كان ممثلو عددٍ من الدول يترقبون لحظة الخروج، فما إن اعتلى بنيامين نتنياهو منصة الأمم المتحدة يوم الجمعة 26 أيلول/سبتمبر 2025 حتى غادروا القاعة في مشهدٍ أثار جدلًا واسعًا وتباينت حوله القراءات؛ فهناك من رآه صفعةً في وجه إسرائيل، فيما اعتبره آخرون دليلًا على كونها دولة منبوذة. ومن هنا يبرز السؤال: هل يمكن وصف إسرائيل بأنها "دولة منبوذة" أم أنها "معزولة"؟ وما الذي يحدد هذا التوصيف في ضوء السياقات السياسية والدبلوماسية الراهنة؟
سعت إسرائيل منذ إقامتها إلى بناء صورة لنفسها في المجتمع الدولي باعتبارها دولة استثنائية؛ صغيرة المساحة وقليلة السكان لكنها ديناميكية، مبدعة، وقادرة على أن تكون فاعلًا سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا يتجاوز وزنها الجغرافي. لسنوات طويلة، استفادت من تحالفاتها الوثيقة مع الغرب، وبالأخص الولايات المتحدة، وقدمت نفسها كـ"واحة ديمقراطية" وسط بحر من الأنظمة المستبدة غير أن هذا آخذ في التآكل بصورة متسارعة في أعقاب حرب الإبادة، حتى بات الاعتقاد بأنها تسير نحو حالة من العزلة.
العزلة هنا ليست مجرد استعارة سياسية أو شعورًا بالنبذ، بل هي مفهوم أصيل في أدبيات العلاقات الدولية. فالدولة المعزولة هي التي تضيق دوائرها الدبلوماسية وتتراجع قدرتها على الحضور في النظام الدولي، بينما تُقابَل سياساتها برفض متنامٍ يفقدها شرعيتها الأخلاقية والسياسية أمام العالم. وتتجلى هذه العزلة في صور متعددة: عزلة دبلوماسية تُترجم في خفض مستوى التمثيل وتقليص العلاقات، وعقوبات اقتصادية وتجارية تُضعف اندماجها في السوق العالمية، فضلًا عن حصار ثقافي ورياضي يجسد رفضًا رمزيًا عميقًا. وغالبًا ما يُراد من هذا الوضع دفع الدولة إلى مراجعة سياساتها أو تعديل سلوكها. أما إذا فشلت في ذلك واستمرت في التمادي، فإنها تنتقل من خانة المعزولة إلى مرتبة المنبوذة.
إن ما يجعل الحديث عن إسرائيل في هذا السياق أكثر وجاهة هو تراكم مؤشرات لا يمكن إغفالها. فقد شهدت الأشهر الأخيرة تحولات غير مسبوقة في مواقف دول طالما عُرفت بدعمها التقليدي لإسرائيل. فخطوات الاعتراف المتتالي من دول كبرى مثل بريطانيا وكندا وأستراليا بالدولة الفلسطينية ليست مجرد قرارات رمزية، حتى وإن لم تُترجَم مباشرةً إلى وقائع على الأرض، بل تعكس بوضوح أن إسرائيل لم تعد قادرة على فرض سرديتها ولا على ضمان الغطاء السياسي المطلق من حلفائها.
لطالما تباهى نتنياهو بأن إسرائيل تمثل اقتصاد الابتكار وريادة الأعمال، اقتصادًا يُضرب به المثل في الانفتاح على العولمة وجذب الاستثمارات الأجنبية وتصدير التكنولوجيا المتقدمة. وعلى مدى عقدين من الزمن، ارتسمت صورة إسرائيل أنها "أمة الشركات الناشئة" (Start-up Nation) بوصفها نموذجًا اقتصاديًا عالميًا. غير أن هذه الصورة بدأت تتصدع؛ فاليوم توصف إسرائيل على نحو متزايد بأنها "Sparta-up" — أي دولة صغيرة مشبعة بالنزعة العسكرية، تعيش ذهنية القلعة المحاصرة أكثر مما تجسد نموذج الاقتصاد المنفتح.
