الخميس  02 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"مصائر" ربعي المدهون وزيارة متحف ضحايا المحرقة "الهولوكوست"/ بقلم رزان إبراهيم

2016-11-22 02:38:21 PM
رزان ابراهيم

 

ما فتئت " إسرائيل" تغتنم المحرقة النازية وتستخدمها حجة تبرر بها حروباً استندت إلى استراتيجيات تتبعها لغاية تحويل مأساتها قوة, بما يتماشى وقول بن غوريون من أن إسرائيل عرفت كيف تستفيد من نكبتها وتحولها إلى عين ماء تنضح إبداعاً وقوة. وبات لافتاً في زمننا هذا أن عدداً غير قليل من السياسيين من غير اليهود يستخدمونها للحصول على أصوات ناخبين صهاينة لهم وزنهم في العملية الانتخابية. أنطلق من تقديمي القصير هذا للتعقيب عما ورد في رواية ربعي المدهون الأخيرة " مصائر" حول هذه المحرقة التي أثارت ردود فعل متباينة ذهبت باتجاهات مختلفة. فما الذي ورد في " مصائر" بشأن هذه المحرقة؟

تحكي الرواية عن شاؤول شامير وهو جار بطل الرواية ( باقي) المعروف عنه أنه كان قد شارك في أربع حروب ضد العرب, وأنه كان يغار من زوجته التي نجت من مذابح اليهود في كييف الأكرانية في أحداث سبتمبر 1941. أما عن سر غيرته فلأنها كانت جزءاً من مأساة تدفع الحكومة الإسرائيلية ثمناً لها تعويضاً للناجين من اليهود, ليكتمل مسار الصفقة بتلقي الحكومة الإسرائيلية نفسها تعويضاتها من حكومات ألمانية ورَّثت شعبها ما اعتبرته تسديداً لفواتير الفظائع التي ارتكبها هتلر بحق اليهود. أما عن موقف " باقي" فإنه يتساءل إن كان عليه أن " يلعن النازيين وتاريخهم الأسود, وما فعلوه باليهود, مما كان سبباً في ترحيل الكثيرين منهم إلى البلاد ( فلسطين)؟". بل إن الرواية تذكر لباقي أنه طاف أوروبا كلها ولعنها تباعاً لتخليها عن اليهود إبان محنتهم, ومن ثم مساعدتهم على الرحيل إلى فلسطين بدلاً من استيعابهم. وهنا أذكّر بأن اليهود كانوا بصدد إقامة دولة صهيونية في فلسطين قبل هذه المحرقة, بل إن الرواية نفسها تدلل على هذه النية من خلال عبارة تلمودية يستذكرها باقي تقول: " تزحف جثة اليهودي الذي مات خارج فلسطين, بعد دفنها تحت الأرض, إلى أن تصل إلى الأرض المقدسة وتتوحد معها"؛ مما ينسجم والقول بأن الصهيونية سعت إلى طرد الفلسطينيين وإقامة دولتها قبل المحرقة اليهودية.

فيما يتعلق الآن بزيارة باقي لمتحف ضحايا المحرقة ( الهولوكست؛ يد فشم) غير البعيد عن دير ياسين, نستمع لباقي يقول: " رح أجرب.. بدي أشوف دير ياسين من هناك. بدي أشوف كيف الضحايا بشوفو الضحايا". يسترسل بعدها في ذكر دوافع هذه الزيارة في أنها تأتي ضمن مقارنة بين المحرقة النازية وجريمة الاحتلال الصهيوني. وفي هذا يقول: " حزنت على من هم منا وعلى من هم منهم, وبكيت على أولئك المتزاحمين في السماء يبحثون عن مكان يلم أسماءهم". لكن هذا على ما يبدو لم يقنعه هو شخصياً بهذه الزيارة, بل ويتراءى لنا من كلامه أن شعوراً بالذنب بنتابه بسببها, فباقي هذا لا يخفى عليه أنه باسم كل اسم في المتحف يقتل من الفلسطينيين اسم وأحيانا أسماء, وباسمه تشعل إسرائيل محارقها في بلداننا. وعليه يسأل:" كيف يمكن إبقاء ذكرى من أبادتهم النازية الألمانية حية بقصف غزة مثلاً؟". ويتبعه بآخر: " وما الفرق بين الحرق في أفران الغاز أو الحرق بصواريخ الأباتشي؟". يخلص بعدها بوجوب طلب الرحمة من الله لهم " كضحايا للنازيين مرة, وضحايا من يتاجرون بمأساتهم مرة ثانية".

