الخميس  02 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

أمير داود يطلق سردية متأرجحة بين الحاضر والماضي تحت عنوان "صديق نقطة الصفر"

2016-12-08 09:48:39 PM
أمير داود يطلق سردية متأرجحة بين الحاضر والماضي تحت عنوان

 

رام الله- الحدث

 

وسط حضورٍ نوعي عجت به قاعة الجليل في متحف محمود درويش في مدينة رام الله، اطلاق الكاتب أمير داود مساء الأربعاء إصداره الأول "صديق نقطة الصفر"، الذي استقبله البعض بوصفه سيرة ذاتية، وتناوله البعض الآخر باعتباره أحد السرديات الفلسطينية.

 

وبين هذه وتلك جاء تقديم الشاعرة والكاتبة هلا الشروف، ودار الحوار بينها والكاتب من جهة، وبين الكاتب وبعض الحضور ممن سجلوا مداخلات متباينة حول فحوى الكتاب الذي تلقفه جمهور الكاتب ومتابعيه بترحاب كبير.

 

وزين كتاب "صديق نقطة الصفر" الذي صمم غلافه الشاعر زهير أبو شايب، وجاء في 152 صفحة من القطع المتوسط، عن الدار الأهلية للنشر والتوزيع في الأردن، لوحة الغلاف للأمريكي ريتشارد سييرا.

 

من جهتها فككت الشاعرة الشروف فحوى الكتاب في قراءة، استطاعت من خلالها أن ترسم للحضور المتلقي والقارئ المتفحص ملامح ما اقترحه الكاتب "أمير داود" في هذا الكتاب من صناعة للذكريات الممزوجة بالكثير من الهواجس المُتأرجحة بين الحاضر والماضي.

 

وجاء فيما كتبت الشاعرة هلا الشروف:

 

كيف تنمو شجرة الذاكرة؟ ومن أي نبعٍ تشرب؟ من أي بذرة حقيقة أو وهم تبدأ؟ من هي؟ أو ما هي؟ من منا يصنع الآخر؟ ومن يقتات على الآخر أو يطعمه؟ ومن منا صاحب السطوة والسلطة والقدرة؟

 

وإذا كنا غير قادرين، رغم كوننا أبطال الكائنات الحية كلها، على إمساك "الآن"، فما الذي نفعله حقاً على هذه الأرض؟ نحن في الحقيقة لا نفعل شيئاً سوى صناعة الذكريات، نحن الكائنات المتفوقة لا دليل لنا على حيواتنا سوى تلك الخيوط الواهية الرفيعة التي تعيدنا للوراء، والبقع المضيئة والمعتمة في صفحة الحياة، وأفعال مثل "كان وكنا". نحن لا نملك شيئاً سوى أن نقول: فعلنا، وكل ما سنفعله في قادمنا هو المضي بخطىً واثقة نحو رصيد أكبر من الذاكرة، ورصيد أقل من السنوات. والحقيقة هي: أننا لن نعرف من منا يصنع الآخر، نحن أم ذكرياتنا، ولكننا ندرك، أن أي فعلٍ مضى وانقضى هو ماضٍ لا يعوّل عليه سوى بالأثر. أي حادثة أو حديث، أي قائلٍ أو مقولة، أي فعلٍ أو فاعلٍ، وأي مسار أو طريق نمرُّ به أو نقطعه أو ندور حوله، كلها، بمجرد انقضائها أو حدوثها أو التفاعل معها، تصبح ذاكرةً محضة، إلا بحجم ما تترك فينا ونترك فيها.

 

وإذا كنا أيضاً ندعي أننا أبطال حيواتنا أو ضحاياها، فلماذا ننحاز للمستقبل، ونغرق في تمجيده وانتظاره رغم أننا ننظر للأثر الذي أحدثته الحياة فينا وأحدثناه فيها على أنه نقطة الفصل؟ لماذا هذا الانشغال الدائم بما كان؟ ورغم ذلك محاولة التحايل عليه أو التخلي عنه؟

 

هل هناك خط فاصل بين ما نحن عليه وما شكَلنا وأنتجنا وبنى محتوانا الداخلي طوبة طوبة، وفكرة فكرة؟ في الحقيقة لا أعرف، ولكن ما أعرفه أننا كائنات افتراضية لولا هذا الكائن الحي الذي يسمى الذاكرة، لكن قلة قليلة منا تظل قادرة على استحضاره كلما أرادت ذلك، أحد هؤلاء هو أمير داوود، أو "أمير المتوحدين على وجه الأرض".

