السبت  19 تموز 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

العدد 72 | ضحايا لقمة العيش ‏(صور)

"حاولت الإمساك به إلا أنه أفلت من يدي فسقط ومات"‏

2016-10-25 08:02:46 AM
العدد 72 | ضحايا لقمة العيش ‏(صور)
ضحايا لقمة العيش ‏

 

الحدث- محمد غفري

 

يستحضر أحمد والحسرة تملأ قلبه ما جرى معه قبل أكثر من شهرين، عندما سقط زميله في مهنة البناء، من فوق بناية سكنية قيد الإنشاء، وفارق على إثر ذلك الحادث الحياة.

                                 

أحمد طوافشة (36 عاماً) من قرية سنجل شمال مدينة رام الله، عاد بذاكرته قليلاً إلى الحادث الموجع، بعدما أشعل سيجارته واتكأ جانباً، وشرع يروي لـ"الحدث" تفاصيل ما جرى أمام عينيه: "كنا نعمل في منزل قيد الإنشاء في قرية جلجليا في الطابق الثاني على ارتفاع 8 أمتار".

 

وأضاف: "حاولنا أنا والعامل رائد تحريك الرافعة (ونش الكهرباء) من مكانها ونقلها لمكان آخر، وأثناء القيام بذلك، سقطت الرافعة من فوق البناء، وسحبت معها رائد".

 

ينفخ أحمد دخان سبجارته بحسرة بعدما سكت قليلاً، ثم عاد من صمته وقال: "حاولت الإمساك به ولامست أصابعي طرف أصابعه، إلا أنه أفلت من يدي وسقط أمامي ومات".

 

وتوفي الشاب رائد خليل (22 عاماً)، من قرية سنجل شمال رام الله، يوم 21 تموز/ يوليو الماضي من هذا العام، بعد سقوطه أثناء العمل، من فوق بناية سكنية قيد الإنشاء، في قرية جلجليا.

 

الشاب أحمد خليل

أحمد خليل

 

يقول طوافشة، إنه بدء العمل في مهنة البناء قبل نحو عشرين عاماً، والتحق به الشاب العشريني رائد قبل أربعة سنوات، واصفاً إياه بـ"المعلم" في مهنته، إلا أن طوافشة أرجع وفاة صديقه رائد إلى القضاء والقدر.

 

في التاسع من شهر أكتوبر/ تشرين أول الجاري، تكرر ذات المشهد بخسائر بشرية نتيجة سقوط "السقالة" من فوق مبنى قيد الإنشاء، في وسط مدينة رام الله، وتوفي على إثره الشاب محمد عزام (31 عاما) بينما أصيب 6 آخرين بجروح بالغة.

 

محمد عزام

 

تحقيقات وزارة العمل في هذا الحادث، كشفت أن مواصفات السقالة المقامة كانت غير مطابقة للمواصفات، حيث تبين أن المعدن متآكل، وكحل بديل للمشكلة إرتأت الورشة أن تضع وصلات بين قضبان السقالة مما أدى إلى إضعافها وانهيارها بسبب الحمل الزائد، وجاء في تحقيق الوزارة أن عدم توفر وارتداء معدات الوقاية من أحزمة أمان، وخوذ واقية وغيرها من المعدات التي يجب توفرها أثناء العمل، تسبب في هذه الخسائر البشرية.

 

ما جرى مع الفقيدين رائد ومحمد، يعيد فتح ملفات الرقابة والتفتيش من قبل الجهات الرسمية على العمال الفلسطينيين، وشروط الالتزام بأدوات السلامة المهنية في مثل هذه الأعمال الخطرة، كمهنة البناء.

 

لا توجد رقابة على ارتداء أداوت السلامة

وخلال حوار طوافشة -وهو صاحب الخبرة الطويلة في عمله- مع مراسل "الحدث" أكد على أن جهات الرقابة الرسمية تقوم بالتفتيش على شروط السلامة المهنية أثناء العمل في مدينة رام الله، وتطلب من العاملين الالتزام بارتداء الخوذة والحذاء المخصص (البسطار)، إضافة إلى ضرورة ربط الجسد بالبناء أثناء العمل فوق علو خوفاً من السقوط.

