السبت  18 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الطُّعْمُ/ بقلم: طارق لحمادي

2017-01-24 10:08:44 AM
الطُّعْمُ/ بقلم: طارق لحمادي
طارق لحمادي

 

في أيّ يوم يمكن أن يحدث ذلك، العمل غير قارّ، مساحة الحرّية واسعة باتساع مزاجه، لا أحد يزجره، ولا من يسأل عن سبب غيابه مثلا، حتى معارضة الأصدقاء فإنه يدلّلها بالضحكة البريئة الصافية الطالعة من القلب، وهو يقول:

 

- يا أخي راني نخدم عند روحي..

 

العمل عند " الحكومة " مشكلة على حدّ قوله، لا يمكن له أن يصمد فيه، الرّوتين المميت لا يناسب مزاجه المتقلّب، وسجن الوظيفة المضبوط بدوام الساعات والأيام لم يُخْلَق لمثل أجنحته، هو هكذا حرّ وفارغ من أيّ التزام يفسد عليه متعته، ومتعته في عمله المطلق، يفعل ذلك أنى شاء، حتى لو دعت الضرورة لطرده من العمل - وهذا نادرا ما يحدث - فسوف يجد له عملا بديلا، يده مطلوبة وثقة النّاس به تفوق تملّصه من عمله بين الحين والحين، إذ يكفي أنه ابن حلال، وأنه يشتغل كبغل، ويخلص في أداء ما أوكل إليه من مهام، ولكن مشكلته، كل مشكلته أنه غير قادر على مجاراة نظام النّاس والتزاماتهم، ففي أيّ يوم يمكن أن يحدث ذلك، فعمله غير قارّ، ولا ضير إنْ غاب يومًا، يوم واحد هو كل ما يلزمه ليمضي بعدّته إلى البحر..

 

في ذلك اليوم الذي قرّر فيه كانت هي قد تحضّرت، شطحت في الماء، غاصت في العمق، أفرغت جسمها من ثقله، بدا وزنها ميّتًا، ما سمح للتيار بحملها في خفّة ريشة، ثم استيقظ وعيّها فجأة، فاندفعت بخيشومها نحو الحيد البحري تتشمّم الرّوائح والذكريات، لا أكل، لا جثّة يمنحها البحر مكافأة لهذا السعي الحثيث، سرب السردين خلفها يتدافع، ينزلق في الزّرقة، يعلو قليلا، يبطئ، يسرع، يدور، يلتفّ، ينفتح، ثم يهرب بعيدًا، الصخور تبدو خضراء من أثر ما علق بها من نباتات، تتلألأ المياه في العمق، يلمع جسمها الفضّيّ تحت أشعة الشمس المتسلّلة من السطح، تحيد عن الصخر باستدارة كاملة، ثم تشقّ طريقها رأسًا نحو الأعلى، صلبة العود، رشيقة القدّ، والسرب يتلاشى، في كل اندفاعة يتغيّر إيقاع تركيبه، كرة كبيرة مهتزّة الحواف لا تترك من أثر يدل عليها غير هذه الفقاعات المائية التي تنطفئ بعد حين، أما هو فقد سار معتمدا على هذه الدندنة التي يقتل بها وحشته، فقبل قليل افترقا بعد أن اقتسما الطّعم:

 

- سأقصد الرّوشي " rocher " قال

 

على الرّمل ترك آثار سيره، " الصاك ادو " على ظهره والسنّارة مثنية في يده، بدا من جرّ رجليه كأنّ التعب قد استبدّ به وهو يتنقّل من نعومة الرّمل إلى قسوة الحجر، استند بيده على نتوء الصخرة، ثم دفع جذعه برجله اليمنى متخذًا لليسرى موضعًا حيث يمكنه أن يستمر، الحيد الصخري يتثعبن، نتوءات صخره عند المنحدر كجلد قنفذ، إنّ أبسط زلّة قد تلقي به إلى القاع، ثقل " الصاك ادو " يربكه، لكنه يتشبّث بمهارة قرد، ويواصل تسلّق الجرف والغناء يسيل من لسانه..

 

على الصخر لا أثر للحياة، فقط القسوة والسماء والماء، يندفع بالحبو إلى أعلى المنتصف، ثم يميل فينحدر قليلا إلى أن يصل مكانه أين يتخذ من تلك البسطة موقعه الذي يشرف على الماء، من هنا سيكون بإمكانه أن يخدع " الشرغو " فحركة الموج التي يحدثها المد والجزر سوف تصطدم بالصخر فتتحوّل إلى نثار ماء مشتعل أبيض، رغوة زبد تتعانق ثم تنطفئ، وفي ظلام الصخر حيث لا يمكن لشعاع الشمس أن ينفذ، تتربّص هي..

 

فضّيّة الرأس، يتعانق لونها في تدرّجه نحو الجذع مع البياض، وتزيدها الخطوط الرّمادية الباهتة التي تقطع جسمها عرضيا فتنة اللؤلؤة المندفعة في الماء، باستطاعتها الآن أن تخدعه وهي تحتمي بالظلام وارتطام الموج، لن تمكّنه هذه الفوضى الهادرة من الرؤية وهو عالق هناك في رأس الصخر، عليه أن يستلّ السنّارة..