تعقيباً على ما سبق أرى أن المدهون متوافق مع حالة استنكار شديدة تشجب وتستنكر جرائم وحشية ترتكبها إسرائيل وفي ذهنها أنها مع كل واحدة منها تمحو جريمة أوشفيتس. وهو المعنى ذاته الذي يقول فيه هوارد زن: " فإذا كان يراد أن يكون للمحرقة أي معنى، فإن ذلك يوجب علينا أن نوجه نقمتنا نحو المظاهر الوحشية في زماننا، فالتكفير عن سماحنا بحدوث المحرقة، يكون بعدم السماح بحدوث المذابح المماثلة الآن". وهو ما يأتي منسجما وعبارة لباقي يخاطب فيها المسؤولة عن متحف المحرقة بالقول: " إن لم تفهمي ما جرى في دير ياسين وتحفظي درسه جيداً, لن يفهم الآخرون ما جرى لأولئك الضحايا في يد فشم". وهي حالة لا تنطبق على مسؤولة المتحف وحدها وإنما على عالم بأسره لا يطالب إسرائيل بالاعتراف بجرائمها بحق الشعب الفلسطيني, بينما مطلوب من الفلسطيني أن ينضم للعالم بالاعتراف بجريمة المحرقة. وهنا أستعير عبارة من جوزيف مسعد يقول فيها:" إن العالم كله قام باختطاف مأساة المحرقة لخدمة بهلوانيات إسرائيل الإيديولوجية".

إذن ربعي المدهون متماش فيما قدّم في روايته مع ما هو معروف من أن الصهاينة واصلوا استخدام تاريخ المحرقة اليهودية أثناء الحرب العالمية الثانية من أجل أهداف دعائية تكرس علاقة متينة بين المحرقة وتأكيد حق إسرائيل في حروب كانت فيها المعتدية. هنا يلفتنا أنه على الرغم من أن الروائي يترك لباقي فرصة التذكير بمحارق ارتكبتها إسرائيل بحق الفلسطينيين, فإن جلّ قراء الرواية ظلوا غير راضين عن إقحام هذه الزيارة فيها. فما سبب هذه الحالة التي عبّر عنها كثيرون؟

قبل المضي في الإجابة عن هذا السؤال أُذكّر بما كان جوزيف مسعد قد أورده في كتابه المعروف " ديمومة المسألة الفلسطينية" والذي يظهر فيه أن ربطاً بين المحرقة وقيام الدولة الصهيونية يحيل إلى ما بات معروفاً من أن عدداً من الناجين من هذه المحرقة تركوا سواحل أوروبا لاجئين ووصلوا إلى سواحل فلسطين مستوطنين مستعمرين مسلحين. عدا تأكيدات أخرى بأن ثلث جيش الهاغاناه عام 1948 كانوا من الناجين من المحرقة الذين اشتركوا في طرد الفلسطينيين وفي ارتكاب الكثير من مذابح حرب 1948. وهو ربط تاريخي له مصداقيته ويدفع بإدانة مجرد التفكير بزيارة متحف حرصت إسرائيل على استدعائه مراراً وتكراراً مقروناً بحق إسرائيل في الوجود كدولة استعمارية صهيونية, لذلك يستنكر قراء رواية " مصائر" هذه الزيارة من منطلق ما يعرفونه من أن إسرائيل تتقصد هذا الربط بين المحرقة وإقامة دولتها كما ذكرنا آنفاً, أضف إلى ذلك أن اعترافاً بالمحرقة لا يبرر زيارة متحف بناه الناجون من غيتو وارسو أساساً على أنقاض القرية الفلسطينية المهدمة, وهم أنفسهم من قام بسرقة ونهب الممتلكات الفلسطينية بمنطق أن شعباً مطارداً لا يملك سوى أن يفعل هذا. عدا أن هذه الزيارة تحيل القارئ بلا ريب إلى حادث زيارة أنور السادات عام 1977 إلى متحف المحرقة بمصاحبة بيغين في تعبير مهين يعبر عن انصياع رمزي لمروجي الدعايات الإسرائيلية. كما لا يجوز أن نتغاضى عن جدار كامل في هذا المتحف الذي يزوره باقي ( يد فشم) خصصته إسرائيل لتثبيت دور مزعوم للمفتي (أمين الحسيني) في الإبادة اليهودية.

وأرى إدوارد سعيد هنا يطل علينا بالقول: " في زمن ما زالت تؤخذ فيه الأرض الفلسطينية, وتهدم فيه بيوتنا ويخضع وجودنا ذاته للإذلال والأسر المفروض علينا من إسرائيل وكل من يدعمها في أوروبا وخاصة الولايات المتحدة, إني على يقين بأن الكلام عن العذابات اليهودية السابقة يظهر وكأنه ضرب من الوقاحة".