الثلاثاء  02 أيلول 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الغرب المتأخر دائما

2025-09-02 08:48:57 AM
الغرب المتأخر دائما
رولا سرحان

ليس إعلان الأمم المتحدة ومن ثم مجلس الأمن المجاعة في قطاع غزة إعلانا غير ذي قيمة، بل هو مهم، وقيم، لكنه قيم بالنسبة للضمير المحتمل للغرب الذي يحاول أن يرفع شيئا من المسؤولية عن نفسه بسبب مما يحدث في غزة. فهو ليس ذي قيمة بالنسبة لمن يعاني، أو بالنسبة للأم التي تحمل أعضاء إبنها الجائعة، لأن لا شيء مختلف عما كان ما قبل الإعلان عما بعده. وليست المسألة هنا متعلقة بكل الضجة الإعلامية المصاحبة للاحتفاء بهذا القرار، بل أيضا قد تكون متعلقة بالوجه الآخر لأي إعلان لتعرية الجريمة والاعتراف بها، والتي تأتي متأخرة دائما، هذا إن كانت ستأتي أصلا. وهي، قد تكون أيضا، متعلقة بذلك الأمل الأخلاقي الذي يُعشش في جوف الضحايا، والذي لا يُفقد أبدا، مؤمنين بأن دمهم الذي يسيل، وعمودهم الفقري الذي يشق الشاشة أمام الأعين، قد يُحرك، في وقت ما، الضمير الإنساني الدولي الميت. لكن المسألة هنا متعلقة، وبالأساس، بـ "التأخر"، ليس بمعنى "التأخير" أي أن يأتي الشيء في غير موضعه الزمني ومقامه، إنه بمعنى التخلف: "التخلف الأخلاقي" لدول الشمال.

إن تقدير خصائص هذا التخلف ليس بالصعب على من كان مصيره جنوبيا، تشكل تاريخه وحداثته المجهضة في بوتقة "الأنانية المقدسة" للدولة الاستعمارية الغربية التي ما تزال قائمة إلى اليوم بصور أخرى، وترى في مصالحها تعبيرا عن مصالح البشرية جمعاء، وأن لسانها الأخلاقي هو لسان الماضي والحاضر والمستقبل. وقد نجد في تعبير ريجيس دوبريه، تعبيرا بليغا، رائيا فيه أن الثنائية القطبية بين الشرق والغرب قد تنتمي إلى الماضي، لكن الفكرة المتممة في طرحه هي مقولة بحد ذاتها، ماثلة في أن الغرب هو، ومن جهته، أحادي القطب، فلا يجادل، ولا يرغب في أن يُجادل أحد في زعامته ولا في احتكاره للقيم الكونية، ولا في الحساسيات الإنسانية، ولا في كيفية إدارته للصراعات.

وحيث تتبدا هذه الخصائص اليوم أكثر فأكثر، فإن التأخر/التخلف ليس حالة ظرفية آنية، بل هي حالة تخلف مزمنة من الانفصام البيروقراطي على مستوى الدولة، تُطمس فيه الفاعلية الأخلاقية تجاه الآخر لتكون خيارا واعيا بعدم تحمل المسؤولية بل التعامل مع المآسي والحروب والاعتداءات، واليوم الإبادة، على أنها مسائل يُمكن إدارتها بضجة إعلامية تُفرغ أي قرار "إنساني" من أهميته، فيُحتفى بالقرار على حساب نسيان الجريمة نفسها. هكذا تصبح المؤسسات الدولية، والتحليلات الإعلامية، والنقاشات العامة حول القرار مجرد مسارح أخلاقية تؤدى عليها أدوار النقد والترحيب دون تحمل مسؤولية الفعل، بل وتستمر الدولة في التقاعس أو التواطؤ مع المجرم، بينما تمارس دورها في تنظيف وتطهير نفسها من ربق المآسي بتغطيتها.

ويصب في هذا الدور الأدائي المصير الفرجوي للإعلان المرتقب للاعتراف بالدولة الفلسطينية في الاجتماع المقبل للجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي يأتي في سياق فاضح بحد ذاته، مبرره حماية "إسرائيل" من نفسها، كما عبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وليس من منطلق الاعتراف بجرائمها كأساس لمعاقبتها. فهو لن يُقدم كاعتراف بحق تاريخي أو كإدانة للتسبب في مأساة فلسطينية مستمرة منذ أكثر من 77 عاما، ولا يأتي كإنصاف للفلسطينيين، رغم البلاغة الإعلامية المصاحبة له، بل سيكون أداة تسويق سياسية على مسرح السياسة الدولية، هدفه تهدئة الرأي العام العالمي الذي بدأ يتزايد دعمه لحقوق الشعب الفلسطيني بمبرر من دمه المسال وبما يراه من توحش إسرائيلي. وهدفه حماية صورة الدولة الغربية من تبعات دعمها غير المشروط لإسرائيل، وقائما بالأساس على التغييب الكامل لمفهوم "العدالة"، بتفريغ الاعتراف من أسسه الأخلاقية، فهو ليس اعترافا بالضحية بل أداة لتقويم سلوك الجاني، ومحاولة لخلق صمام أمان أخلاقي وسياسي له.

سيكون كل إعلان لصالح الفلسطينيين إعلانا لخدمة الدولة في الشق الشمالي من هذا الكوكب، يُحتفى به أمام الشاشات، ويُصفق له، ويُخفّف به عن الضمائر، ولكنه لن يترجم إلى مواجهة حقيقة مع الجلاد، فستظل محاولة محو الفلسطيني قائمة، وستظل الجريمة مستمرة، أما الغرب فسيظل متخلفا دائما!