يحار العقل في أيامنا هذه أمام مهازل النزاعات المسلحة والمواقف "المبدئية" التي تتسابق القوى العظمى لزجها في عقولنا، بكل استخفاف وصلافة، إلى درجة يمكن فيها الجزم بأننا وصلنا إلى زمن من الانحطاط والوضاعة البشرية لم يسبق وأن رأينا له مثيلاً من قبل.
لا داعي لنا، أود أن أعتقد، للعودة إلى كل ما حل بشرقنا الذي يمعن الغرب بتسميته بالأوسط، حيث أن كل شيء في هذي الدنيا يُنظر إليه منذ زمن بعيد بمعيارية غربية بحتة، أقول للعودة إلى ما حل بشرقنا المنكوب في المائة عام الأخيرة ونيّف، لمحاولة فهم ما يجري من حولنا اليوم، على أهمية ارتكاز أي تحليل وتمحيص إليه بطبيعة الحال.
فبعدما قامت إسرائيل، التي ما من وصف يعرّفها أفضل من كونها الذراع التنفيذية الطولى التي زرعها الغرب في منطقتنا بإحكام مذهل وخبث جليّ، بفبركة ادعاءاتها وإطلاق اعتداءاتها "الوجودية" على حد تعبيرها في كل الاتجاهات، والتي تمثل حربها على الجمهورية الإيرانية أحدث، ولا أقول آخر، فصولها، هبّت سيدة الغرب والقوة الأكبر في العالم، لنجدة صنيعتها وإنقاذها من "الهلاك المؤكد"، على يد الأشرار الذين يقتلون "الأبرياء، المساكين، الضعفاء، المستضعفين، المسالمين...." إلى ما هنالك من الأوصاف التي يحاولون انتحالها وإقناعنا عبثاً بصدقها. وبعدما مهّدت الضربات الإسرائيلية للضربة الأمريكية على ما يُعتقد بأنه "مصدر لهلاك العالم" على ما يقولون، ووفرت المزيد من الذرائع المفبركة، وكأنهم بحاجة إليها، نفّذت الولايات المتحدة الأمريكية هجومها المدمر في إيران معلنة بأنها، ومن جديد، تنقذ العالم من "الشر الأعظم" وتؤكد على دورها كمسيح منتظر لا أمل لأحد في البقاء لولا يده الإلهية المُخلِّصة والمُخْلِصة.
إلا أن أمريكا، وبينما كانت تحضّر وتخطّط وتستعد وترتب خطواتها التنفيذية، استمرت في محاولاتها لإيهامنا بأنها تنشد الحل السلمي وتلتزم بالدبلوماسية، حتى أنها في الأيام والساعات الأخيرة التي سبقت الهجوم على المنشآت الإيرانية، أطلقت وبكل السبل والأبواق الممكنة بطارية من التصريحات الساذجة التي لا تنطلي أكاذيبها المفضوحة على أحد، محاولة الإمعان في إيهامنا بأنها تمارس شهامة استثنائية وتمنح "العدو الشرير" الفرصة تلو الأخرى ومزيداً من الوقت للعودة عن إثمه الذي لا يُغتفر بتجرؤه على الرد على المعتدي/المخلّص.. فكانت تصريحات الرئيس ترامب بأنه ما زال يفكر في الأمر بهدوء ويمنح متسعاً من الوقت، وتبعتها أو رافقتها الكثير من تصريحات مسؤوليه، والقادة الغربيين والإسرائيليين والمحللين المأجورين، والتي كانت جميعها دون استثناء تشير في ذات الاتجاه وتتسم بذات القدر من السذاجة، في محاولة بائسة إلى إضفاء طابع المصداقية عليها.
في ذات الوقت، وبينما استمرت إسرائيل في عدوانها الذي تدّعي بأنه يستند إلى تخطيط محكم يهدف إلى إنزال أقصى ضرر ممكن بقدرات العدو، كانت إيران تلتقط الرسائل والإشارات بوضوح تام ودون مواربة، وتعمل على الرد بوتيرة أصبحت جليّة للطرف الآخر، بينما تحث الخطى لترتيب أمورها واستعداداتها ونقل مقدراتها وقدراتها، إن وجدت فعلاً، أو إعادة موضعتها، لا أقول إخفاءها فهو ادعاء كاذب بكل المقاييس، وذلك على أرض مفتوحة ومتاحة لأعين العدو وأقماره الاصطناعية ووسائل رصده الحديثة والدقيقة لكل ما يدب فوق ترابها وتحته. ونقلت وسائل الإعلام تفاصيل قيام شاحنات كبيرة تم رصدها بسهولة، بنقل ما لا يعدو كونه وما لا يتعامل معه النظام الحاكم في طهران سوى على أنه ورقة ضغط هامة، حقيقية كانت أم وهمية، قد تمنحه، حالماً، سبيل النجاة، فتكون ورقة التوت التي يستر بها عريه أمام شعب مظلوم، مضطهد ومغلوب على أمره، ويخرج من جولة أخرى غانما منتصراً على طريقته وليس سوى على شعبه، ضامناً بذلك مزيداً من بقائه في الحكم، وليذهب كل شيء آخر إلى الجحيم.
