الثلاثاء  21 تشرين الأول 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الدبلوماسية الفلسطينية من رياض المالكي إلى فارسين شاهين: الواقعية السياسية أم الانفصال الأخلاقي؟/ بقلم: حسن العاصي

2025-10-21 11:35:56 AM
الدبلوماسية الفلسطينية من رياض المالكي إلى فارسين شاهين: الواقعية السياسية أم الانفصال الأخلاقي؟/ بقلم: حسن العاصي
حسن العاصي

في لحظةٍ تاريخيةٍ تتكثّف فيها المأساة الفلسطينية إلى أقصى درجاتها، لا يعود الصمت خياراً، ولا الحياد فضيلة. نحن أمام واقعٍ تتآكل فيه اللغة، وتُفرغ فيه الكلمات من معناها، حتى يُصبح التصريح الرسمي أداةً لإعادة إنتاج الهزيمة، لا لمقاومتها. حين تقول وزيرة الخارجية الفلسطينية فارسين شاهين إن "أمن إسرائيل جزء لا يتجزأ من أمن فلسطين"، فإنها لا تُخطئ في التعبير، بل تُعبّر بدقة عن منطقٍ دبلوماسيٍ فقدَ صلته بالحق، وبالناس، وبالدم الذي لم يجفّ بعد.

هذا التصريح ليس مجرد جملة عابرة في مؤتمر دولي، بل هو مرآة لخطابٍ رسميٍ يُعيد تعريف القضية الفلسطينية بوصفها ملفاً إدارياً، لا نضالاً تحررياً. خطابٌ يُراهن على التهدئة، ويُراكم التنازلات، ويُعيد إنتاج منطق "السلام الأمني" الذي حوّل الفلسطيني من صاحب حق إلى وسيطٍ بين الاحتلال والمجتمع الدولي. إنه خطابٌ يُفرّغ المقاومة من معناها، ويُحوّل الضحية إلى شريكٍ في ضمان أمن الجلاد.

منذ سنوات، ونحن نشهد تراجعاً رمزياً وسياسياً في تمثيل القضية الفلسطينية على الساحة الدولية. لم يكن ذلك نتيجة ضعف الموارد أو ضغوط الخارج فقط، بل كان ثمرة مباشرة لنهجٍ دبلوماسيٍ اختار أن يُهادن، ويُساير، ويُراكم اللقاءات دون موقف. في عهد الوزير السابق رياض المالكي، تحوّلت الدبلوماسية الفلسطينية إلى بروتوكولٍ فارغ، تُدار فيه القضية بوصفها عبئاً، لا بوصفها أفقاً للتحرر. واليوم، يبدو أن هذا النهج لم يُغادر موقعه، بل أعاد إنتاج نفسه عبر وجوهٍ جديدة، تُجيد لغة التهدئة، وتُتقن فنّ التراجع.

لكن القضية الفلسطينية ليست ملفاً إدارياً، ولا بنداً في جدول أعمال مؤتمر. إنها جرحٌ مفتوح، وذاكرةٌ مثقلةٌ بالدم، وحقٌ لا يُقايض بالأمن، ولا يُختزل في معادلات التوازن الإقليمي. حين يُصبح أمن الاحتلال جزءًا من خطابنا الرسمي، فإننا نكون قد عبرنا الخط الفاصل بين التفاوض والتفريط، بين الواقعية السياسية والانفصال الأخلاقي عن جوهر القضية.

إن الشعب الفلسطيني لا يحتاج إلى دبلوماسية تُراعي شروط القوة، بل إلى خطابٍ يُعيد الاعتبار للحق، ويُعيد بناء اللغة بوصفها أداة مقاومة، لا وسيلة تبرير. يحتاج إلى تمثيلٍ يُعبّر عن وجعه، لا يُجمّله، وعن نضاله، لا يُفرّغه. يحتاج إلى دبلوماسيةٍ تُدافع عن الإنسان الفلسطيني، لا عن أمن من يحتلّه.

هذه المقدمة ليست دعوة للغضب، بل نداءٌ لاستعادة الوعي. لأن أخطر ما يُمكن أن يحدث للقضية الفلسطينية، ليس أن تُهزم عسكرياً، بل أن تُهزم رمزياً، حين يُصبح خطابها الرسمي مرآة للهزيمة، لا أداةً لتفكيكها.

