الخميس  02 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

تأملات في سكن الطالبات/ بقلم: دعاء صرصور

2016-12-06 10:23:42 AM
تأملات في سكن الطالبات/ بقلم: دعاء صرصور
دعاء صرصور

 

الحدث- رام الله

سبعة ركاب، سبع حكايات مختلفة ترتسم على الوجوه، سائق ينطلق كسولاً بشكواه وتذمره الصباحي، رائحة القهوة في الفناجين الورقية تملأ المكان، اختطفها كل واحد منهم سريعاً مع قوله: "خلينا نصحصح من بدري"، صوت فيروزي يصدح  من المذياع المتهالك، ومركبة تحاول جاهدة ابتلاع الطريق المليء بالمطبات والمناطق المتعرجة.

 

من هنا يبدأ المشهد الأسبوعي، الكل نائم في فراشه الدافئ إلا تلك الفتاة، تغادر في صمت رهيب خشية إيقاظ  النائمين، أو ربما خشية إيقاظ حنين أسري يتنامى في داخلها.

 

ومن هذا المشهد إلى مشهد آخر حيث الدخول إلى السكن قبل بدء دوام يوم السبت البغيض بلحظات، في محاولة لكسب عدة دقائق لإعداد الحاجيات، وتنظيم ما تبقى من اليوم، أقف أمام المرآة أبذل الجهد في مد شعاع دفء من مكان تمكث فيه أمي لكن لا جدوى، فأهمهم في ألم "شو بدو يقعدنى بعيد عنها!".

 

ثلاث سنوات على نفس الحال، أسبوع من قصص وحكايات مختلفة، وجوه تجري في الأفق، وأحاديث مع الاصدقاء والمعارف، وفي نهاية كل حديث أتذكر جدران سكن باردة تنتظرني، أتنافس مع غيري من طالبات السكنات في تضييع الوقت لعل بضعا من الزمن ينسينا ما تركنا من عطر أمهاتنا الزكي.

 

ولكن في النهاية يمضي بي الوقت فلا أجد نفسي إلا بين ذات الجدران التي خشيتها، لا صوت يدعوني إلى سهرة مسائية جميلة، ولا خطوات أبي عائداً إلى المنزل في المساء حاملاً أكياسه الكثيرة.

 

مشهد آخر يمضي متمثلا بفتاة  تعد طعامها لوحدها، لا نكهة فيه بلا مشاركة، تحاول التدبر وحدها، فدراسة وسهر وشوق، كل ذلك في سكون المساء الموحش، ومن أرَق السكون إلى قلق التفكير في والدتها الوحيدة طوال اليوم حيث لا سبيل للتسلية سوى التلفاز، اأها التي تقضي معظم وقتها تتصفح القرآن، تدعوا بأن تجمع عائلتها طاولة طعام واحدة، بعد أن تشتتوا هنا وهناك، وأصبح لم شملهم من معجزات الواحد القهّار.

 

أمي الوحيدة هناك، لا تستسلم لكوننا افترقنا، يظل قلبها الكبير يردد أننا لا زلنا صغاراً، تنتظر آخر الأسبوع بشوق وتوق، تقضي أسبوعها تحفظ لنا من الطعام أطيبه، و تخبئ لنا في خزانة نعرفها جميعاً "الزواكي" حتى إذا دخلنا المنزل ركضنا إليها، نأكل من طيب أمي وحنانها علينا.

 

أمي التي آثرت أن تلزم البيت فينا صغاراً، وأعطتنا شبابها، لنتركها في شيبها وحيدة.

 

مشهد آخر يلوح حيث  أتذكر أول ليلة، حين غادرت أنا آخر العنقود عشنا الصغير، أذكر كيف بكيت كثيراً حين لم أجدكم تدثرون بردي من هواء الدنيا الجارح، فأمسيت مثل محمد صلى الله عليه وسلم بدون بنت خويلد  لتدثره، ترى ما هو شعور أمي عندما أصبحت غرفنا خالية، تدخلها أمي غرفة غرفة كل صباح فلا ترى سوى أسرّة خالية مرتبة، ولا أثر فيها لنا.

 

السكن بوحشة ظلامه وما يمثله من غربة يتراءى أمامي في كثير من الأحيان، فإذا أوقفنا حاجز إسرائيلي أرى فيه السكن، فيزيد التذمر في مشهد المركبة حيث سبعة أشخاص مع سائق تحت أمر مجند لم يتعدى العشرين، ولم تنبت سوى شعيرات ضئيلة في وجهه طويل السوالف، هذا المشهد لا يذكرني إلا بوحشة درب أواجه فيه صعوبات الحياة دون نصير، وجل ما أملك بضع دقائق هاتفية تربطني بأمي فاستشعر حنانها وأواسي فيها بعدي، ثم أستيقظ صباحا فلا بسمة أو قبلة صباحية، ولا صراخ أبي يبحث عن ماكينة الحلاقة، ولا نداء أمي "قوموا أفطروا" .

 

كما كان السكن سر لجوئي، هو كذلك سر لجوء كثيرين ممن يعانون المعاناة ذاتها، وكما اجتمع لاجئان تحت خيمة الأونروا في نكبة فلسطين، نجتمع في غرفة معيشة السكن، نداري شوقنا بالضحكات، نتعاون مساءاً لنعد وجبة عشاء مقنعين أنفسنا بلذتها، ونتقاسم أدوارنا كأخوات، نتحايل على المحن معاً، نسهر على راحة من باغتها المرض فلازمت السرير، فتتناظر الأدوار بين أخت كبرى وأم وخادمة وممرضة، ودور نتسابق على أخذه وهو الجلوس في خمول وتوزيع الضحكات وتكوين حلقات النميمة.

 

يمضي الأسبوع كأنه يقضم من الدهر سنينا وفي نهاية الأسبوع لا تبرح الأيام إلا ثواني فتدور عجلات "الفورد" هذه المرة باتجاه معاكس، نحو البيت، نحو أمي وأبي قريبتي الصغيرة نور، والتي تنتظرني هي الأخرى على أحر من الجمر ببراءة الأطفال حيث يقولون دائما أنها لا تسمع كلام أحد إلا كلامي ولطالما أسعدني ذلك، ينتهي الدوام، أودع أصدقائي بسرعة متناهية، لأدخر لأمي كل شعور وضحكة وفرح.

 

 مشهد أخير، رحلة عودة  قصيرة جداً، وحكايات ركاب سعيدة وفرحة، وفتاة ترغب في أن تشارك غبطتها مع كل ملتفت، حيث أنها عائدة إلى حضن أمها، لتعويض أسبوعا من الوحشة تسهر حتى الصباح، وتستنفذ كل ساعة لتغدو كثيرة لا يضيع منها شيء.

دعاء صرصور: طالبة اعلام في سنتها الرابعة في جامعة بيرزيت، ومتدربة ضمن فريق إبداع الحدث