الخميس  25 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

دراسة لـ"كارنيغي"| فلسطين تتلوّى: من البحث عن دولة إلى البحث عن تكتيكات

2016-02-13 11:38:37 AM
دراسة لـ
فتاة فلسطينية ترسم ألوان العلم على وجهها (AP)

الحدث- واشنطن

نشرت مؤسسة كارنيغي البحثية، دراسة لناثان براون ودانيال نيرينبرغ، حول الأوضاع في فلسطين.

 

نص الدراسة

 

فقدت المؤسّسات والقيادات الفلسطينية الرسمية شرعيّتها الأخلاقية في نظر الشعب الفلسطيني الذي يعتبرها غير فعالة أو حتى مستلحقة من قبل إسرائيل. واليوم ثمّة جيل جديد من ناشطي القاعدة الشعبية، يحوّل التركيز من الهدف المتمثّل في إقامة الدولة الفلسطينية إلى السعي وراء تكتيكات جديدة لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي. لكي تتمكّن من تحسين حياة الفلسطينيين، تحتاج هذه الطليعة الأخلاقية الجديدة إلى تغيير وإحياء المؤسّسات الفلسطينية القائمة أو تأسيس مؤسسّات جديدة.

 

تكتيكات متغيّرة وأهداف ملتبسة

 

على عكس السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، لم تعد المؤسّسات الفلسطينية القائمة والحركة الوطنية الفلسطينية الشعبية تسعى إلى تحقيق الهدف الاستراتيجي المتمثّل في إقامة دولة فلسطينية. فهي تميل إلى تأجيل الأسئلة الخاصة بالأهداف، لصالح التركيز على التكتيكات التي من شأنها تحسين الموقف الفلسطيني.


يركّز الناشطون الجدد بصورة خاصة على مروحة من التكتيكات الحقوقية التي تهدف إلى تقويض الاحتلال الإسرائيلي متجنّبين السياسة الرسمية والمؤسّسية.


يعكف هؤلاء الناشطون على وضع معايير جديدة للمقاومة، مثل مقاطعة المنتجات الإسرائيلية. ويتعيّن على قادة الحرس القديم الالتزام بهذه المعايير من أجل الحفاظ على الصدقيّة مع الجمهور.


سوف يحتاج الفلسطينيون إلى المجال والدعم اللازمين لإعادة بناء مؤسّساتهم التي تم إفراغها من محتواها، كي يتمكنوا من تجنّب العنف الفوضوي الذي طال أمده، ومن صياغة توافق جديد على الأهداف.


تبدو قدرة الأطراف الدولية الفاعلة محدودة بشأن ما يمكنها فعله، بيد أن في وسعها تقديم يد العون والمساعدة في عملية بناء المؤسّسات الفلسطينية.

 

توصيات إلى المجتمع الدولي

 

اعترفوا بالحقائق القائمة على الأرض. هناك تفسّخ وفساد مؤسّسي عميق داخل المؤسّسات الفلسطينية القائمة، وقيادة سياسية إسرائيلية لم تعد تلتزم بثبات بحلّ الدولتين. كما أن ثمة خيبة أمل من الجهود الدبلوماسية في صفوف الإسرائيليين والفلسطينيين على حدٍّ سواء.

 

خذوا المؤسّسات الفلسطينية على محمل الجدّ. تعاملوا مع المؤسّسات الفلسطينية باعتبارها أكثر من مجرّد هيئات إدارية تكنوقراطية، وشجّعوا اتصالاتها مع الدوائر والمنظمات الشعبية.

 

تسامَحوا مع إحياء أي مؤسّسات وطنية، مثل المجلس الوطني الفلسطيني، يمكنها التحدّث باسم جميع الفلسطينيين. يجب إعادة بناء هذه المؤسّسات بطريقة تعتمد إلى حدٍّ بعيد على المجتمع الفلسطيني، وتجنّب جعلها مجرّد أدوات لقيادات وحركات دخلت مرحلة الشيخوخة، أو تقسيمها بين الفصائل القائمة.

 

اضغطوا من أجل إجراء انتخابات جديدة. اضغطوا على القيادة الفلسطينية لإجراء انتخابات وطنية ومحليّة شاملة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكذلك لإجراء انتخابات تنافسية للنقابات والجمعيات المهنية واتحاد الطلاب. ذلك أن تمثيل أصوات جديدة ومتنوّعة، يمكن أن يدعم إحياء المؤسّسات الفلسطينية، ويساعد الفلسطينيين على صياغة إجماع جديد حول الأهداف الاستراتيجية.

 

مقدّمة
السياسة الفلسطينية تتغيّر بصورة جوهرية

 

شهد النصف الثاني من العام 2015 اندلاع أعمال عنف غير منسّقة في الضفة الغربية والقدس. وتأتي هذه الموجة من العنف وسط إقرار جماعي تقريباً بأن العملية التي كان يُطلق عليها اسم "عملية السلام"، منذ أن بدأت بين الإسرائيليين والفلسطينيين في تسعينيات القرن الماضي، قد أخذت مجراها بعيداً عن التوصّل إلى حلّ الدولتين. فقد أدّت أعمال العنف وانتهاء الجهود الدبلوماسية إلى مأزق دولي، حيث أصبحت سلّة الأدوات الدولية الخاصة بالتعاطي مع الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين فارغة تقريباً. بيد أن القضية لاتزال تفرض نفسها على الأجندة الإقليمية المزدحمة، حيث سيتم الضغط على القادة الإسرائيليين والفلسطينيين للعمل على تهدئة الرأي العام واتّخاذ خطوات ملطّفة. وبما أن الفلسطينيين يظهرون علامات متزايدة على مزاج يائس، فقد تحوّل التركيز الدولي إلى استطلاع احتمالات اندلاع انتفاضة جديدة.

 

بيد أن هناك اتجاهين آخرين أقلّ وضوحاً لكنهما أكثر عمقاً قيد العمل، قد يجعلان الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين يتّخذ أشكالاً جديدة وأقلّ قابلية للتطويع. يتمثّل الاتجاه الأول في أن المؤسّسات التي ظهرت على مدى عقود للتحدّث بالنيابة عن الفلسطينيين وقيادتهم، فقدت حججها الأخلاقية في عيون شعبها. ويُنظر إليها على أنها غير فعّالة، لابل استلحاقيّة لصالح إسرائيل. وفي حين لاتزال تشغل مواقع السلطة، إلا أنها لم تعد قادرة على القيادة. وتحلّ قيادة أخلاقية جديدة محلّ الحرس القديم، وهي لاترتبط بالسياسة المؤسّسية، وتركّز على مجموعة من التكتيكات لتقويض الاحتلال، كما تأخذ في عين الاعتبار تحقيق أهداف محتملة جديدة – قد تكون غير وارد تماماً الآن - للسياسة الفلسطينية.

