الإثنين  14 تموز 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

متابعة الحدث| التيار الديني القومي الاستيطاني وحكم العشيرة.. لماذا يطرح تطبيق هذا النموذج؟

2025-07-14 09:50:13 AM
متابعة الحدث| التيار الديني القومي الاستيطاني وحكم العشيرة.. لماذا يطرح تطبيق هذا النموذج؟
مستوطنين- أرشيفية

الحدث الإسرائيلي

يطرح التيار الديني القومي الاستيطاني في إسرائيل نموذجًا مغايرًا للتعامل مع الفلسطينيين، يتجاوز منطق الاحتلال العسكري أو الصراع السياسي التقليدي، ليرتكز على إعادة تشكيل الوعي والهوية والانتماء الفلسطيني. ومن أبرز ملامح هذا الطرح في السنوات الأخيرة، ترويج فكرة "حكم العشائر" كبديل عن الكيان السياسي الفلسطيني الموحد. هذه الفكرة لا تنبع من رؤية إدارية أو فقهية محايدة، بل من بنية لاهوتية - أيديولوجية تسعى إلى تفكيك الشعب الفلسطيني وتحويله إلى مجموعات وظيفية غير سياسية، بما يخدم المشروع اليهودي القومي الديني.

تُعد محاولة نزع البعد القومي عن الفلسطينيين إحدى أهم ركائز الفكر الديني القومي الاستيطاني. فوفقًا لباروخ أفراطي، أحد أبرز حاخامات "ديريخ إيمونا"، فإن الهوية القومية للفلسطينيين تُشكل خطرًا وجوديًا على الدولة اليهودية، ويجب تفكيكها من خلال تجريد الفلسطينيين من أي تمثيل سياسي جماعي. يرى أفراطي أن الصيغة الوحيدة الممكنة لمكانة الفلسطينيين هي حقوق فردية مشروطة بالولاء للدولة اليهودية، مع رفض كامل لأي اعتراف بالحقوق الجماعية أو القومية لهم. يقول أفراطي: "لا يمكن القبول بأي كيان عربي يحمل طابعًا قوميًا. يجب أن يُعاد تعريفهم كمقيمين ذوي حقوق مدنية محدودة، لا كجماعة قومية". هذا الطرح يتقاطع مع تحليلات روجرز بروباكر حول الدولة القومية الإثنية، والتي تقوم على تعريف الأمة على أساس عرقي - ديني حصري.

وإلى جانب الطرح الديني، تبرز المساعي السياسية في هذا السياق من خلال محاولات ميدانية لتطبيق نموذج "التمثيل غير القومي"، عبر تعويم زعامات محلية أو عشائرية، يتم التعامل معها كبديل عن القيادة الوطنية الفلسطينية. ويكتسب هذا النهج زخمًا خاصًا بعد فشل مشاريع "السلام التقليدي"، إذ تبحث المؤسسة الأمنية والسياسية الإسرائيلية عن وسائل لإدارة السكان لا الشراكة معهم. وتصب هذه الجهود في ذات التصور الذي يرى في الهوية القومية الفلسطينية عبئًا وجوديًا، يجب تجاوزه من خلال تفكيكها لصالح هويات محلية دنيا.

وفي هذا السياق، نشرت صحيفة وول ستريت جورنال في يوليو 2025 تقريرًا موسعًا عن ما وصفته بـ"الشيخ العشائري" وديع الجعبري في مدينة الخليل، باعتباره نموذجًا فلسطينيًا قابلًا للتعاون مع إسرائيل خارج الإطار الفصائلي. سلط التقرير الضوء على علاقات الجعبري مع وزير الاقتصاد في حكومة الاحتلال نير بركات، ورئيس مجلس مستوطنات شمال الضفة يوسي دغان، ومردخاي كيدار، والزعيم الاستيطاني يسرائيل غانتس، جميعهم من أنصار التيار الديني القومي الاستيطاني. وقد أُبرز الجعبري كمثال على "فلسطيني عملي"، يطرح بديلًا عشائريًا لاتفاقات أوسلو، ويعترف بإسرائيل كدولة يهودية مقابل امتيازات اقتصادية وتنسيق أمني محلي.

