الأحد  26 تشرين الأول 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

تحليل الحدث | كيف فكّك ترمب الصراع في الشرق الأوسط؟

2025-10-25 07:44:09 AM
تحليل الحدث | كيف فكّك ترمب الصراع في الشرق الأوسط؟
ترمب يقف أمام لوحة لسلفه رونالد ريغان في البيت الأبيض، في 2 سبتمبر الماضي (رويترز)

تحليل الحدث

منذ عودته إلى البيت الأبيض، أتقن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب استخدام حزمة من التكتيكات النفسية في تعامله العلني مع ملف الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. هذه الاستراتيجيات الخطابية، التي تراوحت بين الهجوم الصريح وعدم اليقين المُربك، لم تستهدف فقط تغيير الأفعال، بل سعت إلى إعادة هندسة العقلية والحسابات الداخلية للأطراف المعنية، وتحديداً إسرائيل و"حماس". لقد أثبت الجمع بين التواصل الاستراتيجي والفطنة النفسية أنه عنصر أساسي في إرث ترمب السياسي، خاصة في الفترات الحرجة التي كان يسعى فيها إلى ترسيخ نفوذه وتبرير استحقاقه لجائزة نوبل للسلام، على الرغم من المخاطر الكبيرة التي تحيط بالملف.

الدبلوماسية تحت المجهر النفسي: الغموض كسلاح

في سياق الدبلوماسية، لا تهدف التكتيكات النفسية إلى استخدام القوة العلنية أو التدخل المباشر، بل تسعى للتأثير في الاستجابات العقلية للأطراف. وقد اعتمد ترمب وإدارته على أدوات مثل الغموض الاستراتيجي، وانتقاء التوقيت المناسب، والحوافز المشروطة، والإشارات التلاعبية لتحقيق الأهداف. بالنسبة لترمب، كان هذا يعني هندسة حالة من عدم اليقين المستمر، وتضخيم الغموض لضمان بقاء كل من الخصوم والشركاء في حالة تقييم مستمر لمواقفهم. هذه التكتيكات تتوافق مع نظريات الحرب النفسية التي تركز على السيطرة على السرد والتحكم في تدفق المعلومات، وإبراز الثقة المطلقة أو عدم القدرة على التنبؤ كوسيلة لتشكيل النتائج. في قضايا حساسة مثل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وموضوع ضم الضفة الغربية، أصبحت إدارة التوقعات بنفس أهمية القرارات السياسية الجوهرية. كما عكس اعتماد إدارة ترمب على هذه الأساليب استجابة للضغوط الفريدة في تلك اللحظات الحرجة، مع سعي الرئيس لتأكيد تأثيره.

وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو إلى جانب نتنياهو في خلال زيارته القدس، في 23 أكتوبر الحالي (رويترز)

براعة ترمب الخطابية: تبسيط المعقد وتأطير السرد

يتفق الخبراء والمحللون على أن ترمب يتمتع ببراعة في استخدام الأدوات النفسية، خصوصاً التكرار والخطاب المباشر وتأطير القضايا بطريقة تحقق أهدافه. كما أن تكرار ترمب لعبارات مثل "السلام الدائم" و"الأمن المشترك" يهدف إلى تهيئة الجمهور والمجتمع الدولي لقبول سردية مبنية على الاستقرار بدلاً من المواجهة.

هذا الأسلوب الخطابي الذي يجمع بين الرفض الحازم والدعوة إلى التفاوض يخلق انطباعاً بالقيادة الحاسمة، حتى عندما تكون السياسة متقلبة. فضلا عن أن اعتماد إدارة ترمب على الغموض والدعم المشروط جعل الأطراف "أكثر حذراً"، مما أجبرهم على تقييم التكاليف والفوائد المحتملة في بيئة سريعة التغير، وهو أمر حاسم لكسب الوقت وفتح مساحة للحوار، على الرغم من عدم قدرة هذه التكتيكات على حل المظالم الكامنة.

السفير الإسرائيلي السابق لدى واشنطن، مايكل أورين، أشار بدوره إلى الفروقات النفسية الدقيقة في نهج الإدارة الأمريكية، التي تستخدم كل أداة متاحة من عدم اليقين والحوافز وقوة الرأي العام لتشكيل النتائج دون مواجهة مباشرة.

تكتيكات "فن الصفقة" التفاوضية في الشرق الأوسط

بنى ترمب سمعته على كتابه "فن الصفقة" (The Art of the Deal)، وظل مقتنعاً بأن عالم الأعمال لا يختلف كثيراً عن عالم السياسة، فكلاهما يعتمد على طبائع البشر ويستهدف تحقيق المصالح والمكاسب. وقد تضمنت تكتيكاته النفسية تجاه إسرائيل و"حماس" مزيجاً من: المفاوضات الصارمة، المطالب المتطرفة، التحفيز الاقتصادي، عدم القدرة على التنبؤ، والنفوذ الإعلامي واستعراض القوة.