 

وهو ما يطابق شروط السلامة المهنية المعمول بها في المباني السكنية التي كان يفرضها عليهم المشغلون أثناء العمل في بناء مدينة "روابي" القريبة من رام الله، كما أفاد طوافشة.

 

وتحدى طوافشة أن تقوم أية جهة رسمية بفرض شروط السلامة المهنية والقيام بدورها في الرقابة والتفتيش على العمال في مناطق القرى البعيدة عن مراكز المدن، مؤكداً أنهم لم يخضعوا للرقابة طوال كل السنوات الماضية أثناء العمل في القرى.. إلا بعد وفاة رائد.

 

وتأكيداً على ما قاله أحمد، أفاد بلال رباح (26 عاما) العامل في مهنة البلاط منذ 8 سنوات، أنه لم يخضع للرقابة والتفتيش طوال سنوات عمله، حتى في قلب مدينة رام الله، إلا أثناء العمل في الكلية العسكرية في مدينة أريحا.

 

جولة ميدانية

ومن أجل التحقق من صحة ما قاله أحمد وبلال، توجه مراسل "الحدث" إلى إحدى ورش البناء، وهي عمارة قيد الإنشاء تقع في مدينة رام الله، ويعمل فيها أكثر من 20 عاملاً في مجالات مختلفة، بإشراف بعض المهندسين.

 

وتبين من هذه الجولة الميدانية، عدم وجود أي عامل ملتزم بشروط السلامة المهنية، أما فيما يتعلق بالمهندسين، فوجدنا مهندساً واحداً يرتدي خوذة العمل، وسألنا مهندسا آخر في الموقع: لماذا لا ترتدي خوذة عمل كزميلك لتبدو بهيئة مهندس؟ فأجاب أحد العمال بالنيابة عنه: "هاض بحب يضل مشخص ولابس قميص مكوي".

 

ومن أبرز المشاهدات التي سجلناها في هذه الجولة، قيام أحد العمال بسحب وعاء مليء بالباطون (سطل الباطون) بواسطة قضيبٍ حديدي، فيما تواجد تحته مباشرة عامل آخر لا يرتدي خوذة الحماية يقوم بتحضير الباطون، كما هو موضح في الصورة، فماذا لو سقط الوعاء فوق رأس العامل في الأسفل؟

 

 

شروط السلامة المهنية

وبحسب المصادر الرسمية، فإن شروط وأدوات السلامة المهنية في ورش البناء هي: ارتداء قبعة لوقاية الرأس من الاصطدام وسقوط الأجسام الصلبة عليه، وارتداء النظارات في بعض الأوقات لوقاية العينين من شظايا قص الحجر والحديد والغبار، وارتداء الكمامات لوقاية جهاز التنفس وحمايته من الغبار ورائحة المواد الكيماوية، بالإضافة إلى ارتداء سماعات الأذن بشكل خاص أثناء العمل عند الأصوات العالية، خوفاً من إلحاق الضرر بالجهاز السمعي.

 

ومن أدوات السلامة أيضا ارتداء حذاء خاص لحماية الأرجل، وربط الجسم بحزام الأمان أثناء العمل فوق منطقة مرتفعة تحسباً من السقوط، وارتداء لباس عاكس من أجل رؤية العامل أثناء العمل في مناطق مظلمة وفي أوقات الليل.

 

من يوفر هذه الأدوات للعامل؟

مدير دائرة السلامة والصحة المهنية في وزارة العمل فراس أبو حماد، أفاد أن صاحب العمل أو المقاول، هو الشخص المطلوب منه توفير هذه المعدات، بالإضافة إلى التأمين ضد إصابات العمل.

 

وأوضح أبو حماد في تصريح لـ"الحدث"، أن تكلفة هذه المعدات تتراوح من 400-450 شيقل، ولديها تاريخ صلاحية معين، وبالتالي يجب أن تستبدل بعد فترة زمنية، على أن تتلاءم معدات الوقاية مع درجة المخاطر الموجودة، ملبيةً درجة الحماية المطلوبة منها.