يطرح آشر كوهين، الباحث الديني والأكاديمي في جامعة بار إيلان، في مقاله حول "التهويد السوسيولوجي" رؤية استراتيجية تتجاوز حدود التهويد الديني التقليدي، وتقوم على دمج غير اليهود في المجتمع اليهودي ككائنات وظيفية دون الاعتراف بهم كأنداد متساوين. يكتب كوهين: "التحدي الحقيقي ليس في إبقاء العرب خارج الدولة، بل في إدخالهم كأفراد منزوعي السيادة والهوية". يقترح كوهين أن الحل للتحدي الديموغرافي الذي يمثله الفلسطينيون يكمن في هندسة هوية جديدة قائمة على الولاء والخدمة، لا على الانتماء القومي.

هذا يتطابق مع رؤية الحاخام يعقوب أرئيل، أحد أبرز المرجعيات الدينية في التيار القومي الاستيطاني، والذي يؤكد في كتاباته الفقهية أن من لا يقبل بالطابع اليهودي للدولة يجب أن يُقصى منها أو يُعاد تعريف وجوده بلا حقوق قومية أو مدنية كاملة. يقول أرئيل: "غير اليهودي الذي يقبل حكمنا يمكن أن يعيش، لكن من يطالب بتمثيل سياسي قومي فهو عدو يجب طرده".

في هذا السياق، تصبح فكرة "حكم العشائر" وسيلة عملية لإخضاع الفلسطينيين عبر تفكيك هويتهم الوطنية، وتحويلهم إلى مجموعات تقليدية غير سياسية يسهل احتواؤها ضمن منظومة السيطرة اليهودية الكاملة. إن هذا الطرح يعكس منطق "الإقصاء والإحلال" الذي تحدث عنه باتريك وولف بوصفه جوهر الاستعمار الاستيطاني.

وتُعبّر هذه الرؤية عن تحوّل بنيوي في التعامل مع الفلسطينيين، إذ أن النمط الجديد يقوم على "التطويع" لا الشراكة، وعلى إنتاج الفلسطيني الجديد ككائن نافع وظيفيًا، شرط تخليه عن انتمائه السياسي أو الديني. ومن هنا يصبح نموذج الجعبري مثالًا حيًا على ذلك، فهو يُقدَّم في الإعلام الإسرائيلي والغربي ليس كزعيم عشائري فحسب، بل كفلسطيني غير سياسي، يتحدث عن الأمن والاقتصاد بدل النكبة والمقاومة. ويجد هذا الخطاب صدى لدى دوائر سياسية إسرائيلية تعتبر أن العشائر أقدر على ضمان الهدوء من أي مؤسسة وطنية ذات طابع سياسي.

كما أن الرهان على العشائرية في هذا الإطار يعكس قناعة استعمارية قديمة بأن المجتمعات الأصلية قابلة للإدارة إذا ما جُرّدت من نخبها الوطنية، وأعيد إنتاجها عبر وسطاء تقليديين. وكما يشير وولف، فإن الاستعمار الاستيطاني لا يكتفي بالإقصاء الفيزيائي بل يُحكم سيطرته من خلال بناء أنماط استيعاب جزئي تنتج كائنات مفرغة من السيادة والمطالبة. وهذا بالضبط ما يُراد للجعبري وأمثاله أن يجسدوه في الوعي الفلسطيني.

وفق منظور كيمليكا حول التعددية الثقافية في الدول الإثنية، فإن هذا الطرح لا يمنح الجماعات الأصلية حق تقرير المصير، بل يعيد تعريفها كأقليات مستوعبة داخل الأمة السائدة. ويتم ذلك عبر الاعتراف بها ثقافيًا (كعشائر وتقاليد) دون أي تمثيل سياسي قومي، مما يحول الضفة الغربية مثلا إلى ساحة تعايش وهمي بين نظام ديني – استيطاني وشظايا مجتمع فلسطيني مفكك. وتمثل تصريحات مردخاي كيدار حول "الحكم العشائري" في الخليل ذروة هذا التفكير. كيدار، المعروف بأفكاره حول "فدرالية الإمارات العشائرية" في الضفة، التي تضمن إعادة هندسة المشهد الفلسطيني وفق منطق قبلي خاضع - لا قومي.

