الثلاثاء  01 تموز 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الحرب العبثية.. الكل منتصر!| بقلم: أيمن يوسف/ سوريا

2025-07-01 09:42:21 AM
الحرب العبثية.. الكل منتصر!| بقلم: أيمن يوسف/ سوريا

ما من شك بأنه يمكن اعتبار الحروب، كل الحروب، على أنها عبثية.. إذ أن ما من حرب إلا وتصل في لحظة ما وبشكل أو بآخر إلى نهايتها، بغض النظر عما إذا كانت تفضي لسلام، أو مجرد هدنة ونهاية للمنازلة المسلحة، وبغض النظر عن النتائج المترتبة عليها. فحتى حرب المائة عام سميت بهذا الإسم لأنها انتهت على الرغم من امتدادها لقرن كامل من الزمن، وإلا لكانت سميت بغير ذلك. بالتالي، فالحرب عبثية بطبيعتها، لأن ترتيباً ما لما تسبّب بها أصلاً يقع تحقيقه في نهاية المطاف، حتى وإن كان ذلك بتأثير مباشر مما تؤدي إليه العمليات الحربية بحد ذاتها، وهو ما لا يعطينا التاريخ أي مثال كان على استحالة تحقيقه بالسبل الأخرى غير الحربية.

إلا أن البعض قد يؤمن، وقد يكون محقاً في ذلك، بأنه ليس من الضروري أن يعتنق الجميع ما آمن به ودافع عنه المهاتما غاندي، وبأن بعض الحروب قد تكون ضرورية ومشروعة، لا أقول غير عبثية، إذا ما كانت مسبباتها ودوافعها تتعلق بما توافق البشر على اعتباره حقاً مشروعاً في نيل الحرية، والانعتاق من نير الاستعمار والاحتلال والظلم السافر. لكن، حتى في مثل هذه الحالات، تتعدد الأمثلة في التاريخ حول وسائل أخرى مختلفة، لا تنطوي على المواجهة أو العنف المسلح، والتي تم من خلالها تحقيق أهداف مشروعة مماثلة.

من هنا، فليسمح لي القارئ بالتأكيد، مجدداً، على عبثية الحروب بشكل مطلق. إلا أن ذلك لا يبدو بالضرورة جلياً في كافة الحالات، خاصةً وأننا نعلم بأن التاريخ يكتبه ويفرضه المنتصرون، وبالتالي فهو يصور لنا في العادة كم كانت حرب ما ضرورية، ولا مفر منها، ولا بديل عنها سوى ما هو أسوأ منها على من انخرطوا بها وربما على الإنسانية جمعاء. لكن المعضلة تكمن في تلك الحروب التي تخرج منها كافة أطرافها على أنها منتصرة، مستخدمة حججاً دامغة لإثبات انتصارها فيها.. ففي هذه الحالات، من سيكتب تاريخ تلك الحروب وكيف؟ وأي السرديات ستفوز بجائزة المصداقية لتكون هي المعتمدة على أنها تعكس الحقيقة؟ ومن هو الخاسر فيها إذاً عندما يكون الكل قادراً على ادعاء وإثبات انتصاره؟

هذه هي، إلى أبعد الحدود وبما لا يدع مجالاً للشك حال الحرب الأخيرة حتى الآن (العبثية بالتأكيد) بين إسرائيل، وبدعم ومشاركة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، وبين إيران.

فلو عدنا إلى ما سبق هذه المواجهة من أحداث، وتصريحات، وتمهيدات، وتجيير للرأي العام، وشحن للمواقف، نجد بأنه كان لكل من هذه الأطراف ما يدعيه من مسببات وحجج توافقت جميعها على دفعنا للاعتقاد بأن الحرب لا بد منها، وبأن أسبابها موجبة، وبأنها تصبو لتحقيق أهداف محددة عمل كل طرف على التحقق من سيرها، أي الحرب، بما يمكنه من الادعاء بأنه نالها، وبالتالي حقق الغاية التي يمكنه تصوير نصره بها على أساسها.

عملت إسرائيل على الزج بفكرة التهديد الوجودي لها من قبل إيران، وبشكل خاص من قبل برنامجيها النووي والصاروخي. ورأينا كيف عملت على تقديم عملياتها على أنها تدك تلك البرامج في الصميم وتصيبها في مقتل، وصولاً إلى الادعاء، بغض النظر عن مدى صحة ما تصر على تصويره، بأنها تمكنت من إلغاء ذلك التهديد والقضاء عليه، أو على الأقل من تحجيم قدراته بما يلغي فاعليته المهددة بالنسبة للبرنامج الصاروخي، أو تأجيل القدرة على تنفيذه وتفعيله والوصول به إلى حد إنتاج القنبلة النووية بالنسبة لبرنامج إيران النووي.