 

يتمثّل الاتجاه الثاني في تطوّر استثنائي آخر، حيث أن مبرّر وجود الحركة الوطنية الفلسطينية والجهود المبذولة لبناء دولة فلسطينية، لم يعد له سطوة. فثمّة نقاشٌ يدور بين الفلسطينيين حول الأهداف والاستراتيجية النهائية، بعد أن فقد حلّ الدولتين والدبلوماسية أهميتهما. لكن ليس هناك شيء آخر يحلّ محلّهما بصورة واضحة. ثمّة شيء من الاهتمام المتزايد ببدائل مختلفة لحلّ الدولة الواحدة، تجمع الإسرائيليين والفلسطينيين بطريقة أو بأخرى. بيد أن الأمر الأكثر أهمية هو وجود ميل إلى تأجيل المسائل الخاصة بالحلول لصالح وضع تكتيكات يمكنها أن تُحسّن الموقف الفلسطيني، من قبيل أشكال جديدة من المقاومة والمقاطعة. فهناك جيلٌ جديد من الفلسطينيين لاتُجزعه ذكريات محن الانتفاضة الأخيرة، ويتقدّم قدماً إلى الأمام. هذا الجيل له بالفعل تأثيرات سياسية عميقة، لكن يبدو أنه غير مهتم أو غير قادر، على الأقلّ حتى الآن، على قيادة الفلسطينيين نحو أي هدف استراتيجي.

 

اتجاهات لاتحظى بالتقدير

 

على مدى القرن الماضي، تمكّن الفلسطينيون من تأسيس حركة وطنية حقّقت بعض النجاحات في ظروف بالغة الصعوبة. إذ قامت الحركة ببناء المؤسّسات وغرس شعور قوي بالهوية الفلسطينية، ونجحت في الحصول على مستويات هامّة على صعيد الاعتراف الدولي. وهي فعلت ذلك من دون أن تمتلك العنصر الحاسم المتمثّل في القوة التي قادت الكثير من الجهود في أماكن أخرى لإعطاء الهوية الوطنية المظهرَ السياسي المناسب: الدولة. وهذا هو بالضبط سبب الأزمة التي تعانيها الحركة الوطنية الفلسطينية. إذ يبدو أن جهودها الرامية إلى إنجاز مشروع الدولة وصلت إلى طريق مسدود في أحسن الأحوال، وربما توقّفت تماماً.

 

منذ اثنين وعشرين عاماً، شرع الفلسطينيون بعقد سلسلة من الاتفاقيات مع إسرائيل (اتفاقات أوسلو)، كانت القيادة تأمل في أن تؤدّي إلى إقامة دولة فلسطينية وتحقيق الأهداف الوطنية الفلسطينية بالتدريج. وتحت رعاية منظمة التحرير الفلسطينية، ثم - بعد توقيع اتفاقات أوسلو - السلطة الفلسطينية، حوّل القادة الفلسطينيون الحركة الوطنية إلى جهاز بيروقراطي ينطوي على العديد من مظاهر الدولة، على حساب التخلّي عن أي شكل فعّال من المقاومة الوطنية. لكن مع احتضار عملية السلام التي تم إنشاء السلطة الفلسطينية للتفاوض بشأنها، تُرِكَت القيادة الرسمية من دون خيارات أخرى لتحقيق هدف إقامة الدولة.

 

الفلسطينيون الذين يعترفون بهذه الحقيقة على مضض، يتجادلون حول مايتعيّن القيام به تالياً. غير أنهم يفعلون ذلك بطرق لاتمتّ بصلة إلى المؤسّسات شبه الدولتية التي تمكّنوا من بنائها. وهذا، جزئيّاً، يجعل من الصعب على الأطراف الخارجية الاستماع إلى هذه الحجج، ولا يسهّل ترجمتها إلى مبادرات سياسية فلسطينية. والنتيجة المترتّبة على ذلك لاتقتصر على عرقلة الجهود الدبلوماسية الحالية لحلّ الصراع مع إسرائيل على أساس اتفاقيات أوسلو وحسب، بل تصل أيضاً إلى حدّ تقويض جدوى المؤسّسات الفلسطينية ونسف كل ماتبقّى من إيجابيات وإنجازات للجهود الدولية السابقة. لم تعد المؤسّسات التي بنتها الأجيال السابقة من الفلسطينيين، وهي المنقسمة بشدّة بين فتح وحماس وبين الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة، تحتفظ بسلطة أخلاقية يُعتدّ بها.

 

معظم الاهتمام الدولي الذي حظيت به مسألة الأهداف الوطنية الفلسطينية طُرح بتعابير تفهمها الدبلوماسية الدولية.

 

تتم صياغة العديد من التحليلات الخاصة بالصراع الإسرائيلي-الفلسطيني بتعابير دبلوماسية دولية، وتمرّ مرور الكرام على الكيفية التي يناقش بها الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة محنتهم. فقد أظهرت دراسات لوسائل الإعلام المطبوعة والاجتماعية وأحاديث شخصية مع فلسطينيين من كل أنحاء الطيف السياسي، أن تحوّلاً جوهرياً طرأ على المناقشات الفلسطينية، بعيداً عن الأهداف النهائية ونحو الإمكانيات الحالية. ولايقتصر التحوّل على مجال المناقشات؛ بل يؤثّر بعمق على قدرة المؤسّسات على القيادة. والواقع أن هذه المناقشات غالباً ما تجري خارج الهياكل السياسية القديمة، وتترك لمن يترأسون الهياكل الرسمية بعض السلطة على أساس يومي، لكن مع القليل من المصداقية، لكي يحكموا على المستوى المحلّي ويتخبّطوا على المستوى الدولي. يتقدّم روّاد الرأي الجدد إلى الأمام، إلا أنهم يتجنّبون السياسة المنظّمة، ومن المستبعد أن يوفّروا نواة لقيادة جديدة. ويبدو أن الأهداف والتكتيكات تتطوّر من دون إنتاج هياكل واضحة يمكن أن تتحدّث بصورة رسمية باسم الفلسطينيين.

