الثلاثاء  29 تموز 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

مرة أخرى: ما العمل لإنقاذ مصيرنا الوطني؟| بقلم: جمال زقوت

2025-07-29 10:59:38 AM
مرة أخرى: ما العمل لإنقاذ مصيرنا الوطني؟| بقلم: جمال زقوت
جمال زقوت

لا أحد يمكنه أن يُجادل في أن ما تسعى قوى المقاومة، بقيادة حماس، إلى تثبيته في أي اتفاق هدنة، مؤقتة كانت أو دائمة، لا يمثل قضايا فائضة عن الحاجة الوطنية أو قضايا غير وطنية منطلقة من اعتبارات فئوية مجرّدة. فمطالب المقاومة تحظى، نظريًا، بإجماع وطني وشعبي على حد سواء، ويأتي في مقدمتها وقف جرائم الإبادة التي يتعرض لها شعبنا في القطاع بكل أشكالها، والتي لا تقتصر على الإبادة العسكرية بالنار، بل وربما بات الأخطر منها تحويل الحصار إلى تجويع إبادي يطال كل فئات الناس، لا سيما الأضعف منهم، وهم الأطفال والنساء والشيوخ، الذين بدأوا يتساقطون واحدًا تلو الآخر يوميًا، في أعداد مرشّحة للآلاف، إن لم يكن لعشرات أو حتى مئات الآلاف.

وقد بات واضحًا أن الهدف الاستراتيجي من هذه الإبادة الجماعية يكمن في مخطط تطهير عرقي متدرّج، ولا يوجد في زمن الحروب والإبادة ما يُسمى “تهجيرًا طوعيًا” كما يتحاذق نتنياهو. ولعل هذا ما يُفسّر طبيعة التدمير البنيوي الشامل، ليس فقط للبيوت ومصادر الرزق والحياة، بل لجميع قطاعات البنية التحتية اللازمة للحد الأدنى من البقاء. كما أن تمسّك إسرائيل بالسيطرة على معبر فيلادلفيا، أو عدم الانسحاب من مناطق مفصلية في القطاع، والتمسّك بما تسميه “مدنًا إنسانية”، وهي في الحقيقة معسكرات اعتقال للإبادة والتطهير العرقي، يأتي في سياق ترسيخ قدرتها الميدانية المباشرة على تنفيذ التهجير الجماعي لشعبنا. ولعل مصطلح “تطهير” الذي ورد على لسان ترامب لم يأتِ صدفة، فهو يتجاوز التهديد التكتيكي ليكشف عن نوايا بعيدة المدى تُحضَّر للشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية.

السؤال الحقيقي بات يتجاوز عدالة تلك المطالب، التي، كما ذُكر، تحظى بإجماع شعبي، ولا يتوقف فقط عند طبيعة النوايا المبيّتة من قبل واشنطن وتل أبيب، بل يتمثل، في ضوء المعرفة الدقيقة بطبيعة المذبحة التي تستهدف الشعب ومصيره الوطني، فيما يمكن القيام به لمنع تحقيق ما يصبو إليه حكّام تل أبيب، حتى لو اقتضى ذلك تقديم بعض التنازلات التكتيكية التي لا تمسّ الوجود والمصير الوطني. وإذا كانت هذه حقًا مواقف الأطراف الفلسطينية، فما الذي يمنع حتى الآن التوافق عليها بصورة جماعية، كي يتحمّل الجميع، وكلٌّ من موقعه، مسؤولياته الوطنية والأخلاقية لتحقيق تلك الأهداف، وفق رؤية موحّدة، وخطة واضحة، وأداة رسمية تُكلّف بذلك؟

وفي هذا السياق، لا يمكن أن تكون مقولة “اللي طَلَّع الحمار على المئذنة خليه ينزّله”، في إشارة إلى المسؤولية عن السابع من أكتوبر، ذريعة مقبولة لاستمرار النأي بالنفس والتنصّل من المسؤولية. فالتباين حول حسابات السابع من أكتوبر قد يكون مشروعاً، ويحتمل الجدل والنقد الجاد والمراجعة الوطنية الموضوعية لاستخلاص العبر والدروس، وأهمها على الإطلاق أن الإجماع الوطني على وسائل النضال هو مصدر قوة وشرعية لجميع أشكال المقاومة. تمامًا كما أن فشل مسار الرهان على التسوية، وما أدى إليه من كوارث، والإصرار على التمترس خلف سياسات خاطئة، بما يشمل التفرد والإقصاء لدرجة باتت تهدّد الكيانية الفلسطينية ومؤسساتها؛ يستدعي أيضًا مراجعة جادّة وإجابات ملموسة. ذلك كله ليس من باب نصب المشانق لأحد، بل من أجل حماية السفينة الوطنية من الغرق.