ويرى الكثيرون بأن أية وسائل للتحقق من ذلك تعاني من تصدع في مصداقيتها وحيادها إلى درجة يصعب على أي منها إقناع الجميع بصدقية تقييمها للوضع الناتج عن الضربات الإسرائيلية لإيران والحالة التي آلت إليها برامجها الصاروخية والنووية. وعليه، فبمجرد الإعلان عن وقف إطلاق النار وانتهاء العمليات الحربية، وحتى قبل ذلك، انبرت إسرائيل للتغني بانتصارها في الحرب، انطلاقاً من أنها على حد تعبيرها استطاعت تدمير كافة القدرات العسكرية الصاروخية لإيران، وإعادة برنامجها النووي سنوات إلى الوراء، ملغية بذلك، ولو لحين، التهديد الوجودي عليها.

وهذه هي حال الولايات المتحدة الأمريكية كذلك، والتي أكدت مراراً على لسان رئيسها، بأن هدفها هو حماية إسرائيل، والمنطقة والعالم من التهديد النووي الإيراني، ومنعها من امتلاك القدرة على إنتاج سلاح نووي، ومعاقبتها على تعنتها في مفاوضات لم تتسم يوماً بالتكافؤ ولم تعط فرصة حقيقية ملموسة لتحقيق اختراق يفضي إلى اتفاق بهذا الخصوص يحول دون اللجوء إلى المواجهة العسكرية، بل كان على ما اتضح لاحقاً مضيعة للوقت، هادفاً إلى إيجاد المبررات للسماح لإسرائيل أولاً بضرب إيران، ومن ثم لتبرير التدخل الأمريكي واستخدام القوة العسكرية التي يبدو بأن أمريكا لم تؤمن سوى بها منذ اللحظة الأولى. وبالفعل، سارع الرئيس ترامب لإعلان نصره المبين فور تنفيذ طائراته لضرباتها على المفاعلات الإيرانية في فوردو وأصفهان والمشهد، مؤكداً على أن أمريكا تمكنت من الإجهاز على قدرات إيران النووية التخصيبية، ومخزونها من اليورانيوم عالي التخصيب، وبالتالي تحقيق الأهداف المعلنة في القضاء التام على برنامج إيران وخططها في استمرار العمل نحو تطوير القدرة على إنتاج قنبلة نووية.

أما إيران، فلقد تمسكت منذ اللحظة الأولى لاشتداد التوتر الذي سبق نشوب الحرب وعلى امتدادها، بأن الهدف الحقيقي والوحيد للهجمة الإسرائيلية الأمريكية عليها ليس سوى القضاء على نظامها واستقلالها، وإخضاع الشعب الإيراني مجدداً، كما في حقب تاريخية سابقة لنير التبعية والاحتلال غير المباشر للقوى الخارجية والغربية، والاستحواذ على خيرات البلاد ومقدراتها. وبالتالي عملت على امتداد الحرب، وعلى الرغم من الخسائر الموثقة التي تكبدتها في صفوف قياداتها العسكرية منذ اليوم الأول للحرب، على التأكيد على قدرتها ليس على دك العدو والرد عليه بما لم يره في عقر داره من قبل على مدى عقود وجوده في المنطقة وحسب، بل الإشادة بقدرتها على تحصين البلاد من الاجتياح، وفوق ذلك تماسك نظامها الحاكم وتلاحم شعبه معه، وعدم الرضوخ أو الاستسلام مهما اشتدت قسوة الضربات المتتالية وآثارها المدمرة. وبناء عليه، سارعت القيادة الإيرانية لإعلان انتصارها في الحرب ما أن أطلقت آخر صواريخها باتجاه تل أبيب، معلنة انتهاء المعركة وقبولها بوقف إطلاق النار، بعدما كانت ردت على الضربة الأمريكية على مواقعها النووية رداً لم يخلو من الدهاء والذكاء، وبذات العدد من الصواريخ لا أكثر ولا أقل، لكن في الموقع الذي كانت تعلم بأنه ربما يكون الموقع الوحيد الذي لن يؤدي إلى مزيد من رد الفعل من قبل أمريكا، أي قاعدة العديد في قطر، وذلك بتنسيق تام مع حكومة البلد الذي يعتبر أكثر البلدان قرباُ استراتيجياً منها في منطقة الخليج، وعلى الأرجح بتنسيق تكتيكي صريح مع الجانب الأمريكي نفسه كذلك. وأعلنت القيادة الإيرانية بأنها دحرت العدوان، وحفظت البلد الذي خرج نظامه من الحرب أكثر قوة وتماسكاً، وحافظت على قدراتها وبرنامجها النووي من أي ضرر حقيقي، خاصةً وأنها، كما تدعي، تمكنت من إخفاء مخزونها من اليورانيوم المخصب بعيداً عن المواقع التي طالها القصف الأمريكي.