 

حظيت مسألة الأهداف الوطنية الفلسطينية بالكثير من الاهتمام الدولي، لكن معظم الاهتمام طُرح بتعابير تفهمها الدبلوماسية الدولية: هل يريد الفلسطينيون حلّ دولتين من شأنه أن يمنحهم دولة وطنية معترفاً بها دولياً، وتقاسم فلسطين التاريخية مع إسرائيل، بحيث يتم ضم الضفة الغربية وأجزاء من القدس الشرقية وغزة لتشكيل دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل ضمن حدود العام 1967؟ أم أنهم انتقلوا إلى تبنّي حل الدولة الواحدة الذي من شأنه أن يضم الإسرائيليين والفلسطينيين في كيان سياسي واحد؟ مايغفله هذا التحليل هو التحوّل في تركيز المناقشات الفلسطينية. أما بشأن المسائل المتعلقة بالأهداف وحتى الاستراتيجيات الوطنية، فهناك بعض التحرّك بعيداً عن حلّ الدولتين الذي كان سائداً خلال مرحلة أوسلو، لكنه أقل وضوحاً مما هو مفهوم عموماً. ذلك أن حدوث تغيير أعمق يشكّل ابتعاداً عن التركيز على الأهداف والاستراتيجيات. إذ لم تركّز معظم المناقشات النشطة والحيّة في العام 2015 على مسائل الأهداف أو الاستراتيجية الوطنية العليا، على الرغم من أن مثل هذه المناقشات لاتجري على قدم وساق. كما أن معظم المناقشات الحالية تتقبّل ضمناً حقيقة أن التحرّر، الذي يُعرَّف عموماً وأحياناً بصورة غامضة للغاية على أنه بمثابة نهاية كاملة للسيطرة الإسرائيلية على حياة الفلسطينيين، ليس في الأفق؛ وأن مقاربات الماضي، من مرحلة اللاعنف الشعبي مروراً بمرحلة الكفاح المسلح ووصولاً إلى مرحلة اتفاقات أوسلو، لاتقدّم الكثير في المرحلة الراهنة. بدلاً من ذلك، يتم التركيز على مسألة الحصول على الحقوق الأساسية في ظل غياب حق تقرير المصير. بعض هذه التكتيكات تعمل ضمن إطار حلّ الدولتين، في حين يتجنّب بعضها الآخر ذلك. بيد أن معظم الفلسطينيين يتجنّبون مسألة الأهداف النهائية، على أمل احتمال ظهور توافق جديد في الآراء وإمكانيات جديدة لاحقا.

 

في خريف العام 2015، أصبحت بعض الاتجاهات الناشئة في المجتمع الفلسطيني ظاهرة للعيان، في ظل موجة جديدة من النشاط. فالهجمات الفردية التي قام بها الفلسطينيون، وبعضهم شباب ليس لهم أي انتماء سياسي، على أهداف إسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية وإسرائيل نفسها، جذبت اهتماماً دولياً. إضافةً إلى ذلك، أصبحت المظاهرات عند نقاط تفتيشٍ والمسيرات نحو مستوطنات إسرائيلية مختارة أكثر شيوعاً. من جانبهم، يشكو الفلسطينيون من تصاعد أعمال العنف التي يقوم بها المستوطنون الإسرائيليون الذين يغضّ المسؤولون الإسرائيليون الطرف عنهم، بل يوفّرون لهم الحماية؛ ويشكون أيضاً من الإجراءات المضادّة القاسية من جانب الحكومة (هدم المنازل وفرض قيود على سفر الفلسطينيين)، وكذلك من القوة المفرطة من جانب قوات الجيش والشرطة (الذين منحتهم الحكومة قدراً أكبر من المرونة لإطلاق النار على رماة الحجارة، ما أدّى إلى شكاوى من عمليات القتل التي تتم خارج نطاق القانون).

 

في أحاديث أُجريَت في الضفة الغربية في كانون الأول/ديسمبر 2015، أشار العديد من الفلسطينيين إلى الموجة الجديدة باعتبارها إما هبّة أو انتفاضة ثالثة. ولاحظ البعض أن العدد الفعلي للمشاركين في الهبّةضئيل جداً حتى الآن، ولاسيّما مقارنةً مع الانتفاضتين الأولى (بين العام 1987 وأوائل التسعينيات) والثانية (2000-2005) ضد الاحتلال الإسرائيلي. لابل إن أعداد المشاركين في المظاهرات الأكبر حجماً بالكاد تجاوزت المئات. مع ذلك، يتّفق الجميع على أن الوضع متفجّر، وأن القادة والهياكل القائمة إما أنهم مهمّشون أو يسعون جاهدين إلى البقاء في الجانب الصحيح من المزاج العام المستاء أصلاً من الدبلوماسية والمؤسّسات.

 

أيّاً يكن المسار الذي تأخذه الهبّة، فإن الاتجاهات الكامنة في المجتمع الفلسطيني تقوّض المؤسّسات والهياكل القائمة، وتفضّل إجراء الاختبارات التكتيكية. ويُظهر القادة وعياً بالمناقشات الجديدة الجارية حول التكتيكات، غير أنهم مقيَّدون بسبب العجز الدبلوماسي والواقع القاسي المتمثّل في أن أنماط عيش عشرات الآلاف من الأسر تعتمد على سلطة فلسطينية، يسخر منها الفلسطينيون بمرارة أحياناً، ولاتخدم مصالح الشعب الفلسطيني ولاتمارس السلطة. وهكذا، يواجه القادة الفلسطينيون خياراً قاسياً: استكشاف المواقف بما يتماشى مع المناقشات العامة الناشئة، وبالتالي تقويض دورهم الرسمي، والذي يعتمد بوضعه الحالي على التمويل الدولي والدعم الدبلوماسي، أو فقدان حظوتهم في السياسة الفلسطينية الحالية.