 

الانزلاق اللغوي أم الانحراف السياسي؟

ليس كل تصريح يُقال في مؤتمر دولي يُمكن اعتباره زلة لسان، ولا كل عبارة دبلوماسية تُغلفها المجاملة تُعفى من المساءلة. حين تقول وزيرة الخارجية الفلسطينية إن "أمن إسرائيل جزء لا يتجزأ من أمن فلسطين"، فإننا لا نواجه مجرد خلل في التعبير، بل انحرافاً في البوصلة السياسية، يُعيد تعريف العلاقة بين الضحية والجلاد بلغة ملساء تُخفي ما لا يُقال.

هذا التصريح لا يُمكن فصله عن السياق الرمزي الذي يُنتج فيه: سياق تتآكل فيه المفاهيم، وتُفرغ فيه الكلمات من معناها، حتى يُصبح "الأمن" مصطلحاً يُستخدم لتبرير القمع، لا لحماية الإنسان. فهل يُعقل أن يُصبح أمن من يحتل الأرض، ويقصف البيوت، ويُحاصر المدن، جزءًا من أمن من يُقاوم من أجل البقاء؟ هل يُمكن أن يُبنى أمن الفلسطيني على أساس ضمان أمن من ينكر وجوده؟

الانزلاق هنا ليس لغوياً، بل مفاهيمياً. إنه انزلاق في تعريف الذات، وفي موقع الخطاب الرسمي من القضية. حين يُقال إن أمن إسرائيل من أمن فلسطين، فإننا نكون قد عبرنا من منطق التحرر إلى منطق التعايش المشروط، ومن خطاب الحقوق إلى خطاب التوازنات. وهذا ليس مجرد تغيير في اللغة، بل في الرؤية السياسية التي تُوجّه الدبلوماسية الفلسطينية.

إن هذا التصريح يُعيد إنتاج منطق "السلام الأمني" الذي أثبت فشله منذ أوسلو، ويُحوّل الفلسطيني من صاحب حق إلى شريك في ضمان استقرار الاحتلال. وهو منطق يُفرّغ المقاومة من معناها، ويُعيد تعريف النضال بوصفه تهديداً، لا حقاً. وفي هذا السياق، لا يعود الخطاب الرسمي أداةً للدفاع عن القضية، بل وسيلةً لتطبيع شروطها.

الانحراف هنا ليس في الجملة، بل في ما تُخفيه من رؤية. رؤية تُراهن على التهدئة، وتُساير شروط القوة، وتُفرّط في جوهر القضية: أن الاحتلال لا يُؤمّن، بل يُنهي. وأن الأمن الحقيقي لا يُبنى على التعايش مع القمع، بل على إنهائه.

 

من التمثيل إلى التبرير — أزمة الخطاب الرسمي الفلسطيني

في كل قضية تحررية، يُشكّل الخطاب الرسمي مرآةً للوعي الجمعي، وأداةً للتعبير عن وجع الناس، ووسيلةً لتثبيت الحق في مواجهة النسيان. لكن حين يتحوّل هذا الخطاب إلى أداة تبرير، لا تمثيل، فإننا نكون أمام أزمة مزدوجة: أزمة في اللغة، وأزمة في الموقع السياسي الذي اختاره المتحدث الرسمي لنفسه.

يجب أن يُشكّل الخطاب الرسمي في كل حركة تحرر، الواجهة الرمزية التي تُعبّر عن جوهر النضال، وتُعيد صياغة الوجع بلغة تُقاوم النسيان. لكن في الحالة الفلسطينية، يبدو أن هذا الخطاب قد انقلب على وظيفته، وتحول من تمثيلٍ للحق إلى تبريرٍ للواقع، ومن أداةٍ للمواجهة إلى وسيلةٍ للتكيّف مع شروط الاحتلال

الخطاب الرسمي الفلسطيني، كما يتجلّى في تصريحات وزراء الخارجية المتعاقبين، لم يعد يُعبّر عن جوهر القضية، بل يُعيد إنتاجها وفق شروط القوة. لم يعد يُمثّل الفلسطيني بوصفه صاحب حق، بل يُقدّمه بوصفه طرفاً في معادلة أمنية إقليمية، تُراعي مصالح الاحتلال أكثر مما تُراعي كرامة الإنسان الواقع تحت القصف والحصار.