من خلال الدفع بنموذج "إمارة الخليل"، يسعى التيار الاستيطاني إلى إعادة تعريف فكرة السيادة الفلسطينية بشكل جذري. فالسيادة، بحسب تعريف بروباكر، لا تتعلق فقط بامتلاك الأرض، بل بإمكانية الجماعة على تمثيل ذاتها سياسيًا. ومن خلال منح الشرعية لزعامات عشائرية ترتبط بالمحتل مباشرة، يُفرغ المشروع الاستيطاني مفهوم السيادة من مضمونه، ويعيد إنتاجه كخدمة أمنية واقتصادية ملحقة بالاحتلال.

يرى أحد منظري التيار المذكور آشر كوهين أن "السبيل لحل الصراع ليس بإعطاء الفلسطينيين كيانًا سياسيًا، بل بإعادة تفكيك بنيتهم السياسية، وتحويلهم إلى مجتمعات محلية تبحث عن المصلحة الفردية لا الجماعية". وهذا يتطابق مع ما تقوله الصحيفة الأمريكية عن الجعبري، حين تصفه كشخص يطلب فقط "العمل والهدوء والتعاون"، بينما يُحمّل "أوسلو" مسؤولية الفساد والدمار.

ضمن هذا التصور، يصبح "الفلسطيني الجيد" هو من يتخلى عن تمثيله الوطني، ويتبنى هوية وظيفية – عشائرية، تقبل الاندماج الاقتصادي في دولة الاحتلال دون المطالبة بأي حقوق جماعية. ويُمثل الجعبري هنا "نموذجًا بديلًا" عن قيادات فصائلية تُرفض لارتباطها بالمقاومة أو بالمطالبة بالسيادة. وهذا يتماشى تمامًا مع ما وصفه وولف بـ"إستراتيجيات الإخضاع الناعمة".

لكن هذه الهندسة السياسية لا تمر دون تكلفة، إذ تشير المؤسسة الأمنية الإسرائيلية ذاتها، بحسب وول ستريت جورنال، إلى أن الحكم العشائري لا يستطيع ضبط الفوضى ولا التعامل مع شبكات المقاومة. يقول اللواء غادي شامني: "لا يمكن بناء حكم مستقر عبر عشرات العائلات المسلحة والمتحكمة محليًا". ورغم ذلك، فإن الرهان على الجعبري يستمر، لأن المطلوب ليس الاستقرار، بل تفكيك السيادة.

تشير التجارب التاريخية إلى أن الخطاب الاستيطاني يسعى باستماتة إلى تحويل العشائر في من مكون اجتماعي إلى "أداة هندسية" يعاد توظيفها ضمن مشروع السيطرة. هذا التحول يرتكز على افتراضين: الأول، أن العشائر غير مؤدلجة ويمكن احتواؤها؛ والثاني، أن العشائر تملك قدرة فعلية على ضبط السلوك الشعبي. وهذا ما عبّر عنه نير بركات حين قال: "عملية السلام فشلت، نحتاج إلى تفكير جديد".

وبحسب وولف، فإن مثل هذه الأنماط من "إعادة إنتاج الهويات المحلية" لا تصمد أمام السياقات الاستعمارية المركبة، بل تتحول إلى بنى وسطى وظيفية، تُستخدم لفترة قصيرة ثم يُتخلى عنها. ما يُراد للعشائر اليوم هو أن تكون "جدارًا واقيًا" بوجه التمثيل السياسي القومي، دون تمكين فعلي، ودون تمثيل قومي، تمامًا كما حدث في نماذج الحكم الأهلي في سياقات استعمارية تاريخية (الجزائر، كينيا، جنوب إفريقيا).

من جهة أخرى، فإن خطاب الجعبري ذاته يعكس هذا الدور الوظيفي، لا التحرري. فهو لا يتحدث عن حقوق سياسية، ولا عن تحرير، بل يطالب بزيادة تصاريح العمل، وبحماية من إسرائيل، ويهاجم القيادة الفلسطينية لا من منطلق مقاومة الاستعمار، بل من منطلق الخدمات والضرائب. وهنا، يُعاد تعريف الهوية السياسية الفلسطينية من جديد: لا بوصفها نضالًا ضد الاحتلال، بل بوصفها سباقًا للحصول على تصاريح ومكاسب.