 

الموروثات التاريخية: ثورة بلا نصر

 

سعى الفلسطينيون إلى بناء مؤسّسات تضرب بجذورها في مجتمعهم، ويمكنها العمل من أجل المصالح الوطنية الفلسطينية وتمثيلها دولياً. تم إحراز نجاحات حقيقية في بناء منظمات المجتمع المدني والأحزاب والحركات السياسية والتنظيمات المسلحة والهياكل الإدارية. كما بنى الفلسطينيون هيئات تم قبولها كطرفٍ محاور على المستويات العربية والإقليمية والدولية، لابل إنها حصلت على اعتراف الأطراف الفاعلة الدولية الهامة مثل الاتحاد الأوروبي وإسرائيل والولايات المتحدة. وبدا أن ذروة تلك الجهود آتت أُكلها في مرحلة أوسلو. لكن، ومنذ ذلك الوقت، يبدو أن الهياكل الرسمية في الحياة الفلسطينية مستمرّة على الرغم من الصعوبات، بدفعٍ من حياتها الخاصة، لكنها منفصلة على نحو متزايد عن المجتمع الفلسطيني أو عن أي إحساس بوجود هدف لها. وفي حين أنها تتخبّط في بعض الأحيان على الصعيد الدولي، مثل التحرّكات الرامية إلى تكثيف المشاركة في هيئات الأمم المتحدة، فإن الخطوات التي تتّخذها تُقابَل بضغط دولي يعزّز شعبيتها في الداخل بصورة آنية في أفضل الأحوال، والتي سرعان ماتتراجع عندما يتّضح أن الانتصار المعنوي ليس محدوداً وحسب، بل من الصعب أيضاً أن يُترجَم إلى أي تغييرات ملموسة.

 

بدأت مرحلة أوسلو باعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها السلطة التفاوضية الوحيدة للفلسطينيين، وبتأسيس السلطة الفلسطينية لحكم الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وإجراء انتخابات لرئاسة السلطة الفلسطينية وما أصبح يعرف بالمجلس التشريعي الفلسطيني. وقد تمكّن الفلسطينيون من صياغة وسنّ التشريعات، وكتابة المناهج الدراسية، والحصول على سيل هائل من المساعدات الدولية وعلى حصد الترحيب من الأوساط الدولية.

 

بيد أن تلك المرحلة شهدت أيضاً عملية دبلوماسية فشلت في قيادة الفلسطينيين نحو بناء الدولة، كما شهدت ترسيخ الممارسات السلطوية، وذبول الأحزاب السياسية، وإنشاء أنماط دفعت الكثير من الفلسطينيين إلى اتّهام قادتهم بأنهم كانوا جزءاً غير واعٍ من الاحتلال الإسرائيلي بدل من أن يكونوا طريقاً للخلاص منه.

 

الحركات السياسية: فتح وحماس

 

تتكوّن الحركات السياسية الفلسطينية من عنصرَين عملاقَين اثنَين: حركة فتح الوطنية وحركة حماس الإسلامية. ومن شأن تسميتهما بالحزبين السياسيين أن تبخس أدوارهما، لأنمها اتّخذتا مروحة واسعة من الأشكال والوظائف، بما في ذلك وجود أجنحة مسلّحة فيهما. ويشير الفلسطينيون إليهما عموماً بأنهما "فصيلان". وقد كانت فتح دائماً، التي تأسّست في العام 1959 على يد مجموعة من الناشطين الشباب في ذلك الوقت، بمن فيهم الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، حركة متنوّعة فكرياً وتنظيمياً وتركّز على الإيديولوجيا الوطنية العلمانية. وفي أوائل العام 2016، باتت فتح تجمع بين قيادة عليا منعزلة وتخلو من الحياة ومجموعة من الحركات المحليّة وبين شعور قوي بأنها لاتزال تجسّد روح الحركة الوطنية الفلسطينية، غير أنها تفتقر إلى وجود برنامج لكيفية تحقيق ذلك. وعلى الرغم من أن حركة فتح وعدت بعقد مؤتمر حزبي تأجّل عن موعده مراراً في العام 2015، إلا أن غياب أي آفاق انتخابية، إضافةً إلى غيرة وشكوك القيادة العليا، وتنافس القادة المحليّين، كلّها تجعل إحياءها احتمالاً مستبعداً. والنتيجة هي وجود حركة تزداد تمزُّقاً، وتتكوّن من شبكة من الفروع المحلية ومجموعة من كبار القادة (بعضهم فقط لديه أنصار بين الفروع اللامركزية).

 

ينقسم قادة فتح بسبب المنافسات الشخصية، ويبدو أنهم لايحظون سوى بالقليل من الاحترام كمجموعة. يتولّى رئاسة حركة فتح رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وهو أحد مؤسّسيها الباقين على قيد الحياة والذين يتضاءل عددهم. لكن يبدو أن عباس يزداد عزلة وانفصالاً، ويركّز فقط على صدّ منافسيه ومن يُحتمل أن يشكّل تحدّياً لسلطته، مايُبقي بالتالي قمة هرم المنظمة في حالة من الفوضى المحتملة عندما يغادر عباس المشهد أخيراً.2 وسيكون لزاماً على كل من يخلفه أن يضمن ولاء "التنظيم"، وهو الجناح العسكري لحركة فتح الأصغر سُنّاً والأكثر تشدُّداً وفظاظة. ويبدو أن الأعضاء الشباب الذين لديهم معاقل في المناطق العازلة في مخيمات اللاجئين، تعبوا من ديمومة السياسات القديمة.

 

تبدو حماس أكثر تماسكاً من فتح من الناحية التنظيمية، إلا أن وحدتها تتعرّض إلى التآكل، ومن الصعب إنكار افتقارها للخيارات الاستراتيجية.

 

تبدو حماس، الحركة الإسلامية التي تأسّست في العام 1987 من الفرع الفلسطيني لجماعة الإخوان المسلمين، أكثر تماسكاً من فتح من الناحية التنظيمية، إلا أن وحدتها تتعرّض إلى التآكل، ومن الصعب إنكار افتقارها للخيارات الاستراتيجية. جرى تأسيس الحركة لتقديم بديل إسلامي للمقاومة يميل نحو اتّخاذ مواقف لاهوادة فيها على صعيد الوسائل (رفض نبذ أساليب العنف ووقف إطلاق النار والهدنة) والغايات (رفض الاعتراف بإسرائيل). في العام 2006، خاضت حماس الانتخابات البرلمانية التي فازت فيها، ما أدّى إلى بذل جهود دولية ترمي إلى عزلها وحتى الإطاحة بها، وجهود محلية لمنعها من ممارسة الحكم. كانت النتيجة النهائية لذلك اندلاع حرب أهلية قصيرة في العام 2007 مكّنت حماس من السيطرة الكاملة على قطاع غزة، الذي تديره فعلياً انطلاقاً من أوائل العام 2016، في حين يتم قمعها في الضفة الغربية. سيطرة حماس على غزة أثقلت كاهلها بمسؤوليات الحكم التي جعلت من الصعب على الحركة الاهتمام بتحقيق مفهومها للمسار الإسلامي أو المقاومة. وقد عمل قادة وجماعات مختلفة داخل الحركة على قيادتها في اتجاهات مختلفة، بيد أن أيّاً منهم لم يتمكّن من تقديم استراتيجية ناجعة تتجاوز حكم قطاع غزة، وتسعى إلى تحقيق أي أهداف فلسطينية أوسع.

