الحدث- أصالة بواية*
يدٌ تحط على كتفه بثقل؛ لتخرج من ضابط المخابرات هذه الكلمات: "شكلك رح تتغلب معنا بنصحك تجيب سلاحك وتسلمه لتخفف عن حالك تعب التحقيق" فجاء صوت سابا يقول "شكلك مخربط بالعنوان".
قبل دقائق من ذلك، وفي منتصف ليل من شهر كانون الثاني قارص الشتاء، كان جيش الاحتلال يحيط المنزل بالكامل، بيت فارغ سوى من سابا وأمه وأخواته الثلاث، فقبل شهر توفي والده، وأجواء الحزن مازالت ملتصقة بالجدران، مثلما التصقت صور سامي شقيقه الأكبر الذي توفي إثر فشل كلوي، سامي الذي اعتقل مرارا وتكرارا في أحداث الانتفاضة الأولى، لذا لم يكن مشهد اعتقال سابا شيئا جديدا ومرعبا للعائلة.
اقتادوه من المنزل وهو يحمل عمره الواحد والعشرون، واضعين عصبة سوداء بظلام تلك الليلة على عينيه، بعد ساعة وصل إلى ثكنة عسكرية بعدما صعد في داخل جيب عسكري يبعد حوالي 100 متر عن منزله، ليخرجوه هناك غي الثكنة، ويلقوا به أرضا، كما ألقي بقطرات الأمطار في تلك الليلة من السماء.
هذا خائن ولكنه ضمه
يدان مربوطتان وعينان لا تبصران، وإحساس يشعره بمن حوله، هنا شاب آخر ملقى على الأرض، لا، كانوا اثني عشر شابا، وجميعهم من نفس البلدة (بيرزيت)، تم اعتقالهم تحت عنوان "مخربين" لا "فدائيين".
نقل سابا من الثكنة العسكرية إلى سجن عوفر؛ ليمكث هناك 12 ساعة، وبعدها يصعد في سيارة تابعة للتحقيق، سيارة اقتادته ألى المصير الأسوأ "غرفة التحقيق"، وصل هناك، وقد فرض عليه أن يمشي بهدوء واضعا عصبة جديدة على عينيه، فجأة جاء صوت باب حديدي، ثقيل، يفتح بهدوء شديد، هناك كانت زنزانة صغيرة باستقباله لدقائق قبل بدء التحقيق، ضوءها أصفر خافت، وجدارنها الرمادية ذات ملمس خشن؛ حتى لا يستطيع إسناد ظهره بثقل أفكار رأسه عليها، كانت غرفة قذرة جدا، ولكنها أقل قذارة من المحققين.
في داخل غرفة التحقيق، كان هناك خمس محققين يحيطون به كالكلاب التي تتسابق لالتهام الفريسة، يداه مقيدتان ورجلاه أيضا، أما أفكاره كان متشبثة بجدران رأسه ترفض الخروج، امتدت جولة التحقيق الأولى ثمانية أيام، وتجزأت لجولات عديدة، تعددت فيها أساليب التحقيق المتعبة لجعله يعترف، وفي كل جولة كان ينسحب المحققون خارج الغرفة، فينام سابا متكئا على كرسيه لدقائق معدودة، وبعدها يعودون بأساليب أكثر عنفا.
كثرت جولات التحقيق وطالت دون جدوى، حتى جاء اليوم الثاني والخمسين من اعتقاله، فدخل على غرفة التحقيق شخص يحمل أثقال عذاب نفسي وجسدي، وشفتاه تنطق بصعوبة، كان مظهره يظهر بأنه رأى الموت بعينيه حتى اعترف بالحقيقة، كان ذاك الشخص شريك سابا بالأعمال الفدائية، وهنا كانت نهاية كل شيء، لدى مخابرات الاحتلال.
حياة ما قبل الاعتراف مذلة، ومهينة، وعذاب يرى الأسير من خلاله الموت ألف مرة؛ ليأتي أحدنا ويقول: "هذا خائن"، ولكنه بقي بنظر سابا فدائيا، فعندما دخل الزنزانة وضعوه معه، آملين أن يشاهدوا سابا يهاجمه، ولكنه استقبله بحب غائب عاد إلى وطنه فضمه.
أم .. وألم .. وعيد فصح بالمحكمة
من زاوية منزل صغير بقي سابا يسترق النظر إلى والدته وهي تحيك أعلام فلسطين التي كان يمنع رفعها في ظل الانتفاضة الأولى، وعند منع التجول تقوم بوضعها داخل أكياس بين حطب الشتاء، نظراتٌ علمتْ سابا معنى الوطن، تماما كما علمته كلمات أمه القوة عندما تم اعتقاله، حيث لحقت به قائلة: "ما تقلق فيهم هدول، شد حيلك، هدول ما بخافوا حد، الله يحميك"، وهذه الكلمات التي رافقته في تنقله بين سبعة سجون.
