الحدث- القدس
نشرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية مقالاً ليغئال بن نون* جاء فيه:
اعتاد الجمهور الذي يسمى علمانيين تبرير نفسه والادعاء بانه ليس ضد الدين بل ضد الاكراه الديني. وعبارة "ضد الدين" تفسر في نظره كرفض حق الانسان في اداء فرائضه الدينية. مركز الخلاف بين المتدينين وغير المتدينين حول الاكراه يمنع الانتقاد الموضوعي بالدين واليهودية بصفتها دين.
ان مبادئ يهودية الشريعة "الهلاخا" صيغت في توراة شفوية وضعها الحكماء، بعد وقف عبادة القرابين وسيطرة طائفة النساك على العالم اليهودي – الهيليني في الاسكندرية وكيرني. وعلى حد نهجي، فإنه يمكن تشخيص عدة مراحل حاسمة في تشكل اليهودية. المرحلة الاولى هي صياغة الكتاب قرابة العام 622 قبل الميلاد ونشره في عهد البتر الملكي. وقد عرض عبادة في حدها الادنى لاله واحد، هو يهوا، بلا مزيد من الالهة وبلا أصنام. في المرحلة الثانية اهتز الايمان بقدرة يهوا على حماية شعبه بعد الخراب البابلي في العام 586. وفي اعقاب ذلك نشبت أزمة ثيولوجية جعلت وعي المنفى مركزيا في أدبيات العصر. أما الدين اليهودي، الذي نشأ لاحقا، فما كان يمكنه أن يكون بلا شروط المنفى.
الخراب الروماني في العام 60 ميلادي، ثورة الشتات في القرن الثاني وترجمة الادبيات المكرائية إلى اليونانية، خلقت المرحلة الثالثة، والتي بموجبها يمكن الانضمام إلى اليهودية دون أن يكون المرء يهوديا حسب الاصل. اما نشر التلمود في القرن العاشر وصياغة "الطاولة الممتدة" في القرن السادس عشر، فهي المراحل الاخيرة في تبلور يهودية "الهلاخا" التي لا تقوم على مبادئ الايمان، مثل المسيحية والاسلام، بل على أداء الفرائض.
العبادة ليست دينا. اذا كانت العبادة اساسها تقديم القرابين، فإن الدين متعلق بنص جامد. وبتأثير فارسي – هيليني، اصبحت اليهودية بالتدريج توحيدية، ولكن عصر القرابين لم ينته الا بعد خراب تيتوس. في أعقاب التمرد البائس الذي قام به بار كوخفا والرابي عكيفا، تميزت اليهودية عن محيطها ونجحت المدارس الدينية البابلية في أن تفرض بالتدريج التلمود على اليهودية المكرائية – الهيلينية. اما اليهودية الناسكة فقد دحرت التوراة المكتوبة إلى ساحة القدسية، وسارت فقط على أساس التوراة الشفوية ووعي المنفى. وبقدر ما يبدو الامر مصحوبا بالمفارقة، فإن اليهودية لا يمكنها ان تكون في دولة يهودية، والدولة ذات السيادة لا يمكنها أن تكون يهودية. فالصهيونية العملية، التي رفضت المنفى، جعلت عبارة "دولة يهودية" الامر ونقيضه.
في العالم الديني والحريديم تجري مؤخرا تحولات بعيدة المدى. فالتغييرات سريعة بحيث أن زعماءه فقدوا السيطرة وهم يحاولون خلق الاستقرار من خلال التطرف في المواقف وانتاج تحفظات فقهية جديدة. وبغياب القدرة على انتاج جواب فكري – ثيولوجي للازمة، تترك المؤسسة الحاخامية الانشغال باليهودية، توجه جهدها إلى الملعب السياسي العلماني وترضع قوتها من خيراته الرسمية. فقيادة الحريديم تستخدم الاطر العلمانية لجمع القوة التي تستغل لتعزيز الانعزال عن الجمهور ومنع التعليم عن اجيالهم المستقبلية والتي تتربى في الجهل.
تجتاز يهودية الهلاخا بتقديري الازمة الاخطر في تاريخها، ولم يقم لها زعيم شجاع بما يكفي ليشجب الانشغال بعبادة القبور، الحجب، السحر، المقاطعات والنذر. فلم يتجرأ أي معلم هلاخا على الوقوف ضد الحاخامين السحرة الذين يجمعون المال الطائل من ضائقات المقهورين. لقد انجرفت اليهودية نحو الصوفية، تدهورت لدرجة نصب منصات ادوات الصلاة في الشوارع. فهل سيقوم زعيم يعيد اليهودية إلى تنور العصور الوسطى؟.
ان الجمهور المسمى علمانيا، ليبرالي وانساني، لم ينجح في أن يضع بديلا ايديولوجيا لاضرار الدين. فالحركات التي تعمل على التقارب بين المتدينين والعلمانيين هي طرق باتجاه واحد. فالعلماني يشعر بالدونية امام خزانة الكتب اليهودية، ولكن ليس للمتدين أي نية للمساومة مع العلمانية. فالهلاخا اليهودية ليست مبنية للحلول الوسط. حياة المتدين مرتبة حسب فرائض جامدة. وبمقابلة يحاول العلماني ان يشق لنفسه طريقا مزروعة بالترددات والمعاضل، في عالم يقوم على اساس التعددية الفكرية، التفكير المنطقي والانشغال بالشك. والجمهور لا يولي الا للمتدينين المشاعر التي على العلماني ان يراعيها. ليس للعلماني مبادئ يطلب من المتدينين احترامها. والعلماني يقيم في الغالب عادات دينية كنوع من العبادة عديمة الايمان، نص بلا معنى، وربما لان المشاعر الدينية والعطش للرائع هي نظرية في طبيعة الانسان.
ان مطالبة العلمانيين من المتدينين الا يفرضوا عليهم قيود الدين هي مطالبة سخيفة. فاليهودية تفرض نفسها على كل من ولد لام يهودية، باستثناء من بدل دينه. كل يهودي ملزم باقامة الفرائض، سواء كان مؤمنا أم لا. ولما كانت الهلاخا غير مبنية على الحلول الوسط، فهي ملزمة بأن تفرض على كل يهودي فرائضها. ومع ان اليهودية معرفة كدين، الا انه ليس فيها مبادئ الايمان مثلما في المسيحية والاسلام.
في الزمن الحديث خلق اليهود لانفسهم قومية خارج اقليمية، دون صلة الزامية بالدين، اصلها في القاسم المشترك الوهمي، المتعلق بالاصل. ولكن الاصل الجيني المشترك لكل اليهود عدم كل اساس بحث ويتعارض مع الواقع التاريخي.
بعد افلاس الايديولوجيات الدوغماتية (الجامدة) فإن الانتلجنسيا (طبقة المثقفين) العالمية موجودة أزمة وتبدي ضعفا أمام التطرف الديني. الليبرالية، الانسانية والتقدم لم تتغلب على الازمة ولم تنجح في وضع حاجز ايديولوجي امام العنصرية والعنف. فهل ننتظر إلى أن ينهار العالم الديني أم نمسك بالثور من قرنيه ونجري حوارا على نقد الدين ونقد اليهودية؟
*مؤرخ، باحث في تأريخ المحافل المكرائية