إن أزمة الخطاب الرسمي الفلسطيني ليست وليدة لحظة، بل هي تراكم طويل من التراجعات الرمزية، بدأت حين تم استبدال اللغة التحررية بلغة إدارية، وحين تم استبدال سردية المقاومة بسردية "الواقعية السياسية"، التي تُراهن على التهدئة وتُراكم التنازلات تحت غطاء الدبلوماسية.

لقد شهدنا في السنوات الأخيرة تآكلاً تدريجياً في اللغة الرسمية، حيث غابت المفردات التحررية، وتراجعت الإشارات إلى المقاومة، وتحوّلت القضية إلى ملف إداري يُدار بلغة التوازنات. لم يعد الخطاب يُطالب بالعدالة، بل يُراهن على "الواقعية السياسية"، التي تُبرّر التنازلات وتُجمّل الهزيمة.

التحوّل لم يكن عشوائياً، بل كان نتيجة مباشرة لنهج دبلوماسي اختار أن يُهادن، ويُساير، ويُراكم اللقاءات دون أثر. في عهد الوزير السابق رياض المالكي، تحوّلت وزارة الخارجية إلى جهاز علاقات عامة، يُصدر بيانات لا تُحرّك ساكناً، ويُشارك في مؤتمرات لا تُغيّر شيئاً. لم تكن القضية الفلسطينية حاضرة بوصفها قضية تحرر، بل بوصفها ملفاً تفاوضياً يُدار بلغة المجاملة، ويُخضع للمنطق الدولي الذي يُساوي بين الضحية والجلاد. لقد غابت المفردات التي تُعبّر عن الحق، وتراجعت الإشارات إلى الاحتلال، وتحوّلت فلسطين إلى "طرف في نزاع"، لا شعب تحت القصف. واليوم، يبدو أن هذا النهج لم يُغادر موقعه، بل أعاد إنتاج نفسه عبر وجوه جديدة، تُجيد فنّ التهدئة، وتُتقن لغة التراجع.

هذا التراجع لم يكن تقنياً، بل رمزياً. لقد تم تفريغ الخطاب من مضمونه، حتى أصبح يُستخدم لتبرير شروط الهيمنة، بدلاً من مقاومتها. وحين يُصبح أمن إسرائيل جزءًا من أمن فلسطين، فإننا نكون أمام ذروة هذا الانحراف: خطاب يُعيد إنتاج منطق الاحتلال بلغة دبلوماسية، ويُحوّل الفلسطيني من صاحب حق إلى شريك في ضمان استقرار من يحتلّه.

إن أزمة الخطاب الرسمي الفلسطيني ليست في غياب المفردات، بل في غياب الرؤية. حين يُصبح التمثيل مجرد حضور شكلي، وتُصبح اللغة أداةً لتبرير شروط الاحتلال، فإننا نكون قد فقدنا البوصلة الأخلاقية والسياسية التي تُوجّه النضال الفلسطيني.

هذا الخطاب الذي لا يُعبّر عن وجع الناس، ولا يُدافع عن حقهم في الحياة والكرامة، هو خطاب يُساهم في تهميش القضية، لا في تثبيتها. وهو خطاب يُعيد إنتاج الهزيمة، لا يُقاومها. وحين يُصبح التمثيل مجرد حضور شكلي، وتُصبح اللغة أداةً لتبرير شروط الاحتلال، فإننا نكون قد فقدنا البوصلة الأخلاقية والسياسية التي تُوجّه النضال الفلسطيني.

الخطورة لا تكمن فقط في ما يُقال، بل في ما يُسكت عنه. في غياب الإشارة إلى جرائم الاحتلال، وفي تغييب سرديات الأسرى، والشهداء، والمُهجّرين، وفي استبدال لغة المقاومة بلغة "التوازنات"، يُعاد تشكيل الوعي الفلسطيني وفق منطق القوة، لا منطق الحق. وهذا يُحوّل القضية من مشروع تحرري إلى ملف إداري، ومن سردية نضال إلى سردية إدارة أزمة.

إن استعادة الخطاب الرسمي الفلسطيني لا تكون بإعادة صياغة البيانات، بل بإعادة بناء الرؤية. رؤية تُعيد الاعتبار للحق، وتُعيد بناء اللغة بوصفها أداة مقاومة، لا وسيلة تبرير. رؤية تُعبّر عن الإنسان الفلسطيني، لا عن مصالح السلطة، وتُعيد تمثيل الوجع بوصفه مصدراً للشرعية، لا عبئاً يجب التخفيف منه.

