الأحد  10 آب 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

المقاومة بين بؤس الواقع وبؤس التحليل| بقلم: ناجح شاهين

2025-08-10 11:43:22 AM
المقاومة بين بؤس الواقع وبؤس التحليل| بقلم: ناجح شاهين
ناجح شاهين

السابع من تشرين شهد ما هو غير قابل للتخيل: اختراق واسع للمقاومين على نحو لم يسمع للعرب أن فكروا في فعله، ولا بد أن حرب 73 ومواجهة تموز العظيمة لم تكونا بهذا المستوى. ولسنا نبالغ إن قلنا إن المقاومة نفسها قد تفاجأت من حجم النجاح المبهر للعملية.

ما جرى بعد ذلك أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن فعل المقاومة لم يكن صدفة، أو حسن طالع ناجم عن انشغال العدو باحتفال أو عيد أو "سكرة"، فقد صحا العدو من سباته وصب جام غضبه وهيجانه موظفاً قدرات الاستعمار العالمي بكل "تكامله وتفاضله الذريين". لكن المقاومة برهنت على حسن استعدادها وشجاعتها وإبداعها الذي يتفوق على ما كان بإمكان أي محلل أو عالم علماء السياسة أن يتوقعه.

على الرغم من ذلك كانت المقاومة تعرف مثلما يعرف العلماء الحقيقيون والمزيفون أن "ساعة الحقيقة" لا بد أن تأتي بعد أسابيع أو أشهر لتعلن أن الماكينة الصهيوأمريكية الضخمة قادرة في النهاية على إلحاق خسائر مريعة بغزة مقاومة ومدنيين على السواء. أما ما كانت المقاومة تجهله، وكنا نجهله جميعاً فيما أحسب، فهو السياق الموضوعي الواقعي البائس الذي لا يحضرنا مثال يشبهه على الإطلاق. ألم يقم العرب بقطع النفط عن الغرب في سياق حرب تشرين 73؟ ألم يفتح الجيش السوري مخازنه للمقاومة اللبنانية في مواجهة تموز لتأخذ منها ما تشاء دون عد أو حساب؟ ما حصل أن المقاومة تعرضت لخذلان شامل على المستويات كلها، وتقديرنا أنه لم يكن بإمكان قيادتها توقع ذلك على الإطلاق.

حسناً لنقل صراحة: إن أحداً باستثناء المقاومة اللبنانية لم يمد يده بشيء لنصرة غزة ومقاومتها، بل إن فعل المقاومة اللبنانية ذاتها لم يكن فعلاً مؤثراً ميدانياً، وإن كان مؤثراً سياسياً ومعنوياً. دعونا نستعرض الخيبات الواقعية التي لم يكن بمقدور القائد أبوإبراهيم أو غيره توقعها، لأن أحداً في العالم كله لم يكن قادراً على ذلك:

1.         ردة الفعل الشعبية العربية عموماً والفلسطينية خصوصاً: باستثناء اليمن الذي تتحرك جماهيره بتوجيه من قيادتها السياسية، فإن الجماهير العربية سلكت سلوكاً يجسد حالة الإحباط المنتشرة منذ فشل "الربيع العربي" الذي جلب ويلات ساهمت في "إقناع" الناس بأن الآمال في التغيير الإيجابي هي أوهام غبية بعد أن تحولت الأحلام إلى كوابيس في مصر وليبيا وتونس وسوريا والسودان...الخ. كأنما تم إلحاق هزيمة نفسية كاملة بالمواطنين العرب من المحيط إلى الخليج. ولكن ما طم الوادي على القرى هو حالة الذعر التي أصابت المواطنين الفلسطينيين في الداخل وفي الضفة على السواء. وأظن أن اسرائيل نجحت نجاحاً كاملاً بإسناد أمريكي وأوروبي صريح في إيصال رسالة فحواها أنها وحش ينزف ويلعق دماءه، وأنه قادر على الفتك بمن يتنفس أو يرفع صوته مهما كان فعله هامشياً أو ضيئلاً.

