الإثنين  06 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

معالم الطريق إلى إنعاش الأمل: حان وقت القرارات الجريئة والمؤلمة

2017-03-28 05:45:21 AM
معالم الطريق إلى إنعاش الأمل: حان وقت القرارات الجريئة والمؤلمة
مروان كنفاني

الحدث الفلسطيني

 

كتب عضو المجلس التشريعي السا بق مروان كنفاني لصحيفة الحياة اللندنية المقال التحليلي التالي يحاول فيها توصيف المرحلة الحالية التي يعيشها الفلسطينيون وإدراج الحلول لها.

 

وفيما يلي نص المقال:

 

ثلاثون عاماً من التناحر والتقاتل، بين أحزاب وفصائل فلسطينية، وبالذات بين الأكبر والأقوى، حركة «فتح» وحركة «حماس». وجهد جاد لتوسيع الخلاف وترسيخ الانقسام والتفرد بالسلطة على رغم أنهما يواجهان عدواً واحداً موحداً وقادراً وغير خائف ولا وجل من جهدهما السياسي ولا من نشاطهما المقاوم اللذين حققا لذلك العدو، خلال العقد الأخير على الأقل، أزهى عقود الأمن والأمان منذ إنشاء دولته الغاصبة على أرض شعبنا التاريخية. أرى اليوم أن واجبنا جميعاً، بأحزابنا وقيادتنا، يتمثل في فهم ومن ثم البدء بالعمل للخروج من الموقف العدمي الحالي الذي لم يتقدم بقضيتنا على درب السياسة والتفاوض ولا انتزع لنا نصراً في ميادين القتال، بل جعل خلافنا الأساس وجهدنا في محاربة بعضنا بعضاً هو الأولوية. لم يُنهك من خلافاتنا أحد إلا شعبنا، ولم يُقتل إلا شبابنا وأطفالنا، ولم تُهدم إلا بيوتنا. لم يمضِ على شعبنا يوم إلا وكان أمسه أفضل منه، ولن يأتي في المستقبل المنظور يوم إلا وغده أسوأ منه.

 

من يتكلم باسم الفلسطينيين؟

 

من يستطيع اليوم أن يقرر أو يدّعي أنه يتكلم باسم الشعب الفلسطيني أو بما يريد الشعب الفلسطيني، كل الشعب الفلسطيني؟

 

هل هو حكومة نصف الشعب الفلسطيني ومالكة الخمسة والثمانين في المئة من الأرض الفلسطينية المتبقية، أم تلك التي تحكم النصف الفلسطيني الآخر من السكان والسيطرة على 350 كيلومتراً مربعا ًمن تلك الأراضي؟

 

هل يستهدف العمل الفلسطيني السياسي والمقاوم ما تطالب به «حماس»، المتمثل بالمقاومة حتى استرداد الأرض الفلسطينية كافة؟ أم هو ما تؤمن به المنظمات الإسلامية التي لن تقبل إلا بالخلافة الإسلامية الحاكمة كل البلاد الإسلامية؟ أم هو برنامج الجبهات أصحاب نظرية من البحر إلى البحر؟ أم هو ما يتمسّك به أولئك الذين التزموا اتفاق أوسلو ويعملون من أجل تنفيذه؟

 

إن شعبنا لا يطمح اليوم إلى الحل الأمثل لقضيته، ليس لأننا لا نريده، ولكن لأنه غير ممكن التحقيق. إن وضعنا الداخلي الممزق، وعدم توازن قوتنا مع قوة إسرائيل، ولا تحالفاتنا بالنسبة إلى تحالفات إسرائيل، ومواقف الأمم المتحدة وغالبية دول العالم، واتجاهات الرأي العام العالمي، هي عوامل واضحة سبق لنا دفع ثمن باهظ ومؤلم لعدم إدراكها وتجاهلها. هذه العوامل ذاتها هي التي تفرض علينا، كما فرضت منذ ثلاثة وعشرين عاماً على الرئيس عرفات.. القبول بالحل الممكن حتى نتأهل، إن كنّا جديرين، لمرحلة الحل الأمثل. واقرأوا فصل الكتاب عن صلاح الدين الأيوبي.

