صنمية القانون الدولي: من التحرر إلى إدارة المأساة
الخطاب الفلسطيني الرسمي أمام الأمم المتحدة جسّد مرة أخرى الأزمة المزمنة في الرؤية السياسية: الارتهان لـ"صنمية القانون الدولي" وانتظار عدالة لا تأتي. بدل أن يُطرح الخطاب كرافعة لتحرير الإرادة الوطنية، بدا كإعادة إنتاج لطقوس بروتوكولية أمام قاعات مكتظة بالتصفيق. تحوّلت القيادة إلى "مدير مأساة" يُحسن تدوير الألم الفلسطيني بصيغ إنسانية صالحة للعرض الدولي، فيما يغيب الوعي بأن هذه اللغة فقدت فاعليتها منذ زمن بعيد، ولم تعد تخلق أي أثر سياسي فعلي.
اللاعنف: تكتيك لإدارة الهزيمة
لم يعد اللاعنف في منطق الخطاب الفلسطيني الرسمي أداة مقاومة، بل صار تقنية لإدارة الهزيمة، ورسالة يُمنح بها الخارج طمأنينة زائفة بأن الفلسطيني بات صالحًا للاحتواء. تتحوّل "السلمية" إلى شهادة حسن سلوك أمام المانحين، وسقفًا منخفضًا للسياسة الفلسطينية، فيما تبقى المأساة الكبرى تحت الحصار والإبادة بلا أي محاولة اقتحام جدي لأدوات القوة الفعلية.
"الضحية المؤهلة": صناعة خطاب الاستعطاف
أخطر ما يقدّمه هذا الخطاب هو صورة "الضحية المؤهلة": ضحية تُحسن الانضباط لشروط النظام الدولي، تبعث التهاني في أعياد اليهود، تكرر الاعتراف بشرعية "الدولة اليهودية"، وتدين "العنف من الطرفين" حتى في ذروة الإبادة. إنها ضحية تُناسب معايير المشهد الأممي، لكنها بلا أنياب ولا مشروع مقاومة، تنتظر الرثاء والبيانات بدلًا من أن تفرض وجودها كقوة سياسية على الأرض.
قضية التأشيرات: خطاب الغياب الذي لم يُستثمر
إحدى المحطات الكاشفة كانت قرار الولايات المتحدة منع الوفد الفلسطيني من الحصول على تأشيرات دخول لحضور اجتماعات الأمم المتحدة. اكتفت القيادة بإرسال رسالة مسجّلة، وكان يمكن لتلك اللحظة أن تتحول إلى ورقة قوة، إذ أن غياب الخطاب عن المنبر الأممي، لو أُحسن توظيفه، ربما كان أكثر وقعًا وإحراجًا للنظام الدولي من أي كلمة. تاريخيًا، استخدمت قوى تحررية مثل المؤتمر الوطني الإفريقي في جنوب إفريقيا سلاح المقاطعة والانسحاب لكشف ازدواجية المعايير الدولية، لكنّ القيادة الفلسطينية فوّتت هذه الفرصة.
لغة مهادنة للعدو… تصالح مع الجلاد
الخطاب لم يجرؤ على مساءلة جوهر "الدولة اليهودية" كنظام استعماري استيطاني، ولم يقترب من الطعن في قانون القومية أو في بنية الفكر العنصري. بل واصل الاعتراف بشرعية الخصم وتقديم نفسه كجار حَسَن، محددًا سقف مطالب الفلسطيني بما دون الحد الأدنى، مكتفيًا بفتات الحلول. إنها لغة تُحوّل الاحتلال إلى جار طبيعي، وتُطبع المأساة في إطارٍ بيروقراطي يفتقد لأي أفق تحرري.
مقارنة خطابية: من ضعف يبحث عن شرعية إلى قوة تصنعها
الفارق صارخ بين خطابين: الإسرائيلي يفرض شرعيته بالقوة ويعلن بلا تردد رفض أي مرجعية دولية، حتى وهو يرتكب جرائم حرب تُبث على الهواء مباشرة، بينما الخطاب الفلسطيني الرسمي يواصل البحث عن شرعية مُعطاة من الأمم التي تنكرت لقراراتها. في خطابه الأخير، لم يتردد نتنياهو بالقول: "لن ننتظر قرارات الأمم المتحدة كي نحمي دولتنا"، بينما الفلسطينيون يكررون لغة الالتماس والرجاء. الفضيحة الأخيرة لـ"خطاب مكبرات الصوت" الذي حاول نتنياهو بثه داخل غزة، رغم اعتراف الجيش الإسرائيلي بخطأ الخطوة، كشفت أن الاحتلال قادر على فرض صورته الخطابية داخل قلب المعركة، حتى عبر وسائل عبثية، بينما السلطة تتوسل المنابر لتُنصت لها قاعات الأمم الميتة.
استراتيجية السلطة: بقاء بلا مشروع
من السهل تفسير هذا النهج بالسذاجة، لكن الحقيقة أنه اختيار استراتيجي للبقاء. السلطة لم تعد معنية بمشروع تحرر بقدر ما هي متمسكة بمشروع وجودها الإداري ذاته: الاستمرار كجهاز، حتى لو كان ثمنه تثبيت الاحتلال. الدفاع عن هذا النهج لا يتجاوز استراتيجية "الحياة بأي شكل"، ولو كان شكل حياة بيروقراطية بلا أفق، مدعومة بتصفيق المجتمع الدولي.
خاتمة: من إدارة المأساة إلى لغة الفعل
بين صنمية القانون، واستراتيجية اللاعنف السلبي، وإعادة إنتاج صورة "الضحية المؤهلة"، يضيع الخطاب الرسمي الفلسطيني بين الصوت المسجّل واللغة العقيمة. الغياب الذي كان يمكن أن يُستثمر كأداة ضغط تحوّل إلى تفصيل بروتوكولي. وفيما يفرض الاحتلال شرعيته بالقوة، يواصل الخطاب الفلسطيني الرسمي البحث عن شرعية الآخرين.
لن يكون هناك مخرج إلا بكسر هذه اللغة وإعادة صياغة الخطاب من موقع الفعل، لا من موقع الضحية الصالحة للعروض الدولية. اللغة الجديدة المطلوبة ليست لغوًا إنشائيًا، بل خطابًا يستمد شرعيته من الفعل المقاوم على الأرض، من المقاطعة إلى فضح البنية الاستعمارية، ومن الوحدة الوطنية إلى استعادة زمام المبادرة، بدل الارتهان للتصفيق البروتوكولي والرسائل المسجّلة.