 

المجتمع المدني

 

يتكون المجتمع المدني الفلسطيني من نقابات وجمعيات مهنية، وخدمات اجتماعية، ومنظمات طوعية. وقد ازدهرت بعض هذه المنظمات في مرحلة أوسلو بفضل التدريب والدعم الدوليَّيْن، غير أن هذا التوسّع فصلها في كثير من الأحيان عن قواعدها الشعبية. ويبدو البعض الآخر من هذه المنظمات تابعاً للفصائل السياسية، لذلك كانت بمثابة أدوات تنظيم وحضور اجتماعي لقادتها، وأقلّ قدرة على أن تكون بمثابة منابر للتنظيم والعمل المستقل. وبينما تنشأ حركات ومنظمات جديدة، يتلاشى بعضها بسرعة، أما المنظمات التي تدوم فلا يبدو أنها ترتبط بإطلاق أي مشروع وطني.

 

السلطة الفلسطينية

 

لم يعد معظم الفلسطينيين ينظرون إلى السلطة الفلسطينية، وهي الهيئة الإدارية التي تشرف على الصحة والأمن الداخلي والتعليم والحكم المحلّي ومجموعة من الخدمات الأخرى للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، باعتبارها نواة الدولة الفلسطينية. ومنذ الانتخابات التشريعية الأخيرة التي عُقِدت في العام 2006، اعتبر الفلسطينيون بصورة متزايدة أن السلطة الفلسطينية لاتعدو كونها مجموعة من الهياكل المجهّزة بملاك من الموظفين الفلسطينيين، تتحكم بالمجتمع وليس لديها سوى القليل من الروابط به، وأن هدفها ببساطة هو التعاطي مع بعض قضايا الحكم الأساسية في سياق الاحتلال الإسرائيلي. ولعلّ مايعوّق شرعية السلطة أكثر، حقيقة أن منصب الرئاسة، وهو منصب قوي بصورة غير متناظرة، لم يشهد أي انتخابات منذ العام 2005، عندما خلف عباس عرفات. والأكثر سوءاً أن السلطة الفلسطينية اكتسبت سمعة بالفساد في وقت مبكر. فقد سارعت حركة فتح، صاحبة المصلحة الرئيسة في السلطة الفلسطينية، وبعض ناشطي السلطة الفلسطينية، ومروحة كبيرة من الأطراف الفاعلة الخاصة، إلى استخدام الرئاسة كمصدر للوظائف والعقود والعلاقات. كما أثار عدم تسامح فتح مع المعارضة قدراً كبيراً من الاستياء. وعليه، أصبح الكثيرون يشعرون بأنه تم إنجاز كل المظاهر السلبية للدولة (الهياكل السياسية التي يمكن أن تكون قمعية وقابلة للرشوة)، ولم يُطوَّر أي من المظاهر الإيجابية (تقرير المصير والسيادة).

 

في العام 2006، تمكّنت حركة حماس من استغلال الأداء السيّء للسلطة الفلسطينية لتفوز في الانتخابات البرلمانية، بيد أن انتصارها لم يؤدِّ سوى إلى تقسيم السلطة الفلسطينية إلى سلطتَين اثنتَين، الأمر الذي فاقم ضعفها وتقصيرها. وينسّق شطرا القيادة، المنقسمان بين الضفة الغربية وقطاع غزة منذ العام 2007، السياسات الوطنية بصورة سيّئة بشأن عددٍ قليل من القضايا (مثل التعليم)، ولا ينسّقان في مابينهما على الإطلاق بشأن العديد من القضايا الأخرى. وتفتقر السلطة الفلسطينية في أوائل العام 2016 إلى عملية تشريعية قوية وشرعية (يتم إصدار القوانين بمراسيم، في ظل غياب إجراءات واضحة للمراجعة والتشاور)، أو إلى آليات لربط قادة السلطة الفلسطينية بمن يحكمونهم، أو لبلورة وسيلة لرسم السياسات خارج أهواء كبار قادتها، أو حتى لمجرّد تبرير وجودها. لابل إن مؤيّديها المتحمّسين نسوا الحلم الذي راودهم بين عامَي 2007 و2011 بإنجاز عملية بناء تكنوقراطية للمؤسّسات الفلسطينية، وهو الحلم الذي حرّك الجهات المانحة الدولية، لكنه أربك معظم الفلسطينيين.

 

بالنسبة إلى حركة فتح، توحي تحرّكات عبّاس في العام 2015 في مواجهة منافسيه الأساسيين، بمن فيهم الرجل القوي محمد دحلان (عضو حركة فتح المطرود الذي لايزال لديه مناصرون في الحركة)،4 والأمين العام السابق لمنظمة التحرير الفلسطينية ياسر عبد ربه (وهو ناقد قديم لنمط حكم عبّاس)، والتكنوقراطي سلام فيّاض (وهو مستقل ليس لديه أنصار منظّمون لكنه يحظى باحترام دولي)،5 بأن تلك التصدّعات يمكن أن تحطم ماتبقّى من أي مظهر شكلي للوحدة عندما يتعيّن اختيار خليفة لعباس. ولاتزال الخلافات بين قادة فتح حتى الآن من دون أي آليات خاصة بحلّها أو حتى إدارتها.