 

إن المهمة الأولى والوحيدة في سلّم الأهمية الملقاة على كاهل الفصائل الفلسطينية وقادتها اليوم، هي العمل على إعادة الوحدة إلى الأرض والشعب. ووقف العمل والكلام حول المصالحة بين حركتي «فتح» و «حماس» وبدء الكلام والعمل لإيجاد صيغة يكون التوحّد فيها في مصلحة القضية والشعب لا مصلحة الحركتين فقط. أصبح من المعروف والمتفق عليه عالمياً في مبادئ العمل السياسي التحالفي والتوافقي أن أي حديث جاد للتوصل إلى صيغة عمل مشترك، سواء من خلال حكومة ائتلاف أم وفاق وطني، يتطلب التوصل المسبق من كل الأطراف المتعاقدة إلى برنامج سياسي مشترك تشكّل على أساسه، وتلتزم بنوده، حكومة الائتلاف أو الوفاق.

 

بعد تطورات ما يسمّى بالربيع العربي، والذي تلته الحروب الداخلية والمذهبية وتداخل وتدخّل الدول العظمى العالمية وتلك العظمى إقليمياً، وبعض الأحزاب المذهبية والقومية، في التسبب والمساهمة والدعم لتلك الحروب، تبلور واقع جديد من التحالفات الجديدة القوية حول قضايا قديمة وأخرى حديثة. أصبحت بذلك قضايا النزاع الثنائي، مثل النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي والأوضاع الداخلية اللبنانية واليمنية على سبيل المثل، قضايا نزاعات إقليمية وربما دولية، ولم يعد يملك فيها أطراف النزاع وحدهم صلاحيات اتخاذ قرار السلام أو الحرب. تلك كانت أخطر التطورات التي تمّت في هذا المجال، والتي أدّت إلى خروج قرار المصالحة من يد قادة الحركتين العتيدتين.

 

إن من يتفاوض اليوم حول الخلاف في سورية ووسائل تهدئته أو وقفه أو استمراره ليست الدولة السورية، أحد أطراف الصراع الأساسية، ولا الفصائل والقوى الثائرة، والتي يمثّل مجموعها الطرف الثاني في الصراع، ولا الدولة التركية التي يزداد كل يوم اهتمامها واشتراكها في الصراع، ولا دولة إيران التي تدعم بوضوح ملموس أحد طرفي الصراع، ولا «حزب الله اللبناني» وجنوده وقواته الواضحة المعالم على الأرض السورية. إن من يتفاوض اليوم ويفرض شروطه وأوامره، ويضع جدول وقف إطلاق النار ومدته، هو الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية، باعتبارهما رئيسي التحالفين الدوليين اللذين ينتمي كل أطراف الصراع إلى أحدهما.

 

عهد دولي جديد

 

علينا أن ندرك أن عهد اتفاقات السلام الثنائية مثل اتفاق وادي عربة بين الأردن وإسرائيل أو اتفاق كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل أو حتى اتفاق أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين، قد ولّى، وأن عهداً دولياً جديداً بدأ وهو عهد الحلول أو الحروب الإقليمية. إن الحل الفلسطيني سيدخل بنداً من بنود الخلافات الإقليمية وليس بنداً مستقلاً بذاته، وقد يكون حل قضيتنا مرتبطاً بالوضع في لبنان أو العراق، أو ربما بالاتفاق الذي تم بين الولايات المتحدة وإيران، أو ربما بما يحصل في اليمن اليوم. إن خطورة مثل تلك التحالفات الدولية والإقليمية التي اكتوى بها عالم القطبين منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى وحتى سقوط الاتحاد السوفياتي تتمثّل في رهن قضايا التحرر والاستقلال لاتفاقات دولية وإقليمية متشابكة ومعقّدة، فقد بقيت ألمانيا مجزّأة إلى نحو نصف قرن من الزمن بسبب عدم توصّل القطبين الأميركي والسوفياتي إلى اتفاق في شأنها، لأن البديل لفشل التوصل إلى تفاهمات واتفاقات بين قيادات التحالفات الدولية لحل المشاكل والخلافات العالمية، يفرض استمرار الأمر الواقع على حاله، كما تم في القرن الماضي بالنسبة إلى قضايا فيتنام وكوريا وكوبا وفلسطين ودول شرق أوروبا، إن أسوأ ما يمكن أن يتم في قضيتنا هو استمرار الأمر الواقع الحالي في غياب أي حل يتم الاتفاق عليه بين التحالفين الدوليين الحاليين.

