزمن، وغالباً ما يكون السيف في يد دولة مارقة، وُلدت بلا سياق، بلا جذور، بلا ذاكرة.

هي كيانات من فراغ، لا تَحتمل ضوء من سبقها، فتسعى إلى طمْسه كي لا ينكشف عُريُّها. تَغرز أنيابها في أعناق الحضارات بدافع مَرَضيّ، لإلغاء ما يُشعرها بالنقص، وما يَفضح هشاشتها الوجودية. 

تماماً كما يحاول المرءُ الناقصُ أن يُطفئ نور من يعلوه كي لا تنكشف ضآلتُه، تحاول الدول المارقة سَحْق الحضارة، علّها تبني لنفسها تاريخاً من رُكام الآخرين. إنها عقدة النقص حين تتمنهج، ومَجازها كمن يَحُطُّ من قَدْر من يتفوَّق عليه، ليُخفِّف من وطأة شعوره بالدونية.

في قَلْب الشام القديمة، ازدهرت ممالك ماري وإيبلا وأوغاريت، حيث سُجِّلت أولى المعاهدات الدولية، ودُوِّنت النصوص على ألواح طينية ناطقة بالحكمة والفقه والسياسة. هذه الممالك، التي شَكَّلَت ركائز الذاكرة التاريخية للمنطقة، دخلَت في قبضة الاستعمار الفرنسي بوصفها "مكتشَفات"، وكأنها لم تكن يوماً معروفة لأبنائها! 

فُكِّكَت آثارُها من سياقها الحيّ، ونُقلت إلى متاحف باريس ، وفُصلَت عن محيطها الشاميّ بمصطلحات أكاديمية مصمَّمة لإعادة إنتاج الهيمنة بمظهر عِلمي.

من صور وصيدا إلى جبيل وأرواد، حَمل الفينيقيون الحرف إلى العالم منذ آلاف السنين، وسافروا بأشرعتهم في المتوسط، يسطِّرون البحر بلغتهم التي صارت أساساً للغات الغرب الحديث. ومع ذلك، حين وَصل الاستعمار الأوروبي إلى سواحل الشام، لم يرَ في هذه الجذور العميقة سوى غنيمة ثقافية قابلة للتفكيك والعرض.

ومن بين أكثر هذه التجلّيات فجاجة وهمجية، تقف "إسرائيل" نموذجاً صارخاً للدولة المارقة التي لا تكتفي بسرقة الأرض، بل تسطو على الزمن نفسه. تَسحق الفلسطيني في وجوده الحاضر مثلما تَجرف جذوره الضاربة في عمق التاريخ. 

منذ لحظتها الأولى، اتكأَت إسرائيل على أطلال حضارات أقدم منها بآلاف السنين. أخرجت لغة ميتة من رماد الزمن، ورفعَتها إلى مرتبة اللسان القومي لإعادة تشكيل الزمان والمكان. نَهبت آثار الكنعانيين، وادّعت نسباً لا تشهد عليه حجارة، ولا تحفظه عظام. سطت على الكتب والمخطوطات واللقى الأثرية، وصادرت الوثائق والذاكرة المؤرشفة، لتعيد إنتاجها تحت وصاية السردية الصهيونية. استعارت أسماء المدن، وأعادت تركيبها بما يلائم مخيالها السياسي، وحَوَّلَت القرى المهجّرة إلى مستوطنات تُحاكي سردية دخيلة، لم تنبت يوماً من تراب هذه الأرض.

أما أمريكا الحديثة، التي بالكاد خرجَت من رحم الاستعمار الأوروبي قبل قرنين ونصف، شحذت سيوفها لتغزو العراق، حضارة الرافدين، موطن أولى المدن والأساطير التي عَلَّمَت البشرية برمّتها كيف يُكتب الحرف ويُسَنُّ القانون وتُبنى الملحمة من طين. نُهبت هناك المتاحف في وضح النهار، وأُحرقت المخطوطات ليُمحى التاريخ من جذوره.

وهكذا في إيران، التي لا تَختزلها عمائم نظامها الحديث، بل تنبض في شرايينها دماء زرادشت، والأخمينيين، والشاهنامة، وجلال الدين الرومي. في قلب الهضبة الفارسية وُلدت حضارات راسخة، صاغت الإنسان كمحور بين الأرض والسماء، وأرست نُظُماً إدارية وفكرية سَبقَت مدارس الغرب الحديث بقرون.

أَربَك هذا العمق القوى الصاعدة، التي رأت في العراقة عائقاً أمام مشاريع الهيمنة. فحوصرت إيران بالعقوبات والاغتيال والتشويه لأنها كتلة صلبة من التاريخ تستعصي على الترويض.

الدولة المارقة ترتجف أمام الحضارة، لأنها تَفضح زيفها.

الدولة المارقة تطارِد التاريخ، لأنها لا تملكه.

الدولة المارقة تَنتقم من حجارة المتاحف، لما تنطوي عليه من حضارة لا تملكها.

الدولة المارقة تحاكِم الذاكرة، لأنها تزعزع كيانها الهش.

منطق الدولة المارقة يقوم بطبيعته على المحو، ووجودها لا يزدهر إلا بالإزالة، تمامًا كما السرطان، لا يتوسّع إلا بقتل ما يحيط به.