الحدث- علاء صبيحات
كنت صغيرا يومذاك ولم أفهم تلك المعادلات المختلطة ولا أدري من أين جاء هؤلاء إلى قريتنا التي تبعد عن مدينة جنين 15 كيلومترا، أذكر يومها أن سماعات مسجد القرية الكبير فُتحت بصوت أجشّ تطلب من أهل قرية رمانة (قريتي) أن يُحضروا ما يزيد عن حاجاتهم من لباس وفراش إلى المسجد للضرورة القصوى.
كان ذلك في ساعة متأخرة من الليل فطلبت مني أمي أن أخرج من المنزل- على غير العادة- في هذا الوقت المتأخر حاملا معي بضع أغطية وقليلا من الثياب الرجّالي إلى المسجد وأنا حين طلب من ذلك صرت أتململ من هذا الطلب القاسي إذ كنت سأنام حينها ولم أعتد الخروج من المنزل في مثل هذا الوقت خاصة أن الأوضاع الأمنية في الضفة كانت في قمة اشتعالها وكنت كل ما أعرفه عن هذه الاوضاع الأمنية أن هناك عدوانا يدور على أبواب المخيم.
لم أدري أبدا ما معنى ذلك العدوان حتى أنني كنت أعتقد أن الوضع الطبيعي للحياة هي أن تكون ساحة حرب واغتيالات ومشاهد المسلحين و"جيبّات الجيش" فلم أرى في وقتها واقعا غيره.
ذهبت إلى المسجد حاملا ما حمّلتني إياه والدتي على مضض... رأيت هناك شبانا ومسنّين غرباء عن القرية يجلسون عراة أو نصف عراة في قلب المسجد...هنا خطرت لي عدة أفكار رهيبة أولها كيف يهتكون حرمات الله بالدخول عراة إلى بيت الله؟ والثاني هو لماذا هم عراة أصلا في ليلية شتوية الملامح؟ وثالثا من هم هؤلاء؟ ولماذا هم كثر؟ ومن أين جاؤوا؟ هل هم جنود للاحتلال يريدون أن يغتصبوا ثيابنا؟.
لحظات وبدأت الجموع تتزاحم هذا يحمل خبزا وهذا طعاما وهذا ثياب وهذا علبا من السجائر وهذا أحذية...لم أفهم شيئا ولم أسمع أكثر من كلمات (الله بعين) و (المخيم) و (بسيطة)، بدأت إشاعة تسري بين الحضور أن هؤلاء من مخيم جنين بالطبع اعتبرتها إشاعة كاذبة..فلو أنهم من المخيم فلماذا خرجوا منه؟ ولماذا خرجوا أحياء؟ ولماذا لا يقاومون هناك؟.
ساق القدر لقريتنا الفقيرة الضالة في غرب المدينة المشهورة (جنين) أن تكون الحاضنة لأبناء المخيم المدنيين العزّل الذين أخرجوا من ديارهم إكراها وتحت تهديدات بالقتل إن لم يخرجوا من بيوتهم، لينتقلوا لمعسكر سالم التابع للاحتلال الذي خرجت منه كل الكتائب والمجنزرات والدبابات والجرافات والطائرات والجنود والجنون والحقد على مخيم جنين وأهله والذي لا يبعد عن قريتنا (أي حاجز سالم العسكري) بل حتى أنه يقام على أراضيها.
بعد أن تم اعتقال أهل المخيم جميعا تمهيدا لهدمه ونقلهم إلى هذا المعسكر المشؤوم ليتم التحقق من كون أحدهم مطلوبا أو بحجة ذلك والحقيقة كانت شيئا آخر وهي التنكيل بهم، كان تنكيلا مدروسا بلا أدنى شك فالاحتلال كعادته مهندس في رسم تكتيكات الإذلال والإهانة...فقد تم تغميم وجوههم وأمرِهم بقلع ثيابهم وتكبيل أيديهم خلف ظهورهم وأمرِهم بالتحرك حفاة عراة من حاجز سالم حتى قريتنا لأكثر من كيلومترين ملأى بشتاء الرب وسُعار الجنود والضباط.
تعرفت في تلك الفترة التي امتدت طوال فترة المعركة في المخيم على الصحافة والوفود الأجانب...حتى أن أحد أقاربي أصبح صديقا لوليد العمري مراسل قناة الجزيرة في قريتنا آنذاك، وصرت أرى حارات القرية وأصدقائي وأبناء عمومتي على شاشات التلفاز وكانت قناة الجزيرة التي كنت لا أعرف غيرها وقتذاك لا تخرج من قريتنا أبدا.
مع مرور الساعات صرت أكثر ثقافة بما يجري في العالم من حولي بل وصرنا نحن الأطفال حينها نتناقش في السياسة ونعرف أنواع الطائرات التي تحلق في سماء قريتنا من الأباتشي والكوبرا والـ إف 16.
حتى أننا كنا نعرف إن كانت تستطلع فقط أم أنها قادمة من أجل القصف، كنا نسمع صوت أزيز الدبابات على الشارع الرئيسي للقرية (شارع حيفا) الذي من المفترض أن يربط مدينة جنين بمدينة حيفا لكن حاجزا ونكبة فصلته من منتصفه لتقع قريتنا على آخره في الغرب الجنوبي للشارع والشمال الغربي للمدينة.
نشأت حملة لتنظيم وترتيب الأولويات بقيادة أفراد ذوي شان من مخيم جنين وتم توزيع أبناء المخيم على منازل القرية ومساجدها وقد كان في منزلنا وقتها عدد هائل من البشر يتجاوز الـ40 ما بين أسرتي وأقرابئنا الذين يسكنون في المخيم وأصدقاء الأسرة من أهل المخيم.
كانت تصلنا الأخبار أولا بأول ولا أدري ما مصدرها لكنها كانت صادقة في الغالب ما بين عملية تفجير لمدرعة أو مقتل عدد من الجنود أو زيارة شارون لمحيط المخيم أو اغتيال أحد المقاومين في المعركة، لكن الدهشة الفعلية كانت عندما زرت المخيم بعد أن انتهت أحداثه بيومين أو أكثر وكانت لا تزال رائحة البارود عالقة في كل مكان
كانت ذكريات لن تنسى لأن غالبية من سكنوا في بيتنا وقتها جمعتنا بهم علاقات طيبة حتى بعد أن انتهت المعركة ...ومنهم من قد مشيت في جنازته بعد استشهاده.