العزلة الرمزية والثقافية لا تقل خطورة. ففي عالم اليوم، تُعد المشاركة في الفعاليات الرياضية والثقافية جزءًا من الشرعية السياسية للدول. حين تتردد مؤسسات دولية في دعوة إسرائيل أو تنطلق دعوات لاستبعادها من المنافسات، فإن ذلك يعكس تحوّلًا في صورتها الدولية. هذه العزلة الرمزية قد لا تؤثر مباشرة في الاقتصاد أو السياسة، لكنها تكرس صورة إسرائيل كدولة غير مرغوبة، ما يضاعف شعور العزلة ويجعلها أكثر عمقًا.
على الصعيد الحقوقي، فإن الموقف أكثر حدة. تقارير المنظمات الدولية، الاتهامات بارتكاب جرائم الإبادة وجرائم ضد الإنسانية، الدعوات المتكررة لمحاكمة قادتها أمام المحاكم الدولية، كلها عوامل تشوه من صورة إسرائيل الأخلاقية.
والمفارقة أن القيادة الإسرائيلية ذاتها لم تعد قادرة على إنكار هذه الحقيقة. فقد أقرّ أكثر من سياسي بأن إسرائيل تواجه عزلة دبلوماسية متنامية، فيما ذهب نتنياهو خطوة أبعد حين طرح تصورًا يقوم على تبني نموذج "سوبر – أسبرطة"، أي دولة تعتمد على ذاتها بصورة شبه مطلقة، ولا سيما في مجال الصناعات العسكرية. إن هذه اللغة التي تستحضر أسطورة الإغريقية المحاربة، التي انتهى بها المطاف إلى الهزيمة، تكشف بوضوح أن إسرائيل لم تعد تحاول التستر على واقع العزلة، بل تستعد للتكيف معه وربما التصالح معه.
مع ذلك، لا بد من الاعتراف أن هناك عوامل ما تزال تمنع إسرائيل من الانزلاق إلى عزلة كاملة. فالدعم الأميركي مستمر، سواء في مجلس الأمن عبر الفيتو أو عبر المساعدات العسكرية والاقتصادية. كما أن بعض القوى الكبرى مثل الهند والصين لا تزال ترى فيها شريكًا تكنولوجيًا وأمنيًا مهمًا، بل أن الدول الغربية لا زالت تتخذ خطوات فردية باهتة ضد إسرائيل هذه الملامح تشكل صمام أمان، لكنها لا توقف عزلة إسرائيل ذات المسار الطويل.
ولعل ما يجعل الحديث عن العزلة أكثر تعقيدًا هو أن هذه الحالة لا تأتي فقط من الخارج، بل تتجذر أيضًا في الداخل الإسرائيلي ذاته. فكرة "الجيتو" التي عاشها اليهود في أوروبا لقرون طويلة لم تكن مجرد تجربة عابرة، بل تركت بصمتها في العقل الجمعي. عقلية الانعزال والتحصن داخل الأسوار، والنظر إلى الخارج باعتباره فضاء عدائي، كلها مكونات لا تزال تحكم الذهنية السياسية الإسرائيلية.
من هنا، فإن الحديث داخل إسرائيل في العودة إلى عقلية الانعزال ليس مفاجئًا، بل هو امتداد تاريخي لذلك الإرث النفسي والثقافي. فحين تتبنى خطاب "العالم كله ضدنا"، وتبني الجدران المادية والمعنوية، فإنها تعيد إنتاج "عقلية الجيتو" ولكن على مستوى دولة. وبالتالي، فإن تحوّلها إلى دولة معزولة يبدو وكأنه عودة إلى الأصل أكثر مما هو انحراف عن المسار.
المستقبل مفتوح على أكثر من سيناريو. إما أن تتصالح مع العزلة وتتحول إلى دولة "سبارتا أب" محصنة ومنغلقة، أو أن تختار الانفتاح والتغيير، وهو خيار يبدو بعيدًا في ظل تركيبتها السياسية والأيديولوجية الراهنة. وفي كل الأحوال، فإن فكرة أن إسرائيل دولة معزولة لم تعد مجرد احتمال، بل صارت مآلًا يتشكل مع كل خطوة، حتى تكاد تتحول من "أمة ستارت - اب" إلى "أمة سبارتا - اب".