 

سحبها إلى آخر قدر من طولها، لن يرحم الشرغو اليوم، من السخف أن يعود خالي الوفاض، فتلك منقصة لا تليق بخبرته في الصيّد، ومن العار أن لا يجد في لسانه ما يسد رمق الحكاية حين يجمعهم سمر المقهى، سوف يتطاوس الرفاق كعهده بهم:

 

- قدّاه نسمكة صيّدت؟

بماذا يجيب إن كانت الخيبة حليفه؟

- ما كتبش ربي..

الضحكات تملأ المقهى والليل والفضاء..

- الموضع نحس..

 

التطيّر هو دين هؤلاء الصيّادين، الشّماعة التي يعلّقون عليها خيباتهم، لكنه لن يستسلم، رغم الطقس الهادئ الذي لن يكون في صالح شصّه، فسوف يحصل عليها.. واحدة.. اثنتان.. ثلاث.. مثل هذا القدر قد يلهمه سمرة فخر، وبسمة غرور تكشف لهم عن تفرّده في امتلاك السرّ..

 

- مطواعة تأتي، مستسلمة ترضخ، تقتربُ بالرّضا.. تنتش الطّعم، ثم...

 

أطعم الشصّ لحم السردين، فالشرغو في وقت وضع بيضه ولن يتوانى عن نهش ما يعلق أمامه، ثم راح يرخي الخيط من خلال حلقات القصبة مسندًا مقبضها النحاسي إلى ركبتيه، حتى إذا تدلّى أمسكها بكلتا يديه وطوّح بالخيط في الهواء حيث يقوده ثقل الرصاص إلى عمق الماء..

 

فريسة سهلة على الصخرة هو، وهي تتربّص، في عينيها المفتوحتين الحذر، في جوفها الجوع، بخيشومها تشمّ انتظاره، تشمّ قبضة يده المتأهبّة، بالصبر تدور في الماء، الظلمة والهدير، الموج يخفي مناوراتها، بطول البال يتسكّع في خيالاته:

 

- اصطدتها عند الجرف؟

- نعم.

 

يتمطّى الفرح في وجهه، الطفولة أنهار تجري على محيّاه، وهي لن تمنحه ما يتمنّى، دورة أخرى بتسارع مريع، اللحم يسيل بدم ملفت، تندفع بالحيطة، تقترب بالحذر، سوف تلتفّ الآن خلف هذه العوالق، تقترب أكثر.. أكثر.. كالسهم، بصدمة كهرباء تنهش المضغة، فينفجر صوت الجرس عند طرف نهاية القصبة..

 

كانت أسرع ممّا تخيّل، لم تمنحه فرصة العودة من خيالاته كي يشدّ بقوة ويسحب، خيّل إليه أنها نهشت قطعة من لحمه، خدعته بسرعتها، وعاد الجرس إلى صمته المطبق:

 

- الموضع نحس..

الموضع يناسبها، حيثُ الظلام والهدير، اندفاع الموج هو ما يخدمهما معًا.. لكن لِمَ لم تعلق؟..

ضحكوا بملء التهكم، وقال له أحدهم:

- من خيبتك..

- الطّعم..

- " اللي خانوه زنودوا يقول بيا السحور "

 

لطم الحجر، وبصق على البحر، الشرغو في الرّبيع يبيض ومن جوعه يلتهم كل شيء.

 

كان رنين الجرس يعلو ويخفتُ في نوبات قضمها، أسرع من يديه هي، وأمهر من حذر أذنيه، وهو يعلق طُعْمًا في شصّ انتظارها، هناك أعلى البسطة حيث لا تراه..

 

الشرغو نوع من السمك يعيش قرب الصخور البحرية

 

الصاك ادو le sac a dos حقيبة الظهر

 

الرّوشي rocher تسمية الصخر باللسان الفرنسي

 

" اللي خانوه زنودوا يقول بيا السحور " مثل شعبي يضرب لمن بعلق فشله على أسباب واهية.

 

*صدر له:

 

سارق الفرح قصص قصيرة عن دار التنوير الجزائر عام 2012.

 

طائر بلا روح بالإشتراك مع الشاعرة اللبنانية مريم الترك قصص قصيرة عن دار مؤسسة الرحاب الحديثة بيروت لبنان عام 2013.

 

الأجنحة والكشف بالاشتراك مع الشاعرة اللبنانية مريم الترك قصص قصيرة عن دار غوايات بيروت لبنان 2014.

 

حصلت مسرحيته الليلة الأخيرة على الجائزة الذهبية في مهرجان المسرح التجريبي طبعة 2010 التي قدمتها فرقة النوارس لمدينة البليدة.

 

قدّم المخرج السوري رائد جذبة قصة الخيبة كفيلم قصير في سوريا تحت عنوان موت بلون الغربة عام 2007.