الحدث- رام الله
أيتها البلاد التي انتمي إليها، لا استطيع أن أحضنك إلا بما تيسّر لي من أجنحة ونبضات خفيفات في القلب.
من جنين حتى الخليل، أسير في شوارع تصغر ثم تصغر، أقف على حاجز يمتد أسلاكا وجنودا، وتتسع تعليمات الجنود عليه بإطلاق النار، هنا بيت شهيد، وهنا بيت أسير، وهناك ركام بيت دمروه وداسوا على ذكرياته وآثاره.
أيتها البلاد التي صارت أقفاصا لا تلائم فضاء المبادرة الفرنسية، ولا تنسجم مع عواطف كل القرارات الدولية، الأفق يبتعد والأرض تنزف عطشا وخرابا، زخّات الموت تهطل فوق رؤوس الناس، بين أقدامهم، رأيت فتاة صغيرة تُقتل بمريولها المدرسي، إنها البلد، من أخمص القدم إلى أعلى الرأس يمتليء جسدها بالدم.
لا مفر، أقطع المسافات المحاطة بالمستوطنات الكبيرة والصغيرة، وكل مستوطنة عشوائية تتضخم بعد حين، تتراجع الأرض والقرية والناس، الأشجار والطقس والربيع، وتهرب الطيور.
لا مفرّ، أقف على حاجز عسكري، ارفع القميص وأتعرى بين مكعبات الاسمنت، ولا مفر، أركع أمام سخرية الجنود وكاميراتهم وضحكاتهم، ولا مفر، فالقيود البلاستيكية تضغط على يدي، وجسمي يصير كرة بين ركلات أقدام الجنود وأحذيتهم المدببة.
كيف أقول كل هذا لمن أحبها؟ صراخ أطفال اسمعه في المسكوبية وعتصيون، ديما الواوي خائفة مرعوبة، وجهها أصفر، ترتجف، صراخ في روحي، يبتعد البحر، تجلس الدبابات على أبواب المدارس، والسجون تكون أسرّة للأطفال.
أيتها البلاد الهاربة من الحياة إلى الكلام والكلام فقط، كل الرموز والنياشين تضيء فوق صدرك، وكل الأوسمة فوق ثيابك المطرزة، أرجوك ابحث فيك عن حب متواضع، عن قبر لائق وليس مقبرة أرقام أو ثلاجة باردة، أرجوك كلميني بلغة ليس فيها حصار، ومن على حصى الأرض وليس على بساط أحمر أو من مكتب لا يراني ولا أراه.
يضيق المكان ويتسع الضوء في قلبي، ليس هنا في سجن النقب ولا في سجن عسقلان قراء من السماء، الليل يهبط في نفسي ، هنا سجاّن وألف باب، وزمن يتجمد في الغيب، لا يتحدث إلا مع الركام والأشلاء، ومع الثقوب والتصدعات في الأسئلة.
كيف أقول كل هذا لمن أحبها؟ وهناك يتمدد سامي جنازرة مضربا عن الطعام ضد اعتقاله الإداري، لا رسائل لأولاده وبناته ، معلقا أمام صمت العالم بين الدنيا والآخرة.
يضيق المكان ويتسع الضوء في قلبي، ولا احد يعرف قاموس الضوء دون جوع أو خوف، إلا من دخل بيت أسير أو شهيد وتغطّى بلحاف الوجع ، ولا أحد يدّعي البطولة الآن، إلا من غسل وجهه في حوض من الدم، فتح ذراعيه واسعة للقدس الوحيدة.
أيتها البلاد، بلادي، حنجرتي مليئة بورد يابس، ألفاظي حديقة، والشتاء ينام في سريري عاريا حافيا، وأنا لا احلم إلا بأمي، و بفجر يتعكز على قليل من الهواء.
أين الأسماء، أين الأصدقاء؟ أخذهم القلق والجنازة، حولي غبار وغبار فقط، في ذاكرتي جماجم مفتوحة على الزمن، ذاكرتي مليئة بالحفر، كأن صوتي أصبح لهاثا يلاحق ولدا يتعثر في أزقة المخيم.
كيف أقول كل هذا لمن أحبها؟ أنا خارج الحبر والورق، أنا الأقدام المضطربة دون حصان، أنا المعنى المحجب، حولي جدران عالية، أنام محدودبا على البرش يحتجزني السجن ولا أنام.
يضيق المكان ويتسع الضوء، اقرأ تقريرا عن الإعدامات الميدانية، واقرأ عن تزايد عدد المستوطنات والمستوطنين، واقرأ عن الفقراء والعمال المطاردين منذ ساعات الفجر، واقرأ عن دولة تسمى اسرائيل تحولت إلى معسكر من حديد، واقرأ عن حملات الاعتقال الواسعة ، وأقرأ عن احتكارات مفتوحة بلا حدود، منتجين وسارقين ومستهلكين، فكرة مركبة متناقضة، وأنا أسمع الحرية تطلب رغيفا من الخبز.
تحل الذكرى الـ 68 للنكبة، ويبدو بعد هذه السنوات أن ما جرى للشعب الفلسطيني عام 1948 تحول الى لعنة على مستقبل دولة إسرائيل، فلا زال الإسرائيليون خائفين من الأرواح التي تتحرك تحت تراب القرى التي دمرت وهجر وذبح أهلها، هذا ما يقوله احد أركان تلك الحرب ( يائير جولان) وهو يصف سلوك الجيش الإسرائيلي مع الفلسطينيين بسلوك النازيين، وان بذور الكراهية والتعصب في المجتمع الإسرائيلي توجع الضمير الإنساني، وتقود إلى التدهور الأخلاقي ، كان هناك محرقة، وترتكب هنا محرقة.
كيف أقول كل هذا لمن أحبها؟ وقد أرسل الأسير المشلول منصور موقدة وصيته لي، قطعا من جسمه الممزق بالرصاص، أول الوصية موت وآخرها موت، وبين الكلمات والصرخات تهزني الشهقات تلو الشهقات.
على حاجز قلنديا تذكرت المرأة التي أحبها، لها رائحة في التاريخ، وبتوفيق من السماء عبرت تاركا صورة مروان البرغوثي على الجدار، هي مدينة تتمدد في أنابيب إسمنتية، وأنا العاشق التائه في دائرة بين الحاجز والمرأة الهاربة.
كيف أقول كل هذا لمن أحبها؟ تعبت من المؤتمرات والمناسبات المزدحمة، شعارات كثيرة هنا، وأنتِ هنا كدمي يسيل في منحدرات أخرى، قلت: أيتها السيدات والسادة، رأيت للفجر ثديين يسيلان حليبا أبيض على أيامي، فهل تساعدوني على إيقاظ حبيبتي النائمة في أعماقي، وتصدقوا هذا الغيم؟
يضيق المكان ويتسع الضوء في قلبي، ليس لي غير قلبي، أرضي وترابي وجسدي، الحزن بين ذراعي، والفرح في صدري.