"هل العالم الرقمي نسخة أكثر حدّة من الواقع؟"
بهذا السؤال نطرق عتبة ما يُعرف بـ"الإنترنت النسوي"، ليس كرفاهية تقنية ولا كمفهوم نخبوي، بل كضرورة سياسية وأخلاقية لمجابهة الإقصاء الممنهج للنساء في الفضاء الرقمي، وتوسيع دوائر المقاومة والمعرفة والتحرر.
في زمن تتداخل فيه التكنولوجيا مع السياسة، وتعيد المنصات الرقمية تشكيل الوعي الفردي والجمعي، تبرز الحاجة إلى مقاربة نسوية للفضاء الرقمي، لا باعتباره حيّزاً محايداً، بل كساحة متشابكة بالسلطة والمعرفة والتمثيل. فالإنترنت، رغم مظاهره الديمقراطية، لا يخلو من إعادة إنتاج أنماط الإقصاء الجندري، بل أحياناً يعمّقها تحت غطاء الحداثة والشفافية.
نساء على هامش الثورة الرقمية
رغم التوسع العالمي في استخدام الإنترنت، والنساء يشكّلن قرابة نصف مستخدمي الإنترنت عالمياً، فآن حضورهنّ في إنتاج التكنولوجيا، وفي فضاءات صنع القرار التقني، ومعادلة الوصول والمشاركة والتأثير باهتاً. حيث تظهر النساء غالباً كمستهلكات أو موضوعات للمراقبة أو ضحايا للعنف السيبراني، لا كمصممات للتقنية ولا كصاحبات رؤى في مستقبل الرقمنة.
النساء والتقنية: فجوات تتسع
تشير القراءات إلى فجوات تواجه النساء في الفضاء الرقمي، منها فجوة الوصول، حيث تحرم الكثير من النساء خاصة في المجتمعات الهشّة من البنية التحتية أو الأمان الرقمي اللازم للتواجد الفعّال. وفجوة الاستخدام، إذ تفتقر السياسات التعليمية والبرامج التقنية إلى مراعاة خصوصيات النساء، مما يحدّ من اكتسابهن المهارات الرقمية المتقدمة. فجوة التأثير، فحتى عندما تصل النساء إلى المنصات، نادراً ما يُسمح لهن بالمشاركة في تشكيل قواعدها، أو التأثير في تصميم خوارزمياتها، أو وضع سياساتها.
- تفاوت في التوفر والقدرة على استخدام الإنترنت بشكل آمن وموثوق.
- ضعف في المهارات الرقمية المتقدمة مقارنةً بالرجال، نتيجة لغياب التوجيه والتعليم التقني الجندري.
- محدودية في التأثير على سياسات المنصات الرقمية، وتصميم الخوارزميات، وفضاءات الحوكمة الرقمية.
من "النشر" إلى "التحرّك"
في عالم حيث تُصنع الصورة وتُدفن الحقيقة بخوارزمية، يصبح الانخراط النسوي في التقنية شكلاً من أشكال المواجهة السياسية، لم يعد النشر مجرد مشاركة، بل فعل مقاومة، لم تعد التغريدة صوتاً معزولاً، بل خيط في شبكة تضامن عالمية ضد العنف الرقمي، المساحات الذكورية، وإعادة إنتاج التمييز داخل عوالم جديدة.
الإنترنت كمساحة نسوية: هل هو ممكن؟
نعم، لكن بشروط .... ليس المطلوب فقط "الوصول إلى الإنترنت"، بل إعادة تشكيله، وكشف بنيتة الذكورية الاستبعادية. من هنا يأتي مفهوم "الإنترنت النسوي"، الذي لا يقتصر على الدفاع عن النساء في الفضاء الرقمي، بل يتجاوز ذلك ليطالب بإعادة هندسة التقنية من منظور نسوي، يراعي الخصوصيات والهويات، ويقاوم الاستغلال الرأسمالي لجسد المرأة ومحتواها وصورتها.
(لا يعني الحديث عن "إنترنت نسوي" السعي إلى خلق فضاء منعزل خاص بالنساء، بل يستهدف إعادة تخيّل بنية الإنترنت نفسها من منظور نسوي ناقد وجذري).
مبادرات مقاومة: فلسطين نموذجاً
في فلسطين، تُواجه النساء تحديات مضاعفة في المجال التقني، تتقاطع العوائق الرقمية مع منظومة الاحتلال، الذي يراقب ويقمع ويقيّد البنى التحتية الرقمية. وتُضاف إليها منظومة اجتماعية أبوية وثقافية تقليدية تحدّ من حرية النساء في الانخراط بالمجال التقني، وواقع اقتصادي هش يجعل التقنية رفاهية لا أولوية.
من الهامش إلى التأثير: نماذج
رغم التحديات الصعبة، برزت مبادرات رقمية تقودها شابات فلسطينيات نجحن في تحويل الإنترنت إلى أداة مقاومة ومعرفة، مبادرات شبابية نسوية رقمية من المدونات الصوتية، إلى صفحات "الفيمينست تيك"، إلى حملات التشبيك والتضامن، ومحاولة تحويل الإنترنت إلى ساحة تعبئة وتحرير، لا مجرد واجهة تجميلية.
• منصات بودكاست تتناول قضايا النوع الاجتماعي والسياسة.
• حملات رقمية لمناهضة العنف ضد النساء بلغات متنوعة.
• مجموعات تعليمية رقمية لتأهيل النساء في مجالات البرمجة والذكاء الاصطناعي والعمل الحر.
نحو ميثاق إنترنت نسوي
ما نحتاجه اليوم ليس فقط تمكين النساء من الدخول إلى العالم الرقمي، بل تحويل العالم الرقمي نفسه إلى مساحة عادلة. وهذا يتطلب:
• بناء أدوات تقنية تراعي النوع الاجتماعي.
• إنتاج محتوى نسوي نقدي ومتاح.
• محاسبة منصات التواصل على سياساتها الجندرية.
• حماية المدافعات عن حقوق الإنسان رقمياً.
• تعزيز التضامن بين النساء عبر الحدود واللغات والمنصات.
الثورة الرقمية لا تكتمل دون نساء
إذا أردنا مستقبلاً رقمياً أكثر عدالة، فعلينا أن نبدأ من السؤال: من يُعرّف الإنترنت؟ من يملك أدواته؟ ومن يُقصى من دوائره؟
الإنترنت النسوي ليس مشروعاً تقنياً فقط، بل مشروع تحرري عميق يعيد رسم العلاقة بين الجسد، والمعرفة، والسلطة.
وإن تأسيس إنترنت نسوي ليس طرحاً خيالياً منفصلاً عن الواقع، بل استجابة عملية لتحديات ملموسة، وشرط لبناء عدالة رقمية ومعرفية، تستعيد النساء فيها حقهن في الظهور، في القول، في التصميم، وفي التأثير.
في مواجهة الرأسمالية الرقمية، والرقابة السياسية، والنزعة الذكورية التقنية، لا بد من مشروع بديل، يُعيد الإنترنت إلى الناس (كل الناس)، ويمنح النساء مكانتهن ليس كمستهلكات، بل كمساهمات في رسم مستقبل التقنية كأداة تحرير لا تقييد.