الجمعة  03 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

أزرق .. أزرق.. بقلم: طارق عسراوي

حكاية العدد

2017-05-08 11:33:26 PM
أزرق .. أزرق.. بقلم: طارق عسراوي

في اليوم الواحد والعشرين من أيام الإضراب وعند التاسعة ليلاً ؛ التقينا في بيتٍ قديم على طرَفِ المدينة. كنّا ثمانية أصدقاء، جمّعتنا أيامنا السالفة، وكما يقول صديقنا ساخراً " طول عمرنا حمولة سيارتين " نهرب من مأساة الحياة، ونلتقي في فضاء ملهاتها، بين فترة وأخرى.

 

مساءً، اتّصل أحدنا بالآخر، واجتمعنا في ذلك البيت المهجور؛ أشعلنا ناراً، وبذَرنا حولها ذكرياتنا ونكاتنا الساخرة، وغنَّينا بنشازٍ مزعجٍ، ولم تكن أغنياتنا جاهزة، فنحن، عدا القدود الحلبيّة، لا نغنّي سوى أغنيات وليدة اللحظة، فما من أحدٍ منّا يعجز عن توليف جملة موسيقية مباغتة أو جارحة.

 

بعد انتصاف الليل، خَمد الموقد، وإذا به يلقي بفكرةٍ مُتّقدة: هيا نذهب إلى البحر الميت!

 

- البحر الميت! الآن !!

 

صعدنا السيارتين، وانطلقنا صوب بحر ميت في أخفض بقعة على وجه الأرض لعلّه يُحيينا من تعب المدينة، ونغسل بملحه ما علق برئاتنا من عوادم وغبار اسمنتية.

 

ربما كانت الثالثة فجراً حين توقّفت السيارتان في أرضٍ فارغة، مشاطئة للبحر الميت.

 

مقاعد خشبيّة، شجيرات شاحبة، نبتت في ملحِ عَطِش. بحرٌ يخفي الليل زُرقتهُ الرميّة، وفِي الجهة المقابلة تتلألأ أنوارُ الفنادقِ الباذخة على صفحة الماء الداكنة.

 

بين المقاعد التي انتشرنا فوقها، انتصبت ساريةٌ، بدَت مثل رمحٍ انغرز بين عينيّ صديقنا، الذي انخطفَ، مقطّباً حاجبيه .. وكان يحدّق في ألوان هزيمتنا!

 

- يستفزّني اللون الأزرق، قال، وأمقته ..

الأزرق في هذا العَلَم المقيت !! 

 

والأزرقُ فوق مركبات البوليس !!

وزُرقة الموت والوجه المخنوق !!

 

حتى أنَّ زُرقةَ السماء بعيدة المنال .

وإنَّ اشتهائي للأزرق المتوسّط، خلف الجدار، يوجعني!

 

وحين سار صوب السارية .. وهزّها، أصابنا بالذهول والانكسار، إذ كان يزمجر مثل ضبع مجروح: ملعونٌ هذا الأزرق!

 

وظلّ يهزّ السارية، ويحاول تسلّقها، حتى أنزل العَلم عنها، وأطلقَ ضحكته التي انسربت في ملوحة البحر الميّت أسماكاً ملوّنة .. رغم إدراكه أنّ انتصاره الصغير على الأزرق لن يزيل اللون من أيامه التالية، وأن ملوحة الماء في البحر الميّت سوف تفتك بأسماك ضحكته المشروخة.

 

ليس مفاجئاً أن أخبركم؛ بأن ضحكته التي حملت كل الألوان كان الأزرق فيها داكنا.

 

كان قد طمر العلم في حفرة صغيرة حين أشرقت الشمس في ذلك الصباح على أخفض بقعة في هذا الكون، ونحن ندورُ حَوْلَه نرددُ: " أزرق .. أزرق  ".

 

وهو يغني :

" شو هُوِّ اللون الملعون

موت وجوع وليل سجون

إسّا دفنته بقاع الكون؟ "