هل كان بالإمكان أن نصدق بأن ما قامت به إيران كان عصياً على إسرائيل أو أمريكا أن تعمل على منعه؟ وهل من المعقول أن نصدق بأن إيران تمتلك ما تدعي من قدرات ولا يمكنها إسقاط طائرة مقاتلة واحدة من عشرات، إن لم يكن مئات المقاتلات التي تروح وتغدو في أجوائها وتصب النار على شعبها، على الرغم من بعض الادعاءات بعكس ذلك؟ وهل لنا أن نسلّم بأن إسرائيل لا تملك الوصول إلى كافة المقدرات والقدرات العسكرية التي يمتلكها الغرب برمته لتنفيذ ما تدعي بأنه هدفها النهائي بالخلاص من تهديد وجودي يقضّ مضجعها على الدوام؟ وفوق ذلك كله، أيقبل عاقل التسليم بأن هذا الكم من السذاجة الذي أغرقتنا به أمريكا وحلفاؤها، بما في ذلك من خلال المناورات الدبلوماسية المفضوحة، بأنه كان لإقناع النظام الإيراني بصدقيته وبالتالي تضليلها وأخذها على عين غرّة، فتصيبها الغارات الأمريكية في مقتل وتكسر شوكتها؟ إن ذاكرة الأحداث، القريبة منها والبعيدة، تزخر بوقائع يصعب تفسيرها على نحو مختلف، على الأقل من منظار أسس ومبادئ المنازلات العسكرية البحت. أوَلم تُبلغ إيران قبل ردها على اغتيال قاسم سليماني الأمريكان بخططها طالبة منهم إخلاء المواقع المستهدفة، كأن الأمر لا يعدو كونه طلب المساعدة من العدو ليتمكن النظام الإيراني من حفظ ماء الوجه استهزاءً برأيه العام؟ أولا تستتر إسرائيل خلف ادعاءاتها بالحرص على حياة المدنيين في تنفيذها لردود وضربات محددة المعالم والمقاصد والمواقع المعلنة بشكل مسبق، في الوقت الذي لا يهتز لها جفن في قصف خيام الغزيين المنكوبين ومدارسهم ومستشفياتهم وجموع أطفالهم المجوّعة المنتطرة لكسرة خبز؟
لا يمكنني التصور بأن كثيرين قد يختلفون على الإجابة على هذه التساؤلات.. لكنها تساؤلات تحدو بنا بشكل أساسي إلى طرح السؤال الأهم، ألا وهو: لماذا إذاً؟ وما الذي يحصل بالفعل؟ هل يعقل بأن يكون كل ما نراه من دمار وتدمير للبشر والشجر والحجر لا يعدو كونه مسرحية تضع نصها وتقوم بأدوارها وإخراجها عقول على هذا الحد من الشريرية والسادية؟
ليس القصد من كل ما تقدم اقتراح ذلك ولا حتى التلميح له. فأضعف الإيمان أن نتمسك بقناعة مفادها بأن بني البشر، أينما كانوا ومن كانوا، يملكون شيئاً من الخير.. وبأن المحبة هبة الله الحقيقية التي خصنا وميزنا بها كي يُكتب لنا البقاء.. وليس القصد هو التنكّر لقيام العداوات ووجودها فعلياً، فالعداوات قائمة لكن ما نراه إنما هي عداوات منسّقة بمعنى العداوات المحسوبة التي يمكننا أن نرى من خلال تجلياتها على الأرض كيف توظف لخدمة المصالح الضيقة، وخاصة تلك المتصلة بالمصالح السياسية البحتة وقصيرة المدى، دائماً على حساب الإنسان.
كل ما يجري من حولنا، وبالطريقة التي يجري بها، يجعلني عاجزاً عن الخلاص من اعتقاد يلازمني بعناد، بأننا حقاً في عصر تقوم فيه العداوة على أساس من التنسيق التام، المباشر أو غير المباشر، بين من يقدمون أنفسهم لنا على أنهم ألدّ الأعداء، انطلاقاً من أن العداء هو كذلك وسيلة أخرى ولغة كفؤة وفعالة إضافية من سبل ولغات تحقيق المصالح المتبادلة.. فيخدم "الأعداء" مصالح "أعدائهم" ويُسدون بعضهم بعضاً خدمات تمكّن كل طرف من تحقيق مصالحه، ليس على حساب مصالح الطرف الآخر بالضرورة، أو على الأقل بما لا يصيب تلك المصالح بمقتل، دون أدنى اكتراث لمن يدفعون الثمن من دمائهم، وأرواحهم، وكرامتهم وحتى وجودهم.. الضحايا الوحيدون والحقيقيون لكل ما ينجم عن تلك "العداوات المنسّقة" من مآسٍ وظلم ووحشية... ويا أطفال غزة ذكّرونا.. وأعيبونا.. وأنقذونا.. وانعموا بخيرات هذي "العداوات الجميلة" كي تمضي إسرائيل في مشروعها الوجودي القائم على الحرب والإبادة.. وكي يطيل الله عمر النظام الإيراني "الرحيم، والكريم والسوي".. وكي نتعلم جميعاً بأن أنشودة صباحاتنا ليست إلا "حفظ الله أمريكا وأطال بعمر رئيسها ونصره وتوّجه بجائزة نوبل للسلام"..