ترامب ومبعوثه ويتكوف، اللذان يتبادلان الأدوار مع نتنياهو ودريمر، يرميان القفاز في وجه ما يلوح من أمل لشعبنا، خاصة في غزة، بهدف تعميق الجرح والتفسخ في النسيج الاجتماعي، الذي ظل للأسف رهينة حالة الانقسام العبثية، وتبرئة البعض منا لحكّام تل أبيب دون تدقيق في مدى خطورة ذلك، وكأن المقاومة هي سبب جرائم الإبادة، أو أنها المسؤولة عن تعطيل التوصّل إلى اتفاق جديد، بعد أن خُرق اتفاق يناير. لقد ثبت عدم صوابية مقولة “لاحق العيار لباب الدار”، ليس فقط لعدم جدواها في نزع الذرائع، بل لأنها ضاعفت من شهية الاحتلال التوسعية، حد المجاهرة بعدم شرعية وجودنا، وكأننا شعب زائد عن الحاجة، ولا سبيل لاستقرار المنطقة إلا باستئصاله، وتصفية حقوقه، والإجهاز النهائي على مصيره الوطني في هذه البلاد.

لقد بات واضحًا أن العدوانية الفاشية لحكام تل أبيب تتصاعد بلا حدود، بقدر ما يعاني الموقف الفلسطيني من ضعف. وهذا الضعف لا يكمن في عدم قدرة شعبنا، الذي يناضل منذ أكثر من مئة عام، على الصمود، ولا في عدم عدالة قضيته التي باتت رمزًا للعدالة الإنسانية، ولا في غياب التضامن الشعبي العابر للقارات، ولا حتى في اختلاف الأهداف السياسية العامة للفصائل، التي تُجمع على رفض الاحتلال والاستيطان، والتمسّك بالحرية وحق العودة، وتقرير المصير، والاستقلال الوطني الناجز في دولة فلسطينية عاصمتها القدس على حدود الرابع من حزيران 1967.

فجوهر الضعف الذاتي يكمن في الانقسام، والصراع على شرعية متبددة، وما يرافقهما من ازدواجية في الخطاب، تعصف بوحدة النسيج الاجتماعي، وبالقدرة الوطنية الكلية على لجم الفاشية العدوانية. كما أن استمرار هذا الضعف بات يهدّد القدرة على صون التضحيات الهائلة التي قدّمها شعبنا، ويبدّد إمكانية تحويلها إلى إنجازات سياسية تخدم الأهداف والمصالح الوطنية العليا؛ الأمر الذي يُلِحّ على الجميع بضرورة الارتقاء إلى مستوى اللحظة الفاصلة، وما تفرضه من انصياع للإرادة الشعبية العريضة لمعالجة هذه المعضلة، التي باتت كأدران سرطانية تهدّد حياتنا ومستقبل قضيتنا.

لقد بات الحديث عن هذا الموضوع لدى البعض وكأنه ثرثرة ممجوجة، أو كأن الانقسام بات وباءً لا رادّ له، دون أن يقدّم أصحاب هذا الخطاب بديلًا أو طريقًا إنقاذيًا جديدًا وجادًّا. أما إذا كان الهدف هو استعادة الوحدة الوطنية في سياق احترام وصون التعدّدية والأسس الديمقراطية التي يقوم عليها النظام السياسي، عبر مؤسسات وطنية منتخبة، فهذا هدف أسمى، لكنه، واقعيًا، يحتاج إلى التوافق على خطة وأطر انتقالية جامعة، وفق أولويات عاجلة لا تحتمل المناورة. وقد بات غياب الوحدة الوطنية مدعاة لاستمرار نزيف الدم والأرواح في غزة.

ولعل التوافق على أدوات وأطر وطنية تستند إلى إعلان بكين، و إلى المحددات الوطنية لصفقة توقف حرب الإبادة، لم يعد يحتمل التأجيل أو التباطؤ. فكلاهما،التأجيل والتباطؤ، سيحمّلان الجميع وزر الدم النازف، دون تبرئة المجرم الحقيقي. إلا أن عدم الذهاب إلى كلمة سواء سيمكّن المجرم من محاولة توزيع دماء الضحايا بين القبائل.

أخيرًا، ورغم أنه لم يعد واضحاً مصير إمكانية التوصّل إلى صفقة انتقالية، ولكن ستظل المعضلة الرئيسية التي سيواصل حكّام تل أبيب التذرّع بها هي ما يسمّونه “اليوم التالي”، والذي سبق وأجابت عليه جميع الفصائل الفلسطينية في بكين قبل أكثر من عام، إلا أنه ظل حبيس أدراج الحسابات الخاطئة.

فهل نجحت هذه الحسابات في وقف الإبادة؟ وهل تدرك القيادة السياسية لحماس أن مفتاح الحل قد بات معلقاً أمام شجاعة القرار بالذهاب  العاجل لتسليم ملف المفاوضات والمشهد برمته لحكومة وفاق وطني تتحمل مسؤولية ملف غزة وتكون قادرة على ربطه بالملف الوطني بتفويض الكل الفلسطيني؟ هل السلطة تدرك أن هذا هو الخيار الوحيد المتاح لإنقاذ الناس والمصير الوطني معاً  ؟ بعد أن بات الجميع يدرك أننا في عربة واحدة من قطار الإبادة والتهجير والتصفية؟

هل آن أوان التصدّي الموحّد لخطورة هذه اللحظة؟

فدون ذلك، سنظل ننزف دمًا وحقوقًا.