 

منظمة التحرير الفلسطينية

 

لاتزال منظمة التحرير الفلسطينية، وهي الهيئة التي شكّلتها جامعة الدول العربية في العام 1964 لتمثيل الفلسطينيين (والتي تُهيمن عليها حركة فتح منذ العام 1969)، تمثّل الفلسطينيين رسمياً في بعض المحافل. على سبيل المثال، منظمة التحرير، وليس السلطة الفلسطينية، هي الشريك المفاوض مع إسرائيل، كما تم تعيينها رسمياً في اتفاقات أوسلو. في نظر الفلسطينيين، تتشاطر منظمة التحرير موقعها الرمزي مع دولة فلسطين، وهي الدولة التي أعُلن عن قيامها أصلاً في العام 1948 لكن تم نسيانها، ثم أعُلنت مرة أخرى في العام 1988 وهي تسعى جاهدة إلى الحصول على الاعتراف الدولي منذ ذلك الحين. هي الآن موجودة عموماً كمجموعة من مختلف الهياكل الملحَقة برئاسة السلطة الفلسطينية في رام الله. استمرار منظمة التحرير الفلسطينية كرمز يعود بالفائدة على قيادة رام الله (مجموعة المسؤولين الذين يرأسون ماتبقى من منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية، بما في ذلك مجلس وزراء السلطة الفلسطينية والرئاسة) للادّعاء بأنها تملك مكانة محلية ودولية، غير أن معظم الناس الذين تدّعي أنها تتحدث باسمهم يعتبرون أنها لاتعدو كونها ذكرى لا أكثر. كما أنها قد تعمل بمثابة مظلة محتملة لقيادة موحّدة إذا تم الاتفاق عليها يوماً ما، لكن يبدو أن أي صيغة تجمع القادة الوطنيين والإسلاميين مستبعَدة، ووصفة للشلل من حيث الاستراتيجية الوطنية بسبب الخلافات القوية على الأهداف والتكتيكات بين المعسكرَين.

 

فلسطين الممزّقة، استراتيجيات مُخَلبَطة

 

يبدو، إذاً، أن أياً من الهياكل الفلسطينية التي تدّعي أنها تتحدث باسم الفلسطينيين لاتقوم بذلك بقدرٍ يُعتدّ به من الصدقيّة. إذ ليس ثمة سوى القليل من الإشارات على وجود ثقة شعبية في أي من المؤسّسات أو الهياكل. المشاكل ليست داخلية فقط، حيث أن الانقسامات السياسية والاجتماعية والاقتصادية القائمة بين الفلسطينيين تفاقمت بسبب مختلف الإجراءات الإسرائيلية، بدءاً من نقاط التفتيش الأمنية، ووصولاً إلى بناء المستوطنات. مع ذلك، لم تظهر أي قيادة بديلة ولا حتّى أي حلّ سياسي من أي نوع، وإن كان الفلسطينيون يتّفقون على أن قادتهم ضلّوا سبيلهم. ومع أن الكثير من الفلسطينيين لايزالون يدعمون حلّ الدولتين، لم تَعُد غالبيّتهم ترى أنه خيار قابل للتطبيق. فالمزيد من الفلسطينيين يؤيّدون حلّ الدولة الواحدة، إلا أن هذا الحلّ لايزال بعيداً كل البعد عن حصد دعم الغالبية.

 

 لاتقوم أيٌّ من الهياكل الفلسطينية التي تدّعي أنها تتحدث باسم الفلسطينيين بذلك بقدرٍ يُعتدّ به من الصدقيّة. مع ذلك، لم تظهر أي قيادة بديلة.

 

لم يَعُد الأشخاص الذين قادوا الفلسطينيين في عملية أوسلو يتمتّعون سوى بالقليل من الصدقية، حتى وإن استمرّوا في تبوّؤ المناصب القيادية العليا. بيد أن خصومهم مستمرّون في عدم تقديم أي بديل مقنع. لابل تكشف أي نظرة سريعة على الواقع السياسي الفلسطيني انقساماً شديداً في صفوف القيادة الفلسطينية والمجتمع والجغرافيا الطبيعية. إذ تسير القيادة الرسمية في السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية خبط عشواء بلا اتجاه محدّد، تتضوّر جوعاً كي تكون لها سلطة معنوية، فيما يبدو خصومها في حماس مرتبكين تكتيكياً ويسيرون أيضاً على غير هدى استراتيجياً.

 

يروّج كلٌّ من فتح وحماس لانتصاراتهما التي يتمّ التركيز عليها من حين إلى آخر. وتحرز فتح وقيادة السلطة الفلسطينية في رام الله نقاطاً إيجابية بين الحين والآخر في صفوف الفلسطينيين بسبب التحرّكات الدولية، مثل القرار الذي اتخذته في العام 2015 للانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، وملاحقة الاتهامات ضد إسرائيل. وتكتسب حماس بعض الصدقية بسبب مواجهاتها العنيفة مع إسرائيل. هذه الإجراءات تحقق للحركتين أحياناً انتعاشاً عابراً في استطلاعات الرأي، غير أن تلك الاستطلاعات أصبحت أقلّ تواتراً، وفي ظل عدم وجود انتخابات في الأفق، فإنها لاتسفر عن فوائد ملموسة بأي حال.

 

المشكلة التي يمكن لاستطلاعات الرأي أن تنقلها ولكن بصورة ناقصة فقط، إن كان ذلك ممكناً أصلاً، هي الأزمة العميقة التي تعاني منها السياسة الفلسطينية. فقد فقدت المؤسّسات التي بناها الفلسطينيون في ظروف بالغة الصعوبة على مدى الجيلَين الماضيَين ببساطة بعض جذورها الشعبية. وهي تستمرّ من خلال الجمود وعدم وجود أي بدائل وليس من خلال الدعم القوي؛ وبالتالي، فهي لاتملك سوى القليل من القدرة على القيادة، حتى لو كانت تعرف الهدف الذي ترغب في بلوغه. المشكلة هنا ليست سياسية فقط. فالاستراتيجيات الوطنية تحتاج إلى تجاوز الانشقاقات الاجتماعية الكبرى، بيد أن التشرذم الاجتماعي في الأراضي المحتلة متوطّن، مايجعل هذه المهمة عصيّة للغاية.