جاء وقت اللقاء الأول بعد خمسة أشهر من اعتقاله، استعد له جيدا محاولاً إخفاء تعبه وإظهار قوته، ولكن خانه نحول جسده، زجاج لعين يفصل بينهم، وساعة تحسب كل دقيقة، وعند الدقيقة الـ 45 ينتهي اللقاء، وصوت يسير في سماعة، انتهى اللقاء وبقي الجدار يمنع الأحضان من الالتقاء، كما منعهم القاضي في قاعة المحكمة أيضا من الاحتضان في عيد الفصح.
بقي سابا يتنقل بين سجن الرملة ومحكمة عوفر لمدة عامين ونصف، وبعد ذلك أبغله المحامي أنه توصل إلى حكم يقضي بسجنه 14 عاما، فقرر سابا استبدال المحامي بمحامية أخرى، وجاء بعد ذلك موعد المحكمة، في قاعة المحكمة جلس سابا وأمه وأخته برفقة ابنتها، بانتظار صدور الحكم النهائي، لحظات خوف وقلق، وأرجل تهتز من التوتر، وعيون أمه متماسكة تمنع دمعتها من النزول، فجاء الحكم النهائي بالسجن 15 عاما، 9 أعوام فعلية و6 أعوام مع وقف التنفيذ، فنزلت دمعة أمه مصحوبة بجملة: "ولا يهمك يمه السجن ما بسكر على حدا".
بعد ذلك طلب القاضي من سابا التحدث فما كان إلا أن طلب احتضان أمه لانه اعتاد أن يحتضنها في كل عيد فصح، فجاء الرد من القاضي: "إن المحكمة ترفض طلبك؛ لعدم المساس بالأمن"، ونسي القاضي أن الأمن والأمان في أحضان الأم.
روتين 9 سنوات كُسرَ بالإضراب
عاد سابا إلى السجن بعد المحكمة؛ ليقضي روتينه مع أصدقائه داخل السجن بين الرياضة، وإعداد الفطور، والمطالعة، بالإضافة إلى نقاش رافقه في سبعة سجون من جنوب فلسطين إلى شمالها، ليصل سجن الدامون في جبل الكرمل، ويبقى بينه وبين بحر حيفا "جدار" يمنع نسمات هوائه من الدخول.
أما في سجن بئر السبع، بدأ سابا يطالب بكرامته عندما يحاول سجان يقف على باب السجن انتزاعها، فأعلن إضرابه المفتوح عن الطعام، كان ذلك أول إضراب له في سجون الاحتلال، ودام لتسعة أيام، وصفها بالقاسية، وانتهى الإضراب بسبب سوء إدارة المعركة من قبل قيادات الحركة الأسيرة.
إضرابه الثاني كان بعد 8 سنوات ودام 28 يوما، واستطاعت الحركة الأسيرة من خلاله، الاتفاق مع إدارة السجون بوساطة مصرية على تلبية مطالبهم، والتي كان أبرزها إنهاء ملف العزل، وإخراج المعزولين، وعودة زيارة أهل غزة التي انقطعت منذ خطف شاليط.
التقاء الأحضان والاستعداد للتخرج
على حاجز ترقوميا في مدينة الخليل، الأجواء باردة تماما مثل أجواء اعتقاله، ولكن الأرض يكتسيها بياض الثلج، وقلب أمه مفعم بالفرح، في 12/10/2013 تم الإفراج عن سابا شاهين، استطاع احتضان أمه قبل احتضان الحرية، فلا معنى للحرية بعيدا عن حضن الأم، وعاد إلى غرفته التي لم يتغير بها شيء، ودخل جامعة بيرزيت، وتحديدا الإعلام والصحافة، واليوم ها هو يقف على عتبة التخرج، بعدما وقف على عتبة السجن، بعمره الثالث والثلاثين.
نحن لا نملك إلا حزن لحظات على قصصهم، نحن لا نعرف جميع قصص الأسرى، فهناك قصص لن ولم نسمعها؛ لأن صاحبها حكم بالسجن مدى الحياة، وهناك من استحال جثة هامدة في مقبرة الأرقام، نحن لم نعش ذاك الشعور تماما كما لم نعش معنى الحرية، فنحن كما قال محمود درويش: "نحن لم نحلم بحياة أكثر من حياة"، في ظل السجن الأكبر وهو الوطن.
."هذه القصة من إعداد الصحفية أصالة بواية، وهي طالبة إعلام في سنتها الرابعة في جامعة بيرزيت، متدربة في صحيفة "الحدث