2.         الموقف الدولي: في مشهد يذكر بما تعرض له العراق سنة 1991 "تفاجأت" المقاومة بل تفاجأنا جميعاً من استمرار الهيمنة الأمريكية التي لا ينازعها منازع. وقد بدا خصوصاً في الأشهر الأولى بعد الطوفان أن العالم الرسمي كله يلتمس لإسرائيل العذر في ممارساتها الوحشية، وهناك جزء رئيس من العالم "الأول" كان يساندها دون قيد أو شرط، خصوصاً ما يتصل بأوروبا كلها شرقاً وغرباً وشمالأ وجنوباً، وكذلك شمال أمريكا واليابان والهند. وقد ظهر جلياً منذ البداية عدم وجود إسناد حقيقي لغزة بعدما تراجع وزير خارجية إيران عن تحذيراته بأن "الوقت قد انتهى"، وتراجعت المقاومة اللبنانية عن قرار نرجح أنه اتخذ بالفعل للتدخل، لكن مشاورات حاسمة مع طهران أدت إلى إلغائه. هل كانت المقاومة في غزة تتوقع فتح جبهة من لبنان؟ نرجح أن ذلك هو واقع الحال الذي كان يتوقعه الإسرائيلي نفسه.

ما يزيد الطين بلة هو عدم القدرة على فهم حجم الانحياز الروسي لإسرائيل أو، على الأقل، عدم المبالاة الروسية تجاه القضية الفلسطينية على نحو كامل. كان الناس عموماً غارقون في وهم أن روسيا مع العرب وأنها تواجه الغرب بمن في ذلك اسرائيل على نحو نشط واستراتيجي. وكانت المواقف التي أطلقها لافروف في سياق الدفاع عن سوريا قبل العام 2020 تشي بولادة قطب جديد، كما أن المواجهة في أوكرانيا عمقت العداء الروسي/الأطلسي. وقد كانت محاولاتي لبيان ما أسمتيه منذ بداية العملية الأوكرانية "حدود القوة الروسية" تتلقى الاستهجان من المثقفين المؤيدين لمحور المقاومة والمعادين للاستعمار الأمريكي على وجه الإجمال. لذلك لا نستبعد أن قيادة المقاومة قد أعطت لروسياً دوراً أكبر عندما وضعت السيناريو لتنفيذ عملية الطوفان. لكن روسيا من ناحية كشفت عن ضعف عسكري يتجاوز حتى خيال كاتب هذه السطور، كما كشفت من ناحية أخرى عن علاقة "حب" عميقة تربطها بإسرائيل لأسباب لا مجال للخوض فيها في هذه العجالة.

3.         الموقف الرسمي العربي: لا بد أن المقاومة كانت تعلم يقيناً أن الدول العربية، إن لم تتعرض لضغط شعبي عارم، ستقف إلى جانب اسرائيل. ذلك أن الكل يعلم أن دول الخليج تعيش الزمن الإبراهيمي، وتحمل حقداً أبدياً تجاه "حماس"، وينطبق الأمر ذاته على مصر السيسي والمغرب ...الخ، بينما تعلم قيادة المقاومة أن سوريا أضعف من أن تفعل شيئاً يتجاوز الدعم بالأسلحة الذي كانت تقوم به بالفعل، ولا نظن أن المقاومة قد توقعت الكثير من الجزائر. على الرغم من ذلك نستطيع أن نقدر أن الضغط الشعبي كان يمكن أن يردع الدول العربية عن تبني مواقف داعمة لإسرائيل على نحو شبه علني من قبيل إرسال شاحنات الأغذية من الخليج عبر الأردن...الخ. ومن هذه الناحية نعتقد أن قيادة المقاومة توقعت أن فعلها البطولي سيحرك الشوارع العربية في كل مكان.