 

دبلوماسية رياض المالكي — من إدارة الأزمة إلى إدارة التراجع

في تاريخ الحركات التحررية، تُقاس الدبلوماسية بقدرتها على تثبيت الحق، لا بتكرار الحضور. لكن في الحقبة الطويلة التي تولّى فيها رياض المالكي وزارة الخارجية الفلسطينية (2007–2024)، تحوّلت الدبلوماسية إلى طقس شكلي، تُراكم فيه اللقاءات دون أثر، وتُدار فيه القضية بوصفها عبئاً سياسياً لا بوصفها أفقًا للتحرر.

أول مظاهر الفشل كانت في الأداء الرمزي. لم تُسجّل وزارة المالكي أي اختراق نوعي في المحافل الدولية الكبرى. ورغم حضوره المتكرر في الأمم المتحدة، لم تُترجم تلك المشاركات إلى قرارات ملزمة أو اعترافات جديدة تُعزز مكانة فلسطين. بل إن الخطاب ظلّ أسيراً لعبارات مكرورة، تُدين الاحتلال دون أن تُطالب بآليات لإنهائه، وتُناشد المجتمع الدولي دون أن تُحرّكه.

ثانياً: غابت المبادرة السياسية. لم تُقدّم الوزارة في عهد المالكي أي مشروع دبلوماسي مستقل يُعيد تعريف القضية الفلسطينية خارج إطار أوسلو. لم تُبادر إلى بناء تحالفات جديدة، ولم تُستثمر التحولات الإقليمية والدولية لصالح القضية. حتى في لحظات الانفجار، كحروب غزة أو تهويد القدس، ظلّ الخطاب الرسمي يُراوح مكانه، يُدين دون أن يُحرّك، ويُناشد دون أن يُفاوض.

ثالثاً: فشل في إدارة التمثيل الفلسطيني. في أكثر من مناسبة، عجز المالكي عن توحيد الصوت الفلسطيني في المحافل الدولية. لم تُفعّل منظمة التحرير بوصفها الممثل الشرعي، ولم تُدمج الفصائل في رؤية دبلوماسية موحّدة. حتى في اجتماعات موسكو الأخيرة، التي اعتبرها "في غاية الأهمية"، لم تكن نتائجها سوى بيانات توافقية لا تُغيّر من الواقع شيئًا.

رابعاً: التماهي مع منطق التهدئة. في أكثر من تصريح، تبنّى المالكي رؤية دولية تُربط وقف إطلاق النار في غزة بإطلاق سراح الرهائن، متجاهلًا أن هذه المعادلة تُكرّس منطق الاحتلال وتُفرّغ المقاومة من شرعيتها. هذا التماهي مع شروط الخارج يُعيد إنتاج الهزيمة بلغة دبلوماسية، ويُحوّل الفلسطيني من صاحب حق إلى طرف يُساير التوازنات.

خامساً: غياب الرؤية التحررية. لم يكن المالكي مجرد وزير يُدير الملفات، بل كان مهندساً لخطاب رسمي يُفرّغ القضية من مضمونها. لم تُستخدم اللغة بوصفها أداة مقاومة، بل بوصفها وسيلة تبرير. لم تُعبّر الوزارة عن وجع الناس، بل عن مصالح السلطة. وهذا ما جعل القضية تُهزم رمزياً، حتى قبل أن تُهزم سياسياً

إن دبلوماسية رياض المالكي لم تكن فاشلة لأنها لم تُحقق إنجازات فقط، بل لأنها أعادت تعريف القضية وفق منطق إداري يُراعي شروط القوة، لا منطق تحرري يُقاومها. وهي دبلوماسية تُحتّم علينا اليوم إعادة بناء الخطاب، واستعادة اللغة، وتثبيت الحق بوصفه جوهر التمثيل، لا عبئاً يُدار.