وبذلك نجد بأن كلا من إيران وإسرائيل والولايات المتحدة تمكنت من إعلان النصر وتحقيق أهدافها في هذه الحرب، وكأنها انتهت دون أي خاسر فيها. وهو ما فيه استخفاف صارخ حد الوقاحة بالعقول. أولم تصرح إسرائيل، قبل الحرب وبعدها، مراراً وعلى لسان قادتها السياسيين والعسكريين، ومثلها فعلت أمريكا على لسان رئيسها، بأنها تهدف إلى زعزعة النظام الإيراني وإسقاطه، محدثة بذلك تغييراً وفوضى تضمن تحييد التهديد الإيراني ربما بشكل نهائي؟ أولم تقوم إسرائيل وأمريكا بذلك على الرغم من علمهما التام باستحالة تحقيق هكذا هدف من خلال الضربات الجوية وحتى عمليات الكوماندوس ودس العملاء وتمكينهم من تنفيذ بعض العمليات الهجومية في عمق الأراضي الإيرانية؟ وفي ذات الوقت، ألم تؤكد إيران بأنها لن تستسلم ولن تقبل بأي وقف لإطلاق النار في ظل الهجوم الإسرائيلي عليها، وبأنها ستحرق الأخضر واليابس في عقر دار العدو، وبأنها ستطال المصالح الأمريكية وجيوشها أينما كانت بمجرد التجروء على دخول الأخيرة على خط المواجهة أو حتى التفكير في توجيه أي ضربة لها؟ أولم تستمر بادعائها بأنها ترفع راية الدفاع عن القضية الفلسطينية وبأن غايتها النهائية هي التخلص من "النظام الصهيوني" المزروع ظلماً وعدواناً على الأرض الفلسطينية؟

لا بد من أن كافة أطراف هذه الحرب كانوا ملتزمين بمبدأ "العداوة المنسقة" الذي تطرقنا إليه في مقال سابق. بحيث كان كل منهم يطلق الحجج التي لا يريد والتي يعلم بأنه لن يعمل على تحقيقها، إنما يستخدمها فقط لتوفير فرصة للطرف الآخر للبناء عليها وحفظ ماء وجهه وإعلان نصره على طريقته في نهاية المطاف، وذلك لكي يبقى كل شيء على ما هو، ولكي يحقق كل منهما غاياته ومآربه السياسية الآنية، غير آبهين بما يحل بالبلاد ولا بأهلها، فانتصر نتنياهو وتوج نفسه على أنه من أنقذ إسرائيل من هلاك محقق كان سيحصل قريبا جداً على يد عدو يمتلك قدرات صاروخية لا يمكن مواجهتها وقدرات نووية لا تهدف سوى لمحو إسرائيل من الوجود. وخرج ترامب بنصر جديد يصوره على أنه المنقذ لإسرائيل وشعوب المنطقة والعالم من تهديد نظام خارج عن القانون والإرادة الدولية، وبذات الوقت الوحيد القادر، بحكمته وذكائه، على إيقاف حرب هددت خلال أيام معدودة الأمن والاستقرار العالميين وحدت بالكثيرين للاعتقاد بأننا أمام المشاهد الأولى من حرب كونية طاحنة. وحققت إيران غايتها في الظهور بمظهر العصي المنيع على الكسر، فهي لم تعلن استسلامها كما طلب منها ترامب، ولم يتزعزع ثبات نظامها الحاكم، بل على العكس خرج من الحرب أكثر قوة وأشد عضداً، ولم يتأثر برنامجها النووي، وبالتالي، قدرتها على الاستمرار في المناورة والتفاوض من موقع القوة. لكننا جميعاً، هرعنا إلى متابعة مجريات حرب لا يمكن اعتبارها سوى عبثية بكل المقاييس، ونسينا ونسيت وسائل إعلامنا وحتى وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى امتداد أيام الحرب الإثني عشر، بأن مجازر الإبادة، جوعاً وعطشاً ورمياً بالرصاص، بحق أطفال غزة وأمهاتهم وآبائهم، لم تتوقف ولو للحظة واحدة، وبأن إسرائيل استمرت في حصد عشرات الأرواح وأبادت خلال تلك الفترة ما يقدر بضعف من لقوا حتفهم في إيران جراء الحرب، وأكثر من سبعة أضعاف من قتلوا في إسرئيل جراء الصواريخ التي تمكنت من الوصول إلى أهدافها أو سُمح لها بذلك، كي تكتمل فصول "التنسيق" على أتم وجه.