 

إن قضيتنا اليوم ليست موجودة بجدّية على أي برنامج إقليمي أو دولي في العالم، ولا يبدو أن أحداً في هذا العالم يأبه لنا أو يهتم بنا، فما زالت فرنسا تلهث في الدعوة إلى مؤتمر حول قضيتنا، وقبلها فقدنا اهتمام الولايات المتحدة، وتجمّد اهتمام روسيا الاتحادية ولا تجد لقضيتنا مساحة في جدول أعمالها المزدحم في شؤون سورية وإيران ودول آسيا الوسطى ومجاهديها، هذا بعد أن استمر الدعم اللفظي والمالي من الدول العربية والإسلامية التي ما زال بعضها يترنّح من اهتمامات القطبين الأعظم الحقيقي في منطقتنا، ويبدو أن الأمم المتحدة تزايد اهتمامها بمساعدة اللاجئين في شكل كبير، ليس اللاجئين الفلسطينيين، بل اللاجئين الجدد الذين تقذفهم أمواج البحر الأبيض المتوسط إلى سواحل أوروبا.

 

شعبنا جزء من هذا العالم وهو شريك في تاريخ تجارب تلك الشعوب وخاضع مثلها لأسبابها ومجراها ونتائجها، ونحن لسنا أول شعب يواجه احتلالاً ولا آخر من تواجهه مثل هذه الظروف والصعوبات، ولا نحن أول الشعوب التي اكتوت بخلافات وصدامات وحروب داخلية. إن الاختلاف في الرؤى والمضامين السياسية والعسكرية والتحزّب والتفرد والرغبة في السيطرة هي عوامل تحيط بأجواء مختلف النزاعات والثورات والحروب لدى شعوب العالم كافة، وهي سبب أساسي للفشل أو لفرض منفرد للقوة بمفهوم الديكتاتورية وحكم الحزب الواحد. ولقد نزعت حكمة العمل الجماعي الطوعي خلال التطور في العمل السياسي والنضالي في القرون الأخيرة، للالتجاء إلى مفهوم اتفاق الأحزاب والقوى الوطنية حتى والكتائب والجيوش العسكرية المتحالفة على «برنامج عمل سياسي موحّد» وقد يكون مرحلياً، كأسلوب ووسيلة وحيدة لتحقيق أهداف معيّنة متفق عليها.

 

حرصت القيادة الفلسطينية في عهد الرئيس الراحل أبو عمار منذ البداية، على اتخاذ القرار بجماعية الأحزاب والحركات السياسية وكل المنظمات الشعبية والنقابات المهنية على رغم تشتت أمكنة الوجود وتعدد الأحزاب والحركات السياسية وصعوبة الملاحة في الأجواء والاختلافات العربية. هكذا تم التوصل إلى «فلسطنة» منظمة التحرير عام 1968، والخروج من عمّان ولبنان، ثم التصالح مع البلدين الشقيقين، والموقف من حرب العراق الأولى على غموضه وسوء تفسيره، والموقف الفلسطيني من اتفاق كامب ديفيد، وإعلان قيام الدولة الفلسطينية من الجزائر عام 1988 وما ترتب عليه من التزامات إقليمية ودولية، ثم المشاركة في مؤتمر مدريد، ومحادثات واشنطن، واتفاق أوسلو، وإعلان السلطة الوطنية والعودة إلى الأراضي الفلسطينية، وتشكيل الوزارات وخوض الانتخابات التشريعية، وإطلاق الانتفاضة، وحتى الإجراءات المتعلقة بوفاة الرئيس الراحل وانتخاب الرئيس الجديد. لم تمر تلك الأحداث من دون اعتراضات واختلافات في المواقف والتراشق بالاتهامات والغضب والانسحاب، لكنها لم تصل أبداً إلى مرحلة الانقسام والاستقلال والتفرد في القرار واستعمال السلاح بديلاً للتفاهم والنقاش، والانضمام إلى تحالفات إقليمية ودولية متبانية ومتعادية كما هي حالنا اليوم. استمر العمل بهذا التقليد والتقيّد بهذا العرف والمبدأ منذ عام 1968 وحتى بعد وفاة الرئيس ياسر عرفات وانتخاب الرئيس أبو مازن. انهار هذا التقليد تماماً بعد الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006 وما تبعها من انقسام وحكومات توافق قادت الشعب الفلسطيني إلى ما نحن عليه من حال.