 

الواقعية السياسية أم الانفصال الأخلاقي؟ — تفكيك المفهوم في سياق الاحتلال

في الخطاب الرسمي الفلسطيني، كثيرًا ما تُستخدم عبارة "الواقعية السياسية" بوصفها غطاءً للتراجع، ومبرراً للتنازل، وأداةً لتجميل الهزيمة. لكن السؤال الجوهري الذي يجب طرحه هو: واقعية من؟ وفي أي سياق؟ وهل يُمكن للواقعية أن تكون تحررية في ظل منظومة استعمارية تُعيد إنتاج القمع بوصفه أمناً، والاحتلال بوصفه استقراراً؟

الواقعية، في معناها الفلسفي، هي الاعتراف بالواقع كما هو، لا كما نرغب أن يكون. لكنها في السياق الفلسطيني، تحوّلت إلى أداة لإعادة إنتاج شروط الاحتلال، بدلاً من مساءلتها. حين يُقال إن "أمن إسرائيل جزء لا يتجزأ من أمن فلسطين"، فإننا لا نُمارس واقعية سياسية، بل انفصالاً أخلاقياً عن جوهر القضية. لأن الواقع الذي يُفترض أن نُعترف به، هو واقع القمع، والتهجير، والقتل، لا واقع القوة العسكرية التي تُفرض بوصفها قدراً.

الواقعية السياسية، كما تُمارس اليوم، ليست اعترافاً بالواقع، بل خضوعًا له. وهي تُستخدم لتبرير التكيف مع شروط الهيمنة، لا لتفكيكها. وهذا ما يجعلها أداةً خطيرة في الخطاب الرسمي، لأنها تُعيد تشكيل الوعي الفلسطيني وفق منطق القوة، لا منطق الحق. تُحوّل المقاومة إلى تهديد، وتُحوّل التفاوض إلى تنازل، وتُحوّل التمثيل إلى إدارة أزمة.

في السياق الفلسطيني، الواقعية الحقيقية لا تعني القبول بالاحتلال، بل الاعتراف بأن الاحتلال هو أصل الأزمة، وأن أي حل لا يبدأ من تفكيكه، هو حل زائف. الواقعية لا تعني التعايش مع القمع، بل بناء أدوات لمواجهته. الواقعية لا تعني أن نُراعي أمن من يحتلنا، بل أن نُعيد تعريف الأمن بوصفه حقاً للفلسطيني، لا امتيازاً للمحتل.

الانفصال الأخلاقي يبدأ حين تُصبح الواقعية أداةً لتبرير الصمت، وحين يُصبح الخطاب الرسمي خالياً من الإشارة إلى الجرح، والدم، والحق. حين تُصبح اللغة ناعمة، والمواقف رمادية، والبيانات متوازنة حدّ التواطؤ، فإننا نكون قد فقدنا القدرة على التمثيل، لا فقط على التعبير.

إن استعادة الواقعية بوصفها أداة تحررية، لا تبريرية، يتطلب إعادة بناء الخطاب الرسمي من جذوره. يتطلب الاعتراف بأن الحق لا يُقايض، وأن الأمن لا يُبنى على التعايش مع الاحتلال، بل على إنهائه. يتطلب أن نُعيد تعريف الواقعية بوصفها شجاعة في قول ما يجب قوله، لا براعة في تجنّب الإحراج.

 

أمن من؟ — إعادة تعريف المفهوم في سياق القمع

في الخطاب الرسمي الفلسطيني، يُستخدم مصطلح "الأمن" بوصفه قيمة مشتركة، هدفًا إنسانياً، ومطلباً دولياً. لكن حين يُقال إن "أمن إسرائيل جزء لا يتجزأ من أمن فلسطين"، فإننا لا نُعيد تعريف الأمن، بل نُعيد إنتاج منطق القمع بلغة دبلوماسية. لأن السؤال الجوهري الذي يُغفل في هذا التصريح هو: أمن من؟ ومن يهدد من؟ ومن يُعرّف الأمن؟ وعلى حساب من؟

في السياق الفلسطيني، الأمن ليس مفهوماً محايداً. إنه مصطلح مشحون، يُستخدم لتبرير الحصار، والقتل، والاعتقال، والتجريف، والتهويد. الأمن، كما تُعرّفه إسرائيل، هو غياب الفلسطيني، هو إسكات الصوت، وتفكيك الهوية، ومحو الوجود. فهل يُعقل أن يُصبح هذا الأمن جزءًا من أمن من يُقاوم من أجل البقاء؟

حين يُستخدم مصطلح "الأمن" في الخطاب الرسمي الفلسطيني دون تفكيك، فإنه يُعيد إنتاج منطق الاحتلال. يُحوّل الفلسطيني من ضحية إلى تهديد، ويُحوّل المقاومة إلى خطر يجب احتواؤه، ويُحوّل النضال إلى خلل يجب ضبطه. وهذا ما يجعل التصريح الرسمي ليس فقط متهافتاً، بل خطيراً، لأنه يُعيد تشكيل الوعي وفق منطق القوة، لا منطق الحق.

