الثلاثاء  30 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

ما وراء الحجاب- بيار أبي صعب

2015-12-01 09:47:20 AM
ما وراء الحجاب- بيار أبي صعب
 
بيار أبي صعب

أقرب إلى عائشة التيموريّة وزينب فوّاز وهدى الشعراوي، منها إلى نوال السعداوي. هكذا دعتنا فاطمة المرنيسي في كل مناسبة أن ننظر في اتجاه آخر، غير ذاك المتعارف عليه، لدى الحديث عن خياراتها النسَويّة، ولدى مناقشة النسوية العربية في مواجهة التحديات الفكرية وضرورة التجدد واعادات النظر، وتفادي «العقم».

 

تلك المرأة الضخمة، الفارعة الطول، الجذلة، الساخرة، نسخة معاصرة من «الكاهنة» بعباءاتها الهادلة، «سلطانة» الجسد والحواس والعقل، عرّافة الناس الذين في أسفل الهرم. «مغربها» مغرب الناس العاديين المستغلين، والنساء اللواتي منحتهن حق التعبير («المغرب عبر نسائه»). ابنة العائلة المتديّنة، والبورجوازية الفاسية التي بدأت رحلتها العلميّة من مدارس «الحركة الوطنيّة» المغربيّة، خارج وصاية الاستعمار الفرنسي، العاشقة على طريقة ابن حزم الأندلسي، وريثة قاسم أمين، شريكة محمد أركون ومحمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد وسائر العقلانيين العرب. هناك كانت تحبّ أن تكون، وهنا يجب أن نضعها اليوم باعتزاز… كلا لم تكن يوماً في حرب جنسيّة أو جندريّة، ولم تصوب سهامها ضد الرجل، لم تقارعه بحقد دونيّ، ولم تحاول تقليده ومسخه وسرقة جذوة النار المقدسة من يده… عالمة الاجتماع والكاتبة المغربيّة التي رحلت بالأمس في الرباط عن 75 عاماً، على فرادتها وتمايزها في الثقافة المغاربية والعربيّة المعاصرة، كانت منذ دراستها الأولى «ما وراء الحجاب» (1975)، في حرب على المنظومة السلطويّة، وآلة الاستغلال الماكرة التي تسحق الضعفاء، وتستغلهم، وتنفي عنهم انسانتيهم وحقوقهم وهويّتهم وكرامتهم وحقّهم في الاختيار. فعلت ذلك انطلاقاً من الحلقة الأضعف في النمط الاجتماعي… أي المرأة. كلا لم تقع صاحبة «الحريم السياسي» يوماً في المطبّ الاستشراقي الذي ما زال حتّى اليوم يفخّخ الجزء الرسمي والمكرّس والمرحّب به في الغرب، من الخطاب الفكري «التقدمي» المهيمن عندنا.

 

ذاك الفكر، من شروطه كره الذات، رفض الحضارة العربيّة - الاسلاميّة جملة وتفصيلاً، واعتبار الدين الاسلامي أصل البلاء، والعلّة العميقة التي تعيق التقدّم، وتحدد شروط استعباد المرأة واستلابها… مشروع المرنيسي الفكري والاجتماعي، مشروع أركيولوجي قام على الانتماء إلى التربة الأصليّة، على الحفر في التراث الفكري والديني الاسلامي، لحصر العيوب ونقاط الضعف والعوائق، مع التأكيد على الصورة الايجابية للمرأة وحقوقها وموقعها في سلوك المؤسسين وقياساً إلى النص المرجعي. هذه الصورة التي صودرت من التاريخ الرسمي (الذكوري)، وتلك الحقوق التي طمستها السلطة الاجتماعية والسياسية، اشتغلت المرنيسي على استعادتها من خلال فضح الآليات السلطوية. لم تتردد هذه المناضلة النسوية المغايرة أمام المحظورات، ولم تخف كشف المسكوت عنه، وتناول «المحرّم»، وتحدي النظام البطريركي. قامت كل تجربتها على فكرة تجاوز الحدود: حدود الحريم الذي عرفته صغيرة وخصصت له رواية أوتوبيوغرافيّة بعنوان «أحلام النساء - طفولة في الحريم» والحدود التي تضعها السلطة المهيمنة لمحاصرة الفكر النقدي. هكذا درست «الحب في بلاد المسلمين»، و«الجنس والأيديولوجيا والإسلام»، و«الاسلام والحداثة: الخوف من الديمقراطيّة»، «شهرزاد ليست مغربية» واعادت الاعتبار إلى «السلطانات المنسيات» في تاريخنا العربي - الاسلامي. حين مُنعت كتبها في المغرب، نشرتها بلغات أخرى في عواصم «الاستعمار» القديم، لكنّها لم تمالئ الغرب ولم تنظر إليه بدونيّة، بل انتهرته: «هل أنتم محصّنون ضدّ الحريم؟». مؤلفاتها حلقات في مشروع تمرّد من داخل الواقع المغربي والعربي والاسلامي، وتجاوز لتلك الحدود القسرية التي يفرضها عالم الحريم، وبنيته الذهنيّة. لنقل «ذهنيّة الحريم»، وهو مصطلح غير بعيد عن «ذهنيّة التحريم» التي فككها صادق جلال العظم بعد محنة «الآيات الشيطانيّة».


بلى، «شهرزاد مغربيّة»، إنها فاطمة المرنيسي. مؤسسة النسَويّة الأخرى، والمثقفة العضويّة التي انتمت إلى أبناء الشعب، وأسست «القوافل المدنيّة». عالمة الاجتماع التي حازت «جائزة إراسموس» الهولندية (2004، مثالثة مع صادق جلال العظم وعبد الكريم سوروش، وكان محور الجائزة عامذاك «الدين والحداثة»)، تركت التعليم منذ عقد لتتفرّغ لحياتها مع الناس، وهي الوجه الفعلي لحياتها، كما لأبحاثها. سلطانة لن ننساها، علّمتنا أن نمعن النظر دائماً «ما وراء الحجاب».