الحدث الإسرائيلي
قدّم عاموس يدلين، الرئيس الأسبق لشعبة الاستخبارات العسكرية في جيش الاحتلال وأحد أبرز الباحثين في قضايا الأمن الإقليمي، قراءة نقدية لسلوك إسرائيل في الساحة السورية، في وقت تجد فيه نفسها محاطة بسبع جبهات مفتوحة في آن واحد: غزة ولبنان وإيران والعراق واليمن والضفة الغربية وسورية. وبرأي يدلين، فإن التناقض بين سياسات تل أبيب على الجبهة السورية وبين المسار السياسي الذي يعمل الرئيس الأميركي دونالد ترامب على بنائه مع دول الشرق الأوسط المعتدلة، يضع إسرائيل أمام مخاطر استراتيجية كبرى، ويبدد فرصة حقيقية لإغلاق إحدى الساحات الأكثر حساسية.
وبحسب يدلين، فقد حملت زيارة نتنياهو الأخيرة لمنطقة الفصل في الجولان، بمشاركة كبار قادة الأجهزة الأمنية، رسالة واضحة بتجميد الجهود الأميركية الهادفة إلى بلورة اتفاق بين سورية وإسرائيل، وهو اتفاق كان من المفترض أن يُستكمل خلال اجتماعات الأمم المتحدة في سبتمبر.
ويشير إلى أن التعثر نابع من إصرار تل أبيب على “ممر إنساني” للدروز داخل الأراضي السيادية السورية، وهو مطلب رفضته دمشق. وفي الوقت الذي حظي فيه الرئيس السوري أحمد الشرع باستقبال رسمي في البيت الأبيض، تصرّ إسرائيل على تنفيذ عمليات عسكرية داخل سورية، كما جرى في بيت جن حين أصيب ستة جنود إسرائيليين، ما دفع ترامب إلى توجيه رسالة توبيخ طالب فيها نتنياهو بالعودة إلى المسار السياسي. ويرى يدلين أن استمرار الوجود العسكري الإسرائيلي في الجولان السوري وفي محيط جبل الشيخ لا يلبّي حاجة دفاعية ملحّة، بل يثقل على الوحدات العاملة والاحتياط، ويعزز الصورة المنطبعة في الإقليم عن إسرائيل بوصفها قوة تسعى إلى التوسع.
ويذكّر بأن ترتيبات فك الاشتباك التي صاغها هنري كيسنجر عام 1974 خدمت إسرائيل طوال خمسة عقود، ومنحتها تفوقًا طوبوغرافيًا وناريًا كافياً لحماية المستوطنات ومنع أي تهديد عبر الحدود، وهو ما يجعل إعادة تثبيت تلك الترتيبات عبر اتفاق جديد خيارًا أكثر حكمة من الانخراط في ملاحقات داخل الأراضي السورية. ويعتقد يدلين أن نظام الشرع مستعد للحد من دخول قوات وأسلحة ثقيلة إلى جنوب سورية، والعمل ضد المجموعات المسلحة التي قد تهدد إسرائيل، ما يوفر على الجيش الإسرائيلي عبئًا كبيرًا ويقلل من الحاجة إلى عمليات عابرة للحدود. وفي المقابل، يمنح الاتفاق إسرائيل قدرة على اختبار التزام النظام السوري بمنع أي نشاط عدائي، وحماية الأقليات، ولا سيما الدروز، من دون الحاجة إلى وجود عسكري إسرائيلي مباشر.
ومن منظور استراتيجي أوسع، يوضح يدلين أن إغلاق الجبهة السورية عبر اتفاق مستقر يخفف الضغط عن جيش الاحتياط المنتشر في ساحات أكثر سخونة، وعلى رأسها غزة وإيران، كما يتيح لإسرائيل إعادة تركيز جهودها على مواجهة تنامي قوة حزب الله في لبنان.
ويرى أن الاتفاق يمكن أن يشكّل أساسًا لتحرك دولي يمارس ضغطًا على سورية ولبنان لترسيم الحدود بينهما واستعادة مزارع شبعا للسيادة السورية، الأمر الذي يسحب الذريعة المفتاحية التي يستخدمها حزب الله للإبقاء على سلاحه.
ويضيف يدلين أن الاتفاق سيساعد أيضًا في منع إعادة تمركز إيران في سورية، وفي إغلاق خطوط الإمداد نحو حزب الله، وهي مهام تعمل دمشق على تنفيذها بالفعل.
لكنه يحذر من أن استمرار المواجهة بين إسرائيل وسورية قد يؤدي إلى تآكل التزام النظام السوري بتلك الخطوات، ويفتح الباب لعودة النفوذ الإيراني، وهو سيناريو يرى أنه يتعارض جذريًا مع مصلحة إسرائيل. وفي قراءته للبعد الإقليمي، يشير يدلين إلى أن شريحة واسعة من الرأي العام العربي، وحتى داخل الولايات المتحدة، ما تزال تنظر إلى إسرائيل كقوة توسعية تسعى لفرض أمر واقع عسكري.
ويرى أن الانسحاب من سورية ضمن اتفاق أمني واضح يمكن أن يخفف هذه الصورة، ويعزز الانطباع بأن إسرائيل تسعى لاستقرار إقليمي لا لتغيير الحدود بالقوة. كما يمنح الاتفاق دفعة لجهود ترامب الرامية إلى توسيع مسار التطبيع في المنطقة.
ويخلص يدلين إلى أن الاتفاق مع سورية يمثل “فرصة منخفضة التكلفة عالية المكاسب”، وأن الإصرار على ملاحقة المسلحين داخل الأراضي السورية يقود إسرائيل إلى معادلة خاسرة بلا أفق، بدلًا من مسار تفاوضي يمكن أن يعزز أمنها الإقليمي ويمنحها شرعية أوسع في حال اضطرت لاحقًا للعودة إلى العمل العسكري داخل سورية.