 

في "صديق نقطة الصفر" يفرط أمير داوود ذاكرته في وجهنا مثل حبة رمان طازجة، يجرحها من طرفها القاسي حتى تخرج حباتها حمراء كاملة، حبة حبة، دون أن ينز منها ما يفيض عن حاجات البكاء والضحك.

 

كل شيء هنا خفيف وثقيل، خفيف علينا، ثقيل على صاحبه، إذ كيف يمكن أن تكون "أنا" الكاتب بهذا التراوح بين التراجيدي واليومي، بين الذاتي والعام، وبين الانتصارات الكبرى والهزائم الأكبر على امتداد 150 صفحة، دون أن نفهم أن وراء هذه الكتابة نزفاً من نوع ما؟ والنزف هنا ليس فيزيائياً ولا أحمر، إنه إفراغ للمحتوى، وإفراغ للعاطفة، وإفراغ للذهن.

 

ليست الميزة في التذكر، فكلنا نتذكر، إنما الميزة في إخضاع الذاكرة لسيلان الحبر. يقطع بنا أمير داوود سنواته كلها عبر روائية فذة تقترب من الكشف وتبتعد عن رواية سيرة ذاتية بالمعنى التقليدي. إنه يفعل بنا في هذه الكتابة ما يفعله بالجالسين معه على طاولة صغيرة في أحد المقاهي: يتحدث، هكذا ببساطة، ويسمّي الأشياء بأسمائها الحقيقية دون مواربة أو عمليات تجميل تصعد بالمعنى إلى لغة أدبية مفرطة في الرمزية، إنما هي لغة حديثه في أقصى درجات توازنها ووضوحها وشفافيتها. ويفعل بنا أمير ما تفعل به الذاكرة: تصعد به وتهبط، فيصعد بنا ويهبط، إنها ذاكرة انتقائية ولكنها غير عشوائية على الإطلاق، تقف عند حدود واضحة من الأحداث والمشاعر والفوضى الداخلية والأسئلة الكبرى، ببساطة في النقل وبداهة في اللغة، تجعل من فعل كتابتها (لمن جرّب الكتابة وعرف أسرارها) فعلاً قريباً من اللا ممكن، ليس من حيث القيمة فقط، وإنما من حيث القدرة المدهشة على استرجاع الأحداث وتداعياتها بخفة الواثق من قدرته العالية على السرد.

 

يبدو "صديق نقطة الصفر" وكأنه استدعاء للوطن الفلسطيني بكل جراحاته وعذاباته وأسئلة ساكنيه ومُبعديه وضحاياه، إنه هكذا وغير ذلك، فهو لا يقف في نقطة المأساة أو التاريخ العام، إنما يتقافز بينها وبين الأكثر خصوصية، فهو ليس سيرة وطنية، إنما ذاكرة فردية يتخذ فيها الاحتلال شكل الأرضية الداكنة للنسيج النصي، ويأخذ الوطن فيها شكل النسيج الحقيقي للذاكرة، بينما يأخذ النص الموزع على الفصول هيئة الرحلة التي تنتقل بين الأزمان، فالزمن لا يتصاعد، إنما يضيء على شكل لقطات وومضات مطبوعة في الذاكرة، يربط شتاتها خيط رفيع يتراوح بين الانتفاضتين الفلسطينيتين، ويمتد أحياناً ليصل إلى بقع أكثر بعداً وضرباً في الذاكرة العائلية والجمعية.