 

بعض هذه الانقسامات مادّية بطبيعتها. فالفجوات الاقتصادية شاسعة، والانقسامات العلمانية والدينية واضحة، والتنقّل بين مدن الضفة الغربية يمكن أن يكون صعباً. في نيسان/أبريل 2015، كان هناك 96 نقطة تفتيش ثابتة في أنحاء الأراضي المحتلّة، تقع 57 منها في عمق الضفّة الغربية، وسبعة عشر في منطقة (ه2-H2) في مدينة الخليل وحدها.6 ويلتفّ الجدار العازل الذي يبلغ طوله 442 ميلاً، والذي يتكوّن من جدار وسياج عازلَين، عبر الأراضي الفلسطينية، ويقسّم أحياء كانت متّصلة ويشق طريقه حارماً الكثير الفلسطينيين من أفضل أراضيهم ومواردهم المائية. تمّ تصميم جزء كبير من الجدار العازل بهدف حماية، وربما ضمّ، المستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية التي تقسّم الضفة الغربية والقدس الشرقية إلى جيوب. والنتيجة المترتّبة على ذلك هي وجود احتياجات مُلحّة مختلفة لسكان الضفّة الغربية في مناطق A وB وC المحدَّدة بموجب اتفاقات أوسلو، والذين يعيشون في ظل أنظمة قانونية منفصلة ودرجات متفاوتة من نفوذ السلطة الفلسطينية.7 لاتعاني أي جماعة من العلاقة الغامضة بالقيادة الوطنية أكثر من سكان القدس الشرقية،8 حيث يفضّل أكثر من نصفهم الحصول على الجنسية الإسرائيلية على البقاء في مايرقى بنظرهم إلى عذاب.9 والواقع أن عزل قطاع غزة، المستمر بصورة حادّة منذ العام 2007، كان موجوداً في صورة ما منذ بداية عملية أوسلو (وبالتالي فهو أكبر عمراً من معظم الفلسطينيين).

 

على الرغم من أنها تفتقد تماماً إلى الرؤية أو الرسالة، تشغل الهياكل القائمة بالفعل حيّزاً سياسياً.  صحيح أنّ الفصائل السياسية لاتقدّم رؤية استراتيجية كبيرة، إلا أنها نجحت في منع المنافسين من البروز. وتمارس السلطة الفلسطينية الحكم بصورة سيئة، لكنها ساهمت بقدرٍ يسير في تقديم الخدمات الاجتماعية والرواتب، مايجعلها أمراً لامهرب منه بصورة مؤقّتة. وتُعتبر منظمة التحرير الفلسطينية هيكلاً خارجياً، لكنها أصبحت آخر هيكل موحِّد للفلسطينيين.

 

لذلك، كثيراً ماتعكس الأحاديث السياسية في الضفة الغربية وقطاع غزة حالةً من عدم اليقين، لابل حتى اليأس أحياناً. يبدو أن الهوية الوطنية الفلسطينية لم تضعف، بيد أن المؤسّسات التي بُنيت لرعايتها والتحدّث باسمها لم تعد موضع ثقة كتجسيد لأي حركة وطنية قابلة للحياة، ولايُنظر إليها على أنها موثوقة بأي معنى أخلاقي. وباستثناء مجموعة من الهياكل الإدارية، لاتملك الدولة فلسطينية المنشودة منذ أمد بعيد تمثيلاً عملياً على الأرض.

 

مع ذلك، تتواصل الأحاديث، والاستماع إلى القادة لايعطي سوى صدىً بعيداً عن مثل هذه المناقشات؛ قد يرغب هؤلاء في تقديم أنفسهم بصورة إيجابية في مايتعلّق بالاتجاهات الناشئة، إلا أنهم لايشكّلونها أو يتحدثون بالنيابة عنها. ولذا ينبغي أن يتجاوز أي فهم للمستقبل السياسي للفلسطينيين التصريحات والمواقف الرسمية. ما الذي يقوله الفلسطينيون لبعضهم البعض عن محنتهم؟ هل قرّروا وضع مجموعة جديدة من الأهداف الوطنية؟ وهل بدأت استراتيجية بديلة وقابلة للحياة بالظهور؟

 

عمّق العديد من قادة الرأي العام الفلسطيني في السنوات القليلة الماضية اهتمامهم بحلّ الدولة الواحدة، وهو التحوّل الذي يشير إلى إدراك متأخر بأن إطار الدولتين يحتضر في أحسن الأحوال وميت في أسوئها. فقد دعت إحدى المبادرات في العام 2013، وكانت تضم أعضاء معظمهم من حركة فتح، إلى قيام دولة ديمقراطية واحدة في فلسطين التاريخية. وفي كانون الثاني/يناير 2015، قال ديمتري ديلياني، عضو المجلس الثوري لحركة فتح، إنه لن يكون لحركة فتح أي خيار سوى الضغط من أجل حلّ الدولة الواحدة بعد فشل المفاوضات. وتجري مناقشات أخرى عديدة باللغة الإنكليزية وفي الأوساط الأكاديمية والناشطة (مثل تلك التي تتجمّع حول رام الله وبيرزيت)، والتي ترتبط بالشبكات دولية.

 

النقاش ليس أكاديمياً ودولياً بطبيعته. ذلك أن دعم حلّ الدولة الواحدة آخذٌ في الازدياد في أوساط الفلسطينيين العاديين. ووفقاً لاستطلاع رأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في كانون الأول/ديسمبر 2015، فإن 29 في المئة من الفلسطينيين في الأراضي المحتلّة يدعمون حلّ الدولة الواحدة، ارتفاعاً من 12 في المئة فقط في تشرين الأول/أكتوبر 2003، في ذروة الانتفاضة الثانية. ومع أن 45 في المئة من الفلسطينيين لايزالون يفضّلون إطار الدولتين، فقد انخفضت نسبتهم من 56 في المئة في العام 2003. وعلى نحو ينمُّ عن الكثير، فإن الفلسطينيين من جيل أوسلو (ممن تتراوح أعمارهم بين الثامنة عشرة والثانية والعشرين) هم الأقلّ دعماً لحلّ الدولتين والأكثر تأييداً للانتفاضة المسلّحة. كما أصبحت المناقشات بشأن حلّ الدولة الواحدة أكثر حيوية بين الباحثين والناشطين على الأرض في الضفة الغربية وقطاع غزة، وظهرت في وسائل الإعلام الكبرى مثل صحف القدس والأيام وفلسطين والحياة الجديدة ووكالة معاً الإخبارية والمركز الفلسطيني للإعلام. قد لاتدعم الغالبية هذا البديل، غير أن الاتجاه يسير من دون شك في هذا المنحى.