4.         الموقف الإسلامي: لا بد أن المقاومة قد راهنت على موقف تركيا. تركيا دولة قوية جداً، بل قد تكون الدولة الأقوى على مستوى "الشرق الأوسط" دون منازع. وقد كشفت عن قدرات لا يستهان بها في دعم "الثورة" السورية ضد نظام الأسد في مواجهة دعم روسي وإيراني سخي للنظام، وكانت "حماس" شريكاً لتركيا في هذه المجهودات، وقدمت في سياق ذلك الكثير من التضحيات والعديد من "الشهداء" لذلك لا نستبعد أن قيادة المقاومة توقعت دعماً سياسياً مهماً من تركيا. ولا بد أن خطاب اردوغان العالي النبرة ضد اسرائيل، مع تواصل العلاقات الأمنية والتجارية بين البلدين، هو أمر لم تتوقعه المقاومة، وعلى الرغم من معرفتنا أن تركيا دولة أطلسية حليفة لأمريكا والصهيونية، إلا أننا لا نستطيع أبداً أن نطالب المقاومة بأن تراها بهذه العيون، فهي دون شك تعاملت مع تركيا على أنها دولة الخلافة المنتظرة، ولا بد أن المقاومة كانت تضعها في حساباتها دائماً وهي تخطط مواجهاتها مع العدو. بقية الدول الإسلامية لا يحتل أن المقاومة حسبت لها حساباً مهما في المواجهة.

5.         موقف المؤسسات الدولية: لا نستبعد أبداً أن المقاومة قد بنت خططها على توقع دور مهم للمؤسسات الدولية وأذرع الأمم المتحدة في ردع العدوان الصهيوني وإبقائه ضمن حدود الوحشية المعتدلة على الأقل. وهو توقع مشروع في رأينا، بل إن "اليسار" الفلسطيني نفسه كان يرتكز في أحلامه السياسية منذ أوسلو على ضغط المجتمع الدولي والعدالة الدولية والأمم المتحدة..الخ. وليس من الإنصاف مطالبة المقاومة في غزة بأن تنجح في تقدير ما فشل "اليسار" في تقديره من زيف هذه المؤسسات الكامل وعدم فاعليتها في ظل هيمنة امريكا العكسرية والسياسية المطلقة.

أما ما طم الوادي على القرى فهو الاختراق الذي كانت تعيشه المقاومة اللبنانية وإيران منذ زمن ما بما سمح لإسرائيل بتنفيذ اغتيالات هامة في لبنان وايران، أصاب فيها قيادات المقاومة الفلسطينية واللبناينة على السواء، وهذا بالطبع ما لم يكن متوقعاً من قبل أي "محلل" أو عالم سياسة. وأخيراً احتلال العصابات لدمشق ليضعف جبهة المقاومة في لبنان وغزة على نحو مدمر، وبغض النظر عن خطأ المقاومة قبل عشر سنوات في الاصطفاف مع أعداء النظام، إلا أن ما جرى وجه لكمة قوية للمقاومة في غزة وأحكم الحصار الخانق على حليفها الأهم في لبنان. بداهة أن احتلال سوريا لم يكن في "بال" أحد، وهو نظير مذهل لاختراق البيجرز وقتل قيادات المقاومة في لبنان، كما أنه تجسيد لفشل الجميع في تقدير ما تستطيع الامبريالية الأمريكية أن تفعل على الرغم من تراجع أهميتها الكونية. بالطبع مثل إنهاك روسيا في حربها مع اوكرانيا أحد الشروط الأساس التي سهلت الانقضاض على دمشق.

 كان يمكن لأي متغير في اللوحة الواقعية السوداء الموصوفة أعلاه أن يغير الواقع على نحو مؤثر لمصلحة غزة وفلسطين وقضية الصراع العربي ضد الصهيونية على وجه الإجمال، ولكن تضافر هذه العوامل المريعة ضد المقاومة، حرمها من قطف ثمار حرب بطولية ذكية وشجاعة لم يتبق منها على ما يبدو إلا الدرس الاستثنائي الخطير المتضمن لفكرة أن حرب التحرير ضد المشروع الصهيوني المدعوم من الاستعمار العالمي ليست محالاً. وإذا كانت غزة الصغيرة وحدها قد نجحت في مواصلة القتال والصمود طوال هذه الشهور الممتدة، فكم حري بمقاومة تنطلق من سوريا أو لبنان أو الضفة أوالأردن أن تقود إلى دحر المشروع، ولا بد أن توحيد القوى المشار إليها سيضيف قوة هائلة إلى فكرة المقاومة. لكن ذلك الإمكان يظل أملاً مشروطاً بتغييرات عميقة في المنطقة العربية وربما في العالم أجمع.