 

هذا كتابٌ للآخرين رغم كونه "هواجس من ذاكرة" أمير داوود الشخصية، وبهذا أعني أن فيه انتصاراً لكل ما هو غير ذاتي، فيه انتصار للتاريخ الفلسطيني وللذاكرة الوطنية، وسخاء في الحديث عن بطولات الآخرين، بطولات الفدائيين والشهداء والمطاردين والقادة والرموز والفلاسفة والآباء والأمهات والأبناء والأطباء والممرضين، وانتصار للأفراح الصغيرة والأحزان الصغيرة، فيه إنصاف للنكبات والصفعات والانقسامات، وللتضحيات، إنصاف للمدن وللقرى والمخيمات، إنصاف للصورة ووصفها، للأصوات وشرحها، للأماكن والانتماء إليها، وانتصار للغة بأن تحمل كل هذا بطواعية وشفافية وعاطفة عالية وسخرية متقدة.

 

لكن هذا الكتاب لا يدّعي شيئاً لصاحبه على لسان صاحبه في المقابل. يظهر أمير داوود في كتابه هذا بالأنا الحقيقية كما يراها ويعرفها. بلا شعارات كبرى أو بطولات ذاتية، ينكشف أمير أمام نفسه وأمامنا، ويغرق في الحديث عن علاقته مع الأشياء اليومية والبسيطة، ويقدم لنا سلسلة طويلة من الاعترافات عن هواجسه ومواطن ضعفه وأسباب انكساراته المتكررة، عن خوفه المعلن والحقيقي من عشرات الأشياء التي تبدأ بالزواحف وتنتهي بالموت على حاجز عسكري، عن سقوطه في متاهات لا نهائية، وعن هروبه في حالات الخطر الداهم، وعن احتفائه بالنجاة حتى اللحظة من أهوال الحياة الفلسطينية اليومية، فالذاكرة احتفال بالنجاة، كما يقول أمير، وعن حبه المعلن للكسل والضحك والمجانين، وعن كونه شخصاً كثير الاعتراف والكشف، وعن كونه صديقاً ملازماً لنقطة الصفر، فهو، كما يصف نفسه، عداء في حلبة سباق دائرية، كل نقطة تذهب به إلى الأمام تكون تحت تهديد عشر خطوات إلى الوراء، وهكذا، فإنه يفكر في الخطوات العشر قبل الذهاب في الخطوة الواحدة الوحيدة، فلا يتقدم إلا نادراً، وإن حدث، تصير الأمور مدعاة للشفقة، وفي مرات أكثر، للضحك الكثير.

 

عن الكتابة يقول أمير داوود إن الكتابة "رحلة كشف وتعرٍّ تبدو ضرورية دوماً مع الذات، بالحد الأدنى لنا، نحن سلالة أحلام القلق والخراب والحروب البعيدة".

 

ومن جهتي أستطيع القول إن هذا كتاب اعترافات وانكشاف وصدق خالص، كتاب في معرفة الذات وليس في الحديث عنها، كتاب استخلاصات وفلسفة تكاد تصل حد التقشف في تقديم نفسها بلا ادعاءات الثقافة، وكتاب يكشف عن ثقافة واسعة لصاحبه بلا تكلّف ولا استعراض، وعن الهوس الشخصي والإصابات الخفية التي تحدث شيئاً فارقاً في النفس دون القدرة على تعريفه. كتاب عن الأوطان التي تحب أبناءها وتأكلهم، كتاب عن البدايات والنهايات، وعن إصابات الحياة والاقتراب من الأسئلة الأصح دون محاولات البحث عن إجابات بحد أدنى من الصواب، كتاب عن الخوف الإنساني واللاأدرية التي تلف كل شيء من حولنا.

 

 "صديق نقطة الصفر" هو رحلة في الهواء الطلق، ومتعة لا نهائية بين دفتي كتاب يستحق مكاناً رفيعاً في المكتبة الفلسطينية.

 

يقول أمير إن الكتابة عنده احتفال جواني جداً أمام هزيمة الحياة الكبرى التي اسمها الحياة. وقراءة هذا الكتاب هيأت لي احتفالاً جوانياً بذات القدر من السعادة، شكراً أمير داوود على هذه المتعة الخالصة.