 

لم تعد فكرة وجود دولة واحدة تبدو أقلّ واقعية من حلّ الدولتين، على الرغم من أنه تم صرف النظر عنها دولياً منذ عقد من الزمان باعتبارها غير عملية، واستنكرتها إسرائيل باعتبارها تهدف إلى القضاء على المشروع القومي اليهودي في فلسطين. ويشير العديد من المراقبين إلى أن هناك دولة واحدة في الأراضي المحتلة الآن، غير أنها تمنح الحقوق الوطنية لواحد فقط من الشعبين اللذين يقطنان فيها. وفي إسرائيل، وفيما أصبح رفض حلّ الدولتين (أو اليأس بشأن دبلوماسية الدولتين) هو السائد، صار القادة والمعلّقون السياسيون أكثر رغبة في الإعلان عن استكشافهم للبدائل المختلفة التي تصل إلى حدّ إقامة دولة واحدة في الأراضي المحتلة. لاتزال هذه المقترحات غامضة، لأن من المرجّح أن يؤدّي قيام دولة واحدة بهيئة انتخابية موحّدة وحقوق سياسية متساوية، إلى وضعٍ لايمكن الدفاع عنه بالنسبة إلى من يعتبرون إسرائيل دولة يهودية (وهي الفكرة التي يلحّ عليها نقّاد يسار الوسط من اليمين الإسرائيلي وحتى وزير الخارجية الأميركية جون كيري). وتجري مناقشة بضعة مقترحات رسمية، غير أنه يبدو أن استعداد الأشخاص الذين لديهم مروحة واسعة من وجهات النظر السياسية للكفّ عن التشدّق بالكلام لدعم حلّ الدولتين، يعني أن النقاش الفكري الذي تم استبعاده من دوائر السياسة الدولية المحترمة بدأ يكسب مؤيّدين.

 

وحتى عندما تتحرك الاتجاهات رويداً رويداً نحو قبول إطار الدولة الواحدة، فإن الفلسطينيين بعيدون عن التوصّل إلى إجماع، وهي الحقيقة التي بدت واضحة في موجة الخلافات في خريف العام 2015. فقد قال ناشط في الضفّة الغربية، تمّت مقابلته في تشرين الثاني/نوفمبر 2015، عن الانتفاضة الحالية: "الأهداف هي نفسها! إنهاء الاحتلال. لقد عاد الاحتلال كسياق وهدف". وبدا أن ناشطاً آخر يعمل في الضفّة الغربية يختلف معه في الرأي، حيث قال:

 

"ليس ثمّة هدف معلن أو متّفَق عليه لهذه الانتفاضة. ستحاول قيادة السلطة الفلسطينية إطالة أمدها واستلحاقها بحيث تتمكّن من تحقيق أهدافها الخاصة (العمل الدبلوماسي وما إلى ذلك)، لكنها فشلت. وقد حاول الإسرائيليون والأردنيون تطويقها وتكييفها على النحو الذي يريدون، وتحويل مسارها نحو "عودة الوضع القائم إلى المسجد الأقصى". وهم الآن يحاولون جعل هدفها "استعادة جثث الشهداء". [رفضت إسرائيل إعادة جثث الفلسطينيين الذين قُتلوا أثناء مهاجمة الإسرائيليين]. الشباب في الشوارع يضحّون من أجل الحرية، لكن ليست لديهم استراتيجية كبرى، استراتيجية معلَنة على الأقلّ. وهذا أمر في غاية الأهمية لأنه يوفّر للانتفاضة مجالاً للنمو، مع إبقاء الاحتلال في حالة من الجهل. أودّ أن أُقارب هذه الانتفاضة باعتبارها إشارة إلى أن الجيل الجديد من الفلسطينيين يتدافعون للحصول على مكانهم في المعترك السياسي، وأنهم سئموا من سياسات الانحناء التي تمارسها السلطة الفلسطينية ومن ممارسات المجتمع الدولي. الانتفاضة تهيّئ أرضاً خصبة لقادة جدد كي يأخذوا مكانهم، والسؤال الرئيس هو هل سيعمّر هؤلاء القادة أكثر من إسرائيل والسلطة الفلسطينية، أم أن الوضع الراهن سوف يسحقهم أو يحيّدهم، كما هو الحال في الانتفاضات الفلسطينية السابقة؟"

 

أوساط النخبة والأوساط الشعبية تميل إلى الردّ بالإيجاب على هذا السؤال: "التحرر الوطني"، وهي العبارة التي نادراً مايتمّ تعريفها على وجه التحديد، لايلوح في الأفق. ولاتقدّم الاستراتيجيات التي بدت واعدة في الماضي (المقاومة الشعبية والمقاومة المسلحة والمفاوضات) سوى أملٍ ضئيل في المرحلة الراهنة. وقد كشف الاستطلاع الذي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في أيلول/سبتمبر 2015 أن مايقرب من ثلثي الفلسطينيين يرَون أن حلّ الدولتين لم يعد قابلاً للتطبيق، لكنهم يرَون مجموعة متنوّعة إلى حدٍّ ما من التكتيكات التي يهتمون باتّباعها.

 

يركّز الفلسطينيون على الحصول على حقوقهم الأساسية في ظل غياب حق تقرير المصير.  ويرتبط السعي وراء بعض هذه التكتيكات، مثل إصلاح السلطة الفلسطينية، وعقد انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني، أو الانضمام إلى الهيئات الدولية، بإطار الدولتين. أما السعي وراء تكتيكات أخرى، مثل حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS) - ستتم الإشارة إليها في مايلي باسم حركة المقاطعة - فيُفضّل ضمنياً حلّ الدولة الواحدة. بيد أن الكثير من الأشخاص الذين يستخدمون هذه التكتيكات متردّدون بشأن التسوية النهائية، على أمل أن يظهر برنامج سياسي أكثر تماسكاً، بينما يكتسب النضال من أجل الحصول على الحقوق زخماً متزايداً.

 

النقاش الفلسطيني الحقيقي ودور الطليعة الأخلاقية الجديدة

 

مثلما أن موت حلّ الدولتين ومايرتبط به من عدم وجود بديل واضح، جرّد القيادة الفلسطينية من رؤية استراتيجية كبرى، فقد أفضى أيضاً إلى حصول نقاش قيّم بين القواعد الشعبية بشأن تكتيكات المضيّ قُدُماً. ولذا فإن كَون منشأ الابتكار التكتيكي يتجاوز القيادة الرسمية، لايُعَدّ أمراً مفاجئاً. ذلك أن حماس عاجزة بسبب حصار غزة ومحاولاتها العقيمة للتفاوض على تحقيق هدنة على المديَيْن القصير أو الطويل، ولاتزال السلطة الفلسطينية مكبَّلة بمؤسّسات أوسلو البالية التي فشلت في تحقيق النتائج المتوقعة. وإذا كان المقصود من القيادة الوطنية تقديم مبادئ توجيهية أخلاقية للمقاومة، فقد فشلت السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية وفتح في ذلك فشلاً ذريعاً. وحت