 

وعند سؤال أحمد طوافشة عن توفيره لأدوات السلامة له ولعماله، وقدرته على شرائها، أجاب بالمختصر: "والله الواحد يا دوب يطلع مصروفه وأجرة العمال".

 

ويتقاضى العامل الفلسطيني في ورش البناء، كما رصدت "الحدث"، متوسط أجر يومي يتراوح بين 70-120 شيقل، وقد يختلف في بعض المناطق زيادة أو نقصاناً، وقد يختلف الأجر بناء على الكفاءة وسنوات الخبرة، وهو ما يستحضر الأسئلة التالية: هل يستطيع العامل شراء كل أدوات السلامة المذكورة من مصروفه الشخصي؟ أم على الجهات الرسمية أن توفر هذه الأدوات له؟ ومن يتحمل مسؤولية الرقابة عليه وفرض ارتداءها في حال أهمل ذلك؟

 

المقدم لؤي ارزيقات المتحدث الرسمي باسم الشرطة الفلسطينية، أفاد لـ"الحدث" أن وزارة العمل هي الجهة المسؤولة عن القيام بدور الرقابة والتفتيش على العمال، للتأكد من ارتداء أدوات السلامة المهنية.

 

وأكد ارزيقات، أن دور الشرطة ينحصر بالتحقيق في ملابسات الحادث في ورشة البناء، في حال كانت هناك شبهة جنائية.

 

 

وبالعودة إلى مدير دائرة السلامة والصحة المهنية في وزارة العمل فراس أبو حماد، بين أن معدات الوقاية الشخصية هي خط الدفاع الأخير، بمعنى أن صاحب العمل يجب عليه القيام بالإصلاحات المهنية وإيجاد الحلول الهندسية والإدارية التي تسبق معدات الوقاية الشخصية، حتى يتجنب مخاطر العمل الموجودة في بيئة العمل لديه، لأن معدات الوقاية الشخصية بالعادة ليست مريحة للعامل بسبب طبيعة العمل، وفي حال لم يستطع صاحب العمل إيجاد هذه الحلول يلجأ إلى معدات الوقاية الشخصية، بسبب عدم إمكانية تطبيق الحلول الأخرى، كالعمل في بناية قديمة ومساحات وظروف معينة.

 

وأقر أبو حماد، أن وزارة العمل هي الجهة المناط لها دور الرقابة على ارتداء معدات السلامة المهنية، وأن أي صاحب عمل غير ملتزم بتوفير معدات الوقاية الشخصية للعمال، يتم اتخاذ الإجراءات القانونية بحقه، التي قد تصل إلى حد إغلاق المنشأة، حتى يتم توفيرها.

 

وحول أسباب التقصير في دور الرقابة، أقرّ أبو حماد أن ذلك يرجع إلى قلة الكادر المطلوب للقيام بالدور الرقابي، وعدم توفر الإمكانيات اللوجستية، وبالتالي عدم إمكانية تغطية كل ورش البناء.

 

وأكد أن الوزارة لديها خطة لزيادة عدد المفتشين من 40 مفتشا متوفرين حالياً في كل المحافظات، إلى 80 مفتشا خلال السنوات الثلاث القادمة.

 

يعمل في قطاع البناء في فلسطين، بحسب الأرقام الرسمية التي حصلت عليها "الحدث" من الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 147,700 عاملاً، منهم 134,100 في الضفة الغربية، و13,600 في قطاع غزة، فهل يكفي 40 مراقباً أو حتى 80 للقيام بدور رقابي عليهم؟

 

أحمد ومحمد توفيا في ريعان شبابهم، وغيرهم 7 آخرين لقو حتفهم في ورش البناء هم ضحايا لقمة العيش، منذ بداية العام الجاري وحتى تاريخ إعداد التقرير، فلو كان أحمد مربوطاً بحزام الأمان لما سقط، ولو كان محمد مربوطاً بحزام الأمان لما سقط هو الآخر، ولكل عامل توفي سبب وفاة آخر لربما كان بالإمكان تفاديه فيما لو توفرت شروط السلامة المهنية في مواقع البناء، وقامت الجهات الرسمية بدورها الرقابي على أكمل وجه.