 

لقد كلّمنا كفلسطينيين العالم كله في تلك الفترة، أصدقاء وأعداء، بصوت واحد وشعب واحد وبرنامج واحد، وتعاملنا مع العالم جميعه بقرار واحد وموقف واحد. خاض بنا ومعنا الرئيس الراحل معاركنا وتحدياتها، وأخذ بأيدينا، موحّدين ومتحدين، للعبور من عالم اللاجئين إلى واقع المواطنين، من مجموعة بشرية تراكض العالم لاستبدال حقنا في بلدنا بغمرنا بالمواد الغذائية ومسحوق العدس والحليب، إلى شعب سيد قادر، على أول طريق استرجاع أرضه وحُكم نفسه وصون حقوقه.

 

نجاح ومن بعده فشل

 

لماذا نجحنا بالأمس حيث فشلنا اليوم؟ لسبب بسيط ومقنع وهو أنه كان للقيادة الفلسطينية في تلك الفترة، على اختلاف فصائلها وحركاتها السياسية، برنامج عمل مشترك هو ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية الذي حاز موافقة كل الفصائل الفلسطينية وكذلك النقابات والجمعيات والاتحادات المهنية والطالبية في مختلف أراضي الوطن والشتات. إن أي مداخلة أخرى في حديث عن حكومة وفاق وطني في ظل الانقسام والبرامج السياسية المتضاربة هي مجرد ذريعة لتبرير الفشل الذي وصلت إليه الفصائل الفلسطينية المتنازعة، ومحاولة لا تهدف إلى مصلحة الوطن والشعب الفلسطيني، لكن هدفها هو مجرد اكتساب وقت للعودة إلى الصراع حول من يحكم ويسيطر على ما تبقّى من الأراضي الفلسطينية.

 

عندما اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية في مطلع عام 2001، تداعت القوى الوطنية والإسلامية والشخصيات المستقلة في قطاع غزة إلى دعم التوافق الوطني والعمل المشترك وتم تشكيل «اللجنة العليا للقوى الوطنية والإسلامية» من ممثلي جميع القوى السياسية وبعض الشخصيات المستقلة وترأس اللجنة إبراهيم أبو النجا من مسؤولي حركة «فتح»، وأدار اللجنة لنحو خمس سنوات في شكل عكس التوافق نسبياً على حركة الشارع الغزي في تلك الأيام العصيبة. كان النقاش في تلك اللجنة العليا مركزاً على التوصل إلى صيغة أو برنامج متفق عليه للعمل المشترك. وتم تكليفي ترؤس لجنة الصياغة التي ضمّت عدداً من ممثلي التنظيمات الأساسية وأُوكل للجنة التقدم بمشاريع وصياغات للتوصل إلى برنامج سياسي مشترك، الأمر الذي استغرق خمس سنوات عجاف فشلت فيها اللجنة في التوصل إلى اتفاق في هذا الشأن على رغم اقترابها كثيراً من نجاح محتمل.

 

البرنامج السياسي المشترك

 

منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا، بدأ الحديث غير المجدي عن تقاسم السلطة وتشكيل حكومة وفاق وهمية عام 2006 كان أهم إنجازاتها فصل قطاع غزة عن الجسد الفلسطيني.

 

إن عامل القوة الفلسطينية الأساسي ليس متعلقاً بالمقاومة المسلحة ولا بالجهد والتحرك السياسي الوهمي العديم الأثر، لأن إسرائيل قادرة على احتوائها والتعامل معها كما هي الحال التي نعيشها اليوم. علينا أن ندرك ما أدركه قبلنا الرئيس مانديلا إبّان صراعه مع النظام العنصري في جنوب أفريقيا، وأدركه المهاتما غاندي في الهند أثناء مقاومته الاستعمار البريطاني، وتعرفه إيران بعد ثورتها قبل عقود عدة وعدائها وتوعدها لإسرائيل الذي لم يتجاوز الخطب والتصريحات، وما أدركه قادة سورية ومصر والأردن في سبعينات القرن الماضي، والذي أدركه الرئيس المؤسس ياسر عرفات بعد إثباته وجود الشعب الفلسطيني وتميّزه، وما أدركه قادة «حماس» بعد جولات باسلة وتضحيات مؤلمة. جميع هؤلاء أدركوا أن الحل العسكري هو حل المستعمر والمستوطن وليس حل المستضعف والضحية.