الأمن الحقيقي لا يُبنى على التعايش مع الاحتلال، بل على إنهائه. لا يُبنى على ضمان استقرار من يحتل الأرض، بل على تحرير الأرض من منطق الاستقرار القسري. الأمن، في السياق الفلسطيني، لا يعني نزع السلاح، بل نزع الشرعية عن من يُمارس القمع. لا يعني ضبط الحدود، بل تفكيك الجدران. لا يعني التنسيق، بل إنهاء السيطرة.

إن إعادة تعريف الأمن تبدأ من الاعتراف بأن الفلسطيني لا يُهدد أحداً، بل يُهدَّد يوميًاً تبدأ من مساءلة من يُعرّف الأمن، ومن يُمارسه، ومن يُستخدمه لتبرير القتل. تبدأ من تفكيك اللغة التي تُحوّل الضحية إلى خطر، والمحتل إلى طرف في معادلة متوازنة.

حين يُصبح أمن الاحتلال جزءًا من خطابنا الرسمي، فإننا نكون قد فقدنا القدرة على التمثيل، لا فقط على التعبير. نكون قد تخلّينا عن الحق في الحياة، مقابل الحق في التهدئة. نكون قد سايرنا منطق القوة، بدلاً من مقاومته. وهذا ما يجعل إعادة بناء الخطاب ضرورة سياسية وأخلاقية، لا مجرد خيار لغوي.

 

التمثيل الرمزي — حين تُهزم القضية في اللغة قبل أن تُهزم في الميدان

في زمن الاحتلال، تُصبح اللغة ساحة مواجهة. الكلمات ليست محايدة، بل أدوات تُعيد تشكيل الوعي، وتُحدّد موقعنا من الحق، ومن القمع، ومن التاريخ. وحين يُصبح الخطاب الرسمي الفلسطيني خالياً من المفردات التحررية، ومُحمّلاً بعبارات التوازن، والتهدئة، والواقعية، فإننا نكون أمام هزيمة رمزية تُسبق الهزيمة السياسية.

التمثيل ليس مجرد حضور في مؤتمر، ولا توقيع على بيان. إنه فعلٌ سياسيٌ وأخلاقي، يُعبّر عن وجع الناس، ويُعيد بناء سرديتهم في مواجهة المحو. وحين يُغيب الخطاب الرسمي عن سردية الأسرى، والشهداء، والمُهجّرين، ويُستبدل الحديث عن الاحتلال بالحديث عن "النزاع"، فإننا نكون قد فقدنا القدرة على التمثيل، لا فقط على التعبير.

الهزيمة في اللغة تبدأ حين تُصبح المفردات ناعمة، والبيانات رمادية، والمواقف متوازنة حدّ التواطؤ. حين يُقال إن "أمن إسرائيل جزء لا يتجزأ من أمن فلسطين"، فإننا لا نُعبّر عن رؤية سياسية، بل نُعيد إنتاج منطق الاحتلال بلغة دبلوماسية. نُحوّل الضحية إلى طرف في معادلة، ونُفرّغ الحق من شرعيته، ونُعيد تشكيل القضية وفق شروط من يُنكر وجودها.

الخطاب الرسمي الذي لا يُسمّي الاحتلال باسمه، ولا يُدين القمع بوصفه جريمة، ولا يُطالب بالتحرر بوصفه حقاً، هو خطاب يُساهم في تهميش القضية، لا في تثبيتها. وهو خطاب يُعيد إنتاج الهزيمة، لا يُقاومها. لأن اللغة ليست مجرد وسيلة، بل هي ساحة مواجهة، تُحدّد من يُمثّل من، ومن يُقاوم من، ومن يُعيد بناء الذاكرة في مواجهة المحو.

إن استعادة التمثيل الرمزي تبدأ من استعادة اللغة. من إعادة بناء المفردات التي تُعبّر عن الحق، لا عن شروط القوة. من إعادة الاعتبار لسردية الفلسطيني بوصفه صاحب قضية، لا طرفاً في نزاع. من إعادة بناء الخطاب الرسمي بوصفه فعلاً تحررياً، لا إجراءً إدارياً.

الهزيمة الأخطر ليست في الميدان، بل في اللغة. حين يُصبح الخطاب الرسمي مرآة للهزيمة، لا أداةً لتفكيكها، فإننا نكون قد فقدنا القدرة على المقاومة الرمزية، التي تُمهّد للمقاومة السياسية. وحين تُهزم القضية في اللغة، فإن استعادتها تبدأ من إعادة بناء المفردات، ومن إعادة تعريف التمثيل بوصفه التزاماً أخلاقياً، لا وظيفة دبلوماسية.

 

نحو استعادة الخطاب التحرري — دعوة لإعادة البناء من الجذور

بعد كل هذا التآكل الرمزي، والانحراف اللغوي، والتراجع السياسي، لا يكفي أن نُدين التصريحات أو نُسجّل الملاحظات. المطلوب اليوم هو إعادة بناء الخطاب الرسمي الفلسطيني من الجذور، بوصفه مشروعاً تحررياً لا مجرد وظيفة دبلوماسية. لأن القضية الفلسطينية لا تُدار، بل تُقاوَم. ولا تُمثّل بلغة التوازنات، بل بلغة الحق.

استعادة الخطاب التحرري تبدأ من استعادة اللغة. من إعادة بناء المفردات التي تُعبّر عن الوجع، وتُسمّي الاحتلال باسمه، وتُعيد الاعتبار للمقاومة بوصفها فعلاً إنسانياً، لا خطراً يجب احتواؤه. تبدأ من تفكيك المفاهيم التي تُستخدم لتبرير القمع، كـ"الأمن"، و"الواقعية"، و"التهدئة"، وتُعيد تعريفها وفق منطق الحق، لا منطق القوة.

لكن اللغة وحدها لا تكفي. يجب أن تُرافقها رؤية سياسية تُعيد تعريف التمثيل بوصفه التزاماً أخلاقياً، لا حضوراً شكلياً. رؤية تُعيد بناء الدبلوماسية الفلسطينية بوصفها منصة نضال، لا جهاز علاقات عامة. رؤية تُدمج الفصائل، وتُفعّل منظمة التحرير، وتُعيد بناء التحالفات الدولية على أساس الحق، لا على أساس التوازنات.

كما يجب أن يُعاد الاعتبار للسرديات الشعبية والميدانية، التي تم تهميشها لصالح الخطاب الرسمي. سرديات الأسرى، والشهداء، والمُهجّرين، واللاجئين، والنساء، والشباب، والشتات. هذه السرديات هي التي تُشكّل جوهر القضية، وهي التي يجب أن تُعبّر عنها الدبلوماسية، لا أن تُخفيها خلف بيانات متوازنة.

إن استعادة الخطاب التحرري ليست مهمة لغوية، بل مشروع سياسي وأخلاقي. وهي مسؤولية جماعية، تبدأ من المثقفين، والباحثين، والكتّاب، وتمتد إلى المؤسسات، والوزارات، والمنصات الإعلامية. لأن القضية الفلسطينية لا تُهزم فقط في الميدان، بل تُهزم حين يُصبح خطابها الرسمي مرآة للهزيمة، لا أداة لتفكيكها.

نحن بحاجة إلى خطاب يُعبّر عن الإنسان الفلسطيني، لا عن مصالح السلطة. خطاب يُعيد بناء الذاكرة، ويُقاوم المحو، ويُعيد تعريف التمثيل بوصفه فعلاً تحررياً، لا إجراءً إدارياً. خطاب يُسمّي الأشياء بأسمائها، ويُعيد الاعتبار للحق، ويُقاوم التواطؤ الرمزي الذي يُعيد إنتاج الاحتلال بلغة ناعمة.

إنها دعوة لإعادة البناء. لا للعودة إلى الماضي، بل للانطلاق من الجرح نحو أفق جديد. أفق يُعيد تعريف فلسطين بوصفها قضية تحرر، لا ملفاً تفاوضياً. ويُعيد تعريف الفلسطيني بوصفه صاحب حق، لا طرفاً في معادلة أمنية. ويُعيد تعريف الخطاب الرسمي بوصفه صوتاً للناس، لا صدىً للواقع.