التطرف في المطالب: تكتيك "الباب في الوجه"

أحد أبرز تكتيكات ترمب هو التطرف في المطالب، بهدف إحداث الصدمة وخلق ضغط نفسي، حتى لو كان الطلب غير واقعي، وهو نهج يطلق عليه أيضاً تسمية "الباب في الوجه". استخدم الرئيس الأمريكي هذا الأسلوب مع غزة في فبراير الماضي حين قدم اقتراحاً استفزازياً يقتضي بالسيطرة الأمريكية على غزة وإعادة تطويرها، وطرح فكرة تهجير سكانها الفلسطينيين مؤقتاً لحين إعادة إعمار القطاع. على الرغم من الإدانة الواسعة لهذا العرض الغريب وغير العملي، فقد كان تكتيكاً تفاوضياً يقدم طلباً أولياً متطرفاً لجعل الطلبات اللاحقة الأكثر اعتدالاً تبدو أكثر منطقية ومقبولية، كما أظهر استعداداً لطرح أفكار جذرية علناً لخلق نفوذ أمريكي. وأسهم البعد النفسي لهذه الخطوة في إعادة صياغة الصراع وفقاً لشروطه وإبراز الهيمنة الأمريكية.

كما استخدم ترمب هذا الأسلوب كتهديد علني لبنيامين نتنياهو، خلال مفاوضات وقف إطلاق النار في أكتوبر الجاري، إذ كشف أمام الصحافيين قوله لرئيس الوزراء الإسرائيلي: "بيبي، لا يمكنك محاربة العالم". هذا التصريح استغل كل الدعم غير المسبوق الذي قدمه ترمب لإسرائيل خلال فترة رئاسته (بما في ذلك نقل السفارة الأميركية إلى القدس والاعتراف بالجولان) لـالضغط النفسي على نتنياهو لقبول اتفاق سلام.

سلاح عدم القدرة على التنبؤ

يُعد عدم القدرة على التنبؤ بخطوات ترمب من الأساليب النفسية المميزة له، بهدف إرباك الخصوم وإظهار القوة، واستخدم هذا التكتيك للإشارة إلى تحولات محتملة في السياسة الأميركية، مما جعل الشركاء والمنافسين أقل يقيناً في شأن الخطوة التالية للإدارة. اتخذ ذلك شكل تصريحات مزجت بين التحذيرات الواضحة والتهديدات المفتوحة، مما أعاق حصول الطرفين على مؤشر واضح حول نوايا الولايات المتحدة. لاحظ مستشار الأمن القومي الأميركي السابق إتش آر ماكماستر أن غياب الخطوط الحمراء الواضحة أنتج ضباباً نفسياً، وبالتالي لم يرغب أي من الجانبين في المخاطرة بتجاوزها.

الرئيس دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في عام 2017

ماذا عن رفض الضم العلني؟

أوضح إعلان ترمب الأخير أنه لن يسمح لإسرائيل بضم الضفة الغربية وأن حكومة نتنياهو ستخسر كل الدعم الأميركي إذا أقدمت على هذه الخطوة، التزامه بالوعود والتطمينات التي قدمها للدول العربية، على الرغم من تناقضه مع موقفه السابق، مما أثار إحباط بعض المسؤولين الإسرائيليين في اليمين المتطرف. من منظور نفسي، سعت هذه الخطوة إلى تأكيد سلطته، والإشارة إلى اعتبارات تضع الاستقرار الإقليمي والمصلحة الأميركية في أولوياتها، وتعطيل الحسابات السياسية لشركائه الإسرائيليين.

ويرى السفير الأميركي السابق لدى إسرائيل دانيال شابيرو أن رفض ترمب الضم علناً، يشير إلى استخدامه إشارات نفسية كي يطمئن الشركاء العرب المعتدلين من دون تنفير الدوائر الانتخابية واللوبي المؤيد لإسرائيل داخل الولايات المتحدة. كما استخدم نائبه جي دي فانس علناً الأسلوب ذاته بوصفه خطوة التصويت الأولي داخل الكنيست لضم أجزاء من الضفة الغربية بأنها "خطوة غبية"، مما يظهر استعداد الإدارة لاستغلال عدم اليقين لفرض السيطرة على العملية الدبلوماسية.

الدعم المشروط والحوافز الدبلوماسية

قدمت إدارة ترمب حوافز دبلوماسية جديدة، بما في ذلك وعد بتوسيع التعاون الاقتصادي ومبادرات أمنية مشتركة مع الدول العربية، لكنها ربطت ذلك بشكل مشروط. حرص المسؤولون الأميركيون على التواصل من خلال القنوات العامة والخاصة، للتأكيد بأن التقدم في مسار التطبيع والاستثمار يتوقف على وقف جهود الضم. هذا الطابع العلني زاد من تأثيره النفسي، إذ أدرك المسؤولون في إسرائيل أن الدعم الأميركي ليس أمراً مفروغاً منه، بل يخضع لمراجعة مستمرة. السفير الأميركي السابق لدى إسرائيل ديفيد فريدمان قال بأن الدعم المشروط بعث برسالة مفادها بأن "الدعم مشروط بالامتثال وضبط النفس". وكمثال آخر، أعرب ترمب علناً عن عدم ثقته في صمود اتفاق وقف إطلاق النار في غزة بعد إعلان المرحلة الأولى من الاتفاق، على الرغم من أن مبعوثه الخاص ساعد في التفاوض عليه، مبرراً ذلك بحالة من عدم التوازن تجعله الحكم النهائي في مصير الاتفاق.

استغلال الإعلام واستعراض القوة: "تأثير الخارج في الداخل"

غالباً ما تعطي استراتيجية ترمب الأولوية للمصالح الأميركية والنتائج الفورية على الدبلوماسية التقليدية أو المعايير الدولية. تدعى هذه الاستراتيجية "تأثير الخارج في الداخل"، التي ركزت أولاً على الاتفاقات مع دول عربية (الاتفاقات الإبراهيمية) في عام 2020 دون إعطاء الأولوية لاتفاق سلام مع الفلسطينيين، مفضلة الاتفاقات البراغماتية القائمة على المعاملات.

 كما يستغل ترمب كثيراً التصريحات العامة ووسائل التواصل الاجتماعي لتأطير الروايات وممارسة الضغط، وغالباً ما يركز على ما يعتبره فوزاً، فخلال وقف إطلاق نار هش هذا الشهر في غزة، عمل فريقه على إدارة الانطباع العام عن الاتفاق، مروجاً رواية مفادها بأن تقدماً كبيراً قد أحرز، ساعياً إلى إبراز صورة الفوز وترسيخ سمعته كصانع صفقات بارع.

في الوقت ذاته، استخدم ترمب وسائل التواصل الاجتماعي لتحذير "حماس" من أنه إذا استمرت في قتل الناس في غزة، "لن يكون أمامنا خيار سوى التدخل وقتلهم"، وكان هذا التهديد العلني جزءاً من نمط أوسع نطاقاً لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي لتأطير الروايات وإظهار القوة وممارسة الضغط.

يتضمن نهج ترمب إبراز صورة القوة والعزيمة الأميركية، بهدف نفسي يتمثل في ترهيب الخصوم وطمأنة الحلفاء

ويتضمن نهج ترمب إبراز صورة القوة والعزيمة الأميركية، بهدف نفسي يتمثل في ترهيب الخصوم وطمأنة الحلفاء، وهو ما تجلى في إظهار دعم قوي لإسرائيل، يهدف من وجهة نظر نفسية، إلى بناء الثقة مع هذا الحليف وإظهار العزيمة في وجه الخصوم. على سبيل المثال، أنهى ترمب الحظر الذي فرضته إدارة الرئيس السابق جو بايدن على توريد قنابل وزنها 900 رطل إلى إسرائيل، مما أظهر دعماً قوياً لإسرائيل وأبرز شعوراً بالقوة الأميركية الراسخة والدعم لحليف. ومع ذلك لم يمنع هذا التحالف القوي الإدارة الأميركية من تحدي إسرائيل علناً، حيث أظهر الإنذار الذي وجهه ترمب لنتنياهو خلال مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة استعداداً لمواجهة علنية حتى مع أقرب الحلفاء لإظهار قوته ونفوذه.

كما ويتضمن أحد العناصر الأساسية لأسلوب ترمب التفاوضي تشكيل البيئة قبل بدء المفاوضات الرسمية للحد من خيارات الاعتراض والرفض. ويشمل ذلك خلق وضع مليء بالضغوط، وهو نهج يتضمن استخدام الخطاب العام، أو اتخاذ إجراءات تهديدية، أو إجراءات أحادية الجانب لخلق حالة يشعر فيها الطرف الآخر بأنه مجبر على تقديم تنازلات. ومن خلال إصدار تصريحات وتهديدات علنية، يجبر الطرف الآخر على اتخاذ موقف دفاعي، إذ تقتصر خياراته على التنازل أو التصعيد، بدلاً من المساومة من موقع قوة.

أخطار التكتيكات النفسية

مع ذلك، لا تخل التكتيكات النفسية من أخطار ترافقها. فرغم أن أساليب ترمب النفسية فعالة، لكنها تفاقم الاستقطاب أيضاً، إذ يتمثل التحدي الذي يواجه القادة الآخرين في مواكبة قدرته على جذب الانتباه وتوجيه النقاش. وعلق السيناتور الأميركي السابق جيف فليك قائلاً "إن أسلوب ترمب سلاح ذو حدين، فهو يبسط الخيارات أمام الجمهور، لكنه يخاطر بتهميش الفروق الدقيقة، على رغم كونه أسلوباً فعالاً في حشد الدعم وإعادة توجيه الحوار". كما أن إتقان ترمب لوسائل التواصل الاجتماعي يسمح له بتضخيم الإشارات النفسية، فمنشوراته تثير ردود فعل عاطفية سريعة، وهو ما تعجز الدبلوماسية التقليدية غالباً عن مواكبته.