 

العامل الأساسي للقوة الفلسطينية في صراعها مع قوى الاحتلال والاستيطان الإسرائيلي، الذي أثار قلق القيادات الإسرائيلية المتوالية منذ ما قبل إنشاء دولة إسرائيل، وأصبح أهم الأهداف الإسرائيلية في حرب إنشائها وحروبها التالية وما زال حتى الوقت الحاضر، هو بقاء الفلسطينيين على أرضهم، وأن تكون لهم صيغة كيانية سياسية منظّمة لحكمهم وإدارة شؤونهم، بغض النظر عن حجم تلك الأرض أو طبيعة ذلك الكيان ومدى استقلاله. ومن الطبيعي أن تكون للموضوع ذاته الذي يثير قلق الإسرائيليين، أولوية في استراتيجية أي قيادة فلسطينية. إن الوجود الفلسطيني على أي جزء من أرض فلسطين يمثّل عامل القوة الفلسطيني الأخطر والأكبر. إن هذا العامل هو وحده الأمل لأي انتصار حقيقي في المستقبل وإمكان تحقيق الأهداف الشرعية للشعب الفلسطيني.

 

في عام 1981، تشرّفت بمرافقة الرئيس الراحل ياسر عرفات في وفد ترأسه لزيارة اليابان وفيتنام، وبلدان أخرى، كان الرئيس عرفات بصدد الإعداد لعمل سياسي ينقل منظمة التحرير من منظمة قتالية فقط إلى منظمة سياسية شريكة في تقرير مصير بلادها. كانت فيتنام يومذاك خرجت مترنّحة من حجم الدمار التي نتج من حروبها الطويلة ضد المستعمرين. أصبح الشخص الأشهر في فيتنام بعد القائد التاريخي «هوشه منه» الذي توفي، هو الجنرال الفيتنامي «جياب» الذي هزم الفرنسيين والأميركيين، والذي كان صيته عمّ الكرة الأرضية. كان الرئيس عرفات متشوّقاً لمقابلة تلك الشخصية الفذّة وكذلك كان أعضاء الوفد الفلسطيني بمن فيهم الرئيس الحالي محمود عباس وفق ما أذكر. جلسنا جميعاً في الوقت المحدد الذي نقله السفير الفلسطيني في فيتنام لزيارة الجنرال الذي كان ترك منصبه وأحيل للتقاعد. دخل القاعة في بيت الضيافة الرسمي شخص قصير القامة يلبس قميصاً بنصف أكمام، وخلفه شخص آخر عرفنا بعد قليل أنه المترجم. قفز الرئيس عرفات عندما أعلن المترجم هوية المقبل وعانقه وأشبعه قُبلاً كعادته المعروفة، بينما كان الرجل يجاهد بأدب شديد ليتخلص من قبضة الرئيس عرفات وعناقه. تحلّقنا حول الجنرال الذي بقي صامتاً يسمع الترجمة لحديث الرئيس عرفات ويهز رأسه باستمرار من دون أي تعبير عن أي مشاعر. تحدث الرئيس عن تقدير شعبنا وشعوب العالم لنضال الشعب الفيتنامي الطويل لتحقيق حرية فيتنام ووحدتها، وعن الظلم الذي وقع على شعبنا، وعن المقاومة الفلسطينية وقوتها، وعن عزم شعبنا على استرجاع حقوقه، وعن المؤامرات الإسرائيلية - الأميركية، وطلب الرئيس عرفات من الجنرال رأيه ونصائحه. مرت فترة من الصمت قبل أن يبتسم الجنرال جياب ويقول بصوت خافت وببطء شديد: «أيها الرفيق عرفات إذا كنت تريد حقيقة تحرير فلسطين فيجب عليك أن تكون في فلسطين» ولم يزد على ذلك سوى ببضع كلمات المجاملة والشكر لمقابلة الرئيس عرفات وترحيبه. مرّت من عمري سنوات كثيرة قبل أن أفهم وأُدرك ما قصدَه الجنرال. يذكّرني ذلك بما حصل في اللقاء الأول للرئيس الراحل مع زعيم الاتحاد السوفياتي ليونيد بريجنيف. أخبرني الأخ باسل عقل الذي رافق الرئيس عرفات إلى ذلك اللقاء أن أول ما قاله الرئيس السوفياتي على لسان مترجم للرئيس عرفات بعد تبادل العناق والمجاملات، «أيها الرفيق عرفات متى ستعترف بإسرائيل؟».

 

خلال السنوات الست التي تلت عودة الرئيس عرفات إلى لأراضي الفلسطينية عام 1994، وبتأثير الآلة الإعلامية الهائلة لمعسكر الرفض الفلسطيني والعربي، الذي انضم إليه قطاع من مسؤولي السلطة الفلسطينية وحركة «فتح» وأجنحتها العسكرية، وحركة «حماس»، ومنظمات وفصائل فلسطينية، وأرتال من السياسيين والمفكرين والمحللين الفلسطينيين والعرب، وفضائيات رسمية وغير رسمية تقودها فضائية معروفة، صاحبة الريادة في هذا المنهج المبرمج منذ إنشائها، تم تعميق الشرخ الفلسطيني وتبيان الواقع على أنه صراع بين طرفين فلسطينيين أحدهما يضم منظمات وأفراداً شرفاء وأمناء ومقاتلين ومجاهدين لا يبتغون إلّا تحرير فلسطين، وبين سلطة وطنية خائنة وعميلة تقتل وتسجن المجاهدين الفلسطينيين نيابة عن إسرائيل، وتتمادى في السير على طريق ممارساتها السابقة في حانات ومواخير العواصم العربية. ساد مفهوم بأن مرحلة المفاوضات لم تحقق شيئاً البتة، واختلطت مخططات الرئيس عرفات في التصعيد المحسوب كوسيلة لتسريع المفاوضات، والضغط باتجاه تطبيق أفضل وأسرع للمبادئ والأسس التي قامت عليها عملية السلام، بمخططات مضادة ومشتركة ربما بلا قصد، فلسطينية وبعض عربية، وإسرائيلية أيضاً، تسعى إلى رفض عملية السلام بالكامل.

 

ابتدأت خمسة أعوام من مواجهات دموية مع الاحتلال الإسرائيلي العسكري وقوات المستوطنين المسلّحين، قدّم فيها الفلسطينيون جميعاً أغلى التضحيات في الأرواح والممتلكات، وعانوا من العسف الذي عكس الاستراتيجية الإسرائيلية الدائمة للجوء إلى الحل العسكري كسبيل أنجع لعلاج مشكلاتها مع الفلسطينيين وجيرانها العرب. مرة أخرى استطاعت إسرائيل أن تفرض عبر التفوق العسكري والأساليب العنيفة أمراً واقعاً جديداً، فقد أنهت الانتفاضة تماماً بإعادة احتلال معظم الأراضي التي استرجعها الفلسطينيون بالمفاوضات، وقطّعت أوصال الاتصال بين المدن والقرى الفلسطينية في الضفة الغربية، وأحكمت قبضتها على تنقل الفلسطينيين عبر المعابر الدولية، وفصلت نهائياً بين قطاع غزة والضفة الغربية، وأتمت بناء الجدار العازل الذي أطاح نهائيّاً أي أمل لإقامة دولة فلسطينية متصلة وقابلة للحياة. وفي السنوات التي تلت، أكمل الفلسطينيون أنفسهم تلك المخططات الإسرائيلية بإعلان حرب دموية ورسمية بينهم للصراع حول ما تبقى من فتات.

 

إن حماية الوجود الفلسطيني تتطلب من السلطة الوطنية الفلسطينية والأحزاب والفصائل، مساعدة المواطنين الفلسطينيين ودعمهم للصمود والاستمرار أمنياً واقتصادياً ومجتمعياً، واحترام السلطة الفلسطينية لحقوقهم وحرياتهم وكرامتهم وحقّهم في العمل والتعلّم والمعارضة السلمية وإبداء الرأي، وتسخير أجهزة السلطة الوطنية والقيادات المحلية والبلدية وإمكاناتها لخدمة هذا الهدف. تتطلب هذه المهمة أيضاً وأكثر أولوية منع إسرائيل من الاستفادة شعبياً ودولياً نتيجة لبعض قراراتنا وتصرفاتنا وأعمالنا التي تساعدها وتدعم تأييدها من جانب الدول الأجنبية والرأي العام الدولي في الاستيلاء على أرضنا وتهجير شعبنا. لم نعد في حاجة كفلسطينيين إلى إثبات غضبنا ورفضنا، فتاريخنا مفعم ينطق بتصدّينا بصدورنا المشرعة للممارسات الوحشية ضد شعبنا، وتضحياتنا بدماء عزيزة وغالية يعرفها العالم ويشعر بها ويقدّرها ويتعاطف معها. إن الطريق الأسهل والأكثر استعمالاً من جانب الاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني لمصادرة أرضنا وتهديم بيوتنا وقتل شبابنا وفتياتنا واعتقال مناضلينا ونشر حواجزه الأمنية وفرض حصاره على مدننا وقرانا هو استغلال بعض أعمالنا التي لم تثبت لنا نجاحاً ولا أعطتنا أرضاً ولم تكن لجميعنا منهجاً أو وسيلة دائمة.

 

ضرورة المصارحة ونقد الذات

 

الصراحة ونقد الذات بطبيعتهما تجرحان وتؤلمان دائماً، لكن الأمانة للشعب ومسيرة النضال وشرف القضية والهدف تحتّم الصدق والمصارحة. لقد قام مناضلونا في بداية الثورة الفلسطينية الحديثة في أواسط ستينات القرن الماضي بالكثير من عمليات قتالية وعدة محاولات لخطف الطائرات في وقت لم يكن العالم يعرف من نحن، ولماذا نضحّي ونُقتل ونقتل. كان ذلك ثمناً يجب أن ندفعه بسلبياته وإيجابياته «لنقرع الجرس» كما عبّر الكاتب الفلسطيني المبدع الشهيد غسان كنفاني. وخلال مسيرة طويلة قرعنا أجراساً كثيرة، ليس بأيدينا ولكن بدمائنا وعذابنا، وكذلك فعلت كل حركات التحرير في تاريخ العالم. واليوم وبعد أكثر من نصف قرن من الزمن أصبحنا جزءاً من ضمير العالم وذاكرته وواقعاً على الأرض لا يمكن أحداً، حتى إسرائيل، إنكاره أو تجاهله.

 

في كل عملية انتحارية تمّت، ونتيجة مباشرة لها، كان جيش إسرائيل يقتل من الفلسطينيين المدنيين بدم بارد أربعة أو خمسة أضعاف قتلاها، تقليد جرت عليه إسرائيل منذ إنشائها، وتعتقل المئات، وتهدم بيوتا، وتصادر أراضي، وتبني أو توسّع مستوطنات، وتسيطر على أراضي القرى الفلسطينية ببناء جدار الفصل عليها، وتوسّع من دائرة أعداد الجانب المتطرف في إسرائيل ونفوذه، وتساهم في وصوله إلى سدة الحكم، وتفتح المسرح لدخول وتدخّل الجيش الإسرائيلي صاحب الريادة في الحسم العسكري، ثم تتربّص إسرائيل بانتظار شبق لعملية انتحارية أخرى. كفل ذلك القضاء التام على الانتفاضة وعلى اتفاق أوسلو أيضاً، والتخلص من الرئيس عرفات والشيخ أحمد ياسين والقائد أبو علي مصطفى وكوكبة مباركة من قيادات الشعب الفلسطيني وفصائله وأحزابه. كذلك، تم في وقت لاحق في ما سماه بعضهم «هبة السكاكين» التي اندلعت وتناقصت وستنتهي، من دون أن يعرف أحد إنجازاتها وكيف بدأت ولماذا توقفت.

 

سيتحتّم في الفترة الحالية والقريبة نسبياً على كل القيادات الفلسطينية، بخاصة حركتي «فتح» و «حماس»، مجابهة تحديات صعبة ومهمات تاريخية ستترك آثارها على مستقبل القضية الفلسطينية ومصير الشعب الفلسطيني، لقد حان وقت القرارات الجريئة والمؤلمة ونحن اليوم في منعطف خطير لن يساعد في الخروج منه استعمال الأساليب والتبريرات التي درجنا عليه، بخاصة في العقد الماضي.