الحدث الإسرائيلي
قال أستاذ الدراسات الشرق أوسطية في الجامعة العبرية بالقدس إيلي فودة إنّ الباحثين والإعلاميين يميلون دومًا إلى استخدام تعبير “الشرق الأوسط الجديد” كلّما شهدت المنطقة أحداثًا كبرى مثل الحروب أو الثورات أو اتفاقات السلام. غير أنّ ما جرى في السابع من أكتوبر 2023، وما تبعه من حرب شاملة، أفضى إلى تغيّرات دراماتيكية من دون أن يحلّ المعضلات التاريخية، بل إنّ بعضها ازداد تعقيدًا. فإسرائيل اليوم تجد نفسها في بيئة متحوّلة باستمرار من حيث طبيعة الحروب، وتبدّل الأنظمة، وتغيّر التحالفات الإقليمية. ويمكن رصد ثمانية تحولات مركزية في النظام الشرق أوسطي منذ تلك اللحظة المفصلية.
وبحسبه، ما تزال بؤر الصراع الرئيسية في المنطقة هي غزة وسوريا ولبنان، وكلّها تفجّرت من جديد بفعل تداعيات 7 أكتوبر بشكل مباشر أو غير مباشر. هذه الجبهات ليست جديدة بطبيعتها، لكنها أصبحت اليوم ساحةً لتقاطع المصالح الإقليمية والدولية، وتعبيرًا عن تنافس القوى التي تسعى لترسيخ نفوذها أو ضمان موقع مميز لدى الولايات المتحدة.
ويرى أن الانقسام الكلاسيكي بين ما يسمى “محور المقاومة” بقيادة إيران، ومحور “الدول المعتدلة” الذي يضم إسرائيل ودول “اتفاقات أبراهام” ومصر والأردن والسعودية، لم يعد يعكس الواقع القائم. فإيران وحلفاؤها تلقّوا ضربات أضعفتهم، بينما تقدّمت تركيا وقطر لملء الفراغ عبر تعزيز نفوذهما في سوريا وقطاع غزة. ورغم التوترات مع بعض الدول العربية ووقف التبادل التجاري مع أنقرة، ظلّ التنسيق الأمني الإسرائيلي–العربي قائمًا في الخفاء، لتعود إسرائيل إلى وضع “العشيقة السياسية” الذي عانت منه في العقود الماضية.
واعتبر أن الحرب أعادت تسريع تفكك نظام الأسد وخروج سوريا فعليًا من تحالف “محور المقاومة”. فالعلاقة بين دمشق وطهران لم تكن عضوية يومًا، بل كانت قائمة على مصالح مؤقتة منذ حرب إيران–العراق. ومع تهاوي النظام، انهار الأساس المشترك. وهكذا عادت سوريا إلى دورها التقليدي كساحة تنافس بين القوى الإقليمية، بل إنّ محاولات نظام الأسد الانفتاح على إسرائيل ليست جديدة، إذ سبقه والده إلى اتفاق فصل القوات عام 1974 ومفاوضات التسعينيات.
ووفقا له، شهد التاريخ الحديث قادة عربًا سعوا لقيادة المنطقة مثل عبد الناصر وصدام والأسد والقذافي، ثم ورثت إيران هذا الطموح، لكنها فشلت في تحقيقه. بعد السابع من أكتوبر، برزت فرصة لكلّ من تركيا وقطر ومصر لتعزيز مكانتها. قطر رسخت التزام واشنطن الدفاعي تجاهها لكنها كشفت أيضًا ضعفها العسكري، ومصر رغم ثقلها التاريخي ودورها في غزة، تعيقها أزماتها الاقتصادية والديموغرافية. أما تركيا، فحاولت استثمار الظرف لإحياء مشروع “النيْو عثمانية” عبر التمدد في سوريا وغزة وليبيا، إلا أن الذاكرة التاريخية والخلافات العربية تحدّ من طموحاتها. والسعودية، بفضل حجمها الاقتصادي، تظلّ مرشحة للعب دور قيادي متجدد.
ويرى أستاذ الدراسات الشرق أوسطية أن عملية حماس في السابع من أكتوبر أعادت الاعتبار للقضية الفلسطينية بعد أن حاولت “اتفاقات أبراهام” تجاوزها. اليوم، ومع اعتراف 157 دولة بدولة فلسطين، بات من الصعب إعادة “الجنّ الفلسطيني إلى القمقم”، إذ أصبحت المسألة محورًا أساسيًا في كلّ نقاش إقليمي أو دولي حول مستقبل الشرق الأوسط.
وقال إنه منذ نشوء الحركة الوطنية الفلسطينية، رافقتها الانقسامات بين العائلات والنخب خلال الانتداب البريطاني، ثم بين فصائل منظمة التحرير وحركة حماس لاحقًا. واليوم لا تزال الفجوة قائمة، إذ ترى حماس نفسها مؤهلة لقيادة الشعب الفلسطيني إلى الاستقلال، إلى جانب السلطة الفلسطينية أو بدلًا عنها. طالما لم يتحقق حدّ أدنى من الوحدة أو التنسيق الداخلي، فسيظلّ المشروع الوطني الفلسطيني عرضة للفشل.
وتابع أنه رغم وعود ترامب السابقة بالانسحاب من الشرق الأوسط، فإنّ انخراطه بعد الحرب تعمّق أكثر، متبنّيًا دور “الوسيط العالمي للسلام”. وهذا الانخراط عزّز من مكانة حلفائه، خصوصًا السعودية وقطر وتركيا. غير أنّ هذا التموضع يثير حذر إسرائيل ومصر وبعض دول الخليج التي لا تنظر بعين الرضا إلى علاقة واشنطن المتنامية مع أنقرة والدوحة.
ويجادل بأن إسرائيل عزّزت من ردعها العسكري بعد الحرب، لكنها في المقابل زادت من مخاوف دول المنطقة من تفوقها المفرط. ومن المحتمل أن يدفع ذلك بعض الدول إلى تعزيز تحالفها مع واشنطن أو تطوير علاقاتها الإقليمية لتوازن النفوذ الإسرائيلي. في المقابل، ستبقى التكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية مطلوبة في العالم العربي، لكن الحاجة إلى إسرائيل كوسيط مع اللوبي اليهودي الأميركي قد تتراجع إذا توطدت العلاقات الثنائية بين واشنطن ودول المنطقة. داخليًا، تعمقت الانقسامات السياسية والاجتماعية في إسرائيل على خلفية قانون التجنيد، والمطالبة بلجنة تحقيق رسمية، ومحاكمة نتنياهو، واقتراب الانتخابات.
وفي الخلاصة، يرى الباحث أنّ الشرق الأوسط بعد الحرب ليس “جديدًا” بالمعنى الحقيقي، لأنّ أمراضه القديمة ما زالت قائمة، لكنه أيضًا ليس “قديمًا”، إذ تشكلت فيه ديناميات جديدة تفتح الباب أمام ولادة نظام مغاير. ومع ذلك، فإنّ تحقيق شرق أوسط مختلف حقًا يظلّ مرهونًا بمعالجة تلك المعضلات المزمنة التي أثبتت عقودٌ